مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أهميّةُ علم العروض في تحقيق النص الشعريّ

إن علوم الآلة لا غنى عنها، وإن التمكن منها لزامٌ على كل من تتوق نفسُه إلى تحقيق النُّصوص، وإلى خدمةِ المكتبة التراثية النفيسة التي خلّفها سلفنا الأخيار، وعلماؤنا الصّفوةُ الأبرار، فلا يصلح لهذه المهمّة من كانتْ بضاعته الآليّة مزجاةً، ولا يليقُ بمن كان جاهلا بالنحو ونحوهِ أن يُقدم على الكتابةِ ناهيك عن التحقيق.
وإنَّ من أهمِّ علوم الآلة وأولاها بالحرصِ والعنايةِ علمَ العروض، فهوَ الآلة التي يعرف بها صحة أَوزان الشعرِ، والوسيلةُ إلى التمييز بين صحيحها ومكسورها، كما يعين هذا العلمُ المحقِّقَ على ضبط الأشعار العربيّة ضبطاً محكما دون زيادةٍ أو نقصانٍ، لأَنَّ مخترعهُ الخليل بن أحمد الفراهيديَّ – رحمه الله تعالى – إنَّمَا وضعَهُ «لئلّا يخرج خارجٌ عن الوزن، كما حُظِرَ بالنَّحو كلامُ العربِ لئلّا يعدل النّاس إلى اللّحن(1) ». قال الصاحب ابن عباد –رحمه الله تعالى -: «العروض ميزان الشعر، بها يعرف مكسوره من موزونه، كما أن النحو معيار الكلام به يعرف مُعربه من ملحونه(2)  »، ورحم الله ابن عبد ربّه حين قال (3): [من الرجز]

إن علوم الآلة لا غنى عنها، وإن التمكن منها لزامٌ على كل من تتوق نفسُه إلى تحقيق النُّصوص، وإلى خدمةِ المكتبة التراثية النفيسة التي خلّفها سلفنا الأخيار، وعلماؤنا الصّفوةُ الأبرار، فلا يصلح لهذه المهمّة من كانتْ بضاعته الآليّة مزجاةً، ولا يليقُ بمن كان جاهلا بالنحو ونحوهِ أن يُقدم على الكتابةِ ناهيك عن التحقيق.

وإنَّ من أهمِّ علوم الآلة وأولاها بالحرصِ والعنايةِ علمَ العروض، فهوَ الآلة التي يعرف بها صحة أَوزان الشعرِ، والوسيلةُ إلى التمييز بين صحيحها ومكسورها، كما يعين هذا العلمُ المحقِّقَ على ضبط الأشعار العربيّة ضبطاً محكما دون زيادةٍ أو نقصانٍ، لأَنَّ مخترعهُ الخليل بن أحمد الفراهيديَّ – رحمه الله تعالى – إنَّمَا وضعَهُ «لئلّا يخرج خارجٌ عن الوزن، كما حُظِرَ بالنَّحو كلامُ العربِ لئلّا يعدل النّاس إلى اللّحن(1) ». قال الصاحب ابن عباد –رحمه الله تعالى -: «العروض ميزان الشعر، بها يعرف مكسوره من موزونه، كما أن النحو معيار الكلام به يعرف مُعربه من ملحونه(2)  »، ورحم الله ابن عبد ربّه حين قال (3): [من الرجز]

فدَاوِ بِالإعرابِ وَالعَرُوضِ  ///   دَاءَك في الإملاءِ وَالقَرِيضِ

كلاهُمَا طِبٌّ لِداءِ الشِّعْرِ   ///   وَاللّفظِ منْ لحنٍ بِهِ وَكَسْرِ

ولئن كان من الممكنِ الاجتزاءُ بالنّحو في ضبط النصِّ النّثريِّ وقراءتهِ قراءةً صحيحةً فإنّ الأمر ليس كذلك في النصّ الشعريّ؛ لأنَّ ضبطهُ مفتقرٌ إلى علم العروضِ فضلا عن علمِ النّحو؛ إذ لا يستطيعُ من ليس له حظٌّ من هذا العلم التمييز بين البيت الصحيح والبيت المكسور، بل قد يزيد فيه أو ينقص ولا يشعر، لاسيما أن مقتضَى القياس النحويّ والصرفيّ قَد يُضرَبُ عنهُ لمخالفتهِ القياسَ العروضيّ الذي يَتحكم في ضبط البيتِ الشعريِّ. وفي هذا البابِ يندرجُ كثيرٌ من الضرورات الشعرية.

وإلى ذلك فقد يكونُ للكلمة ضبطان أو لغتانِ أو أكثر كرُسُلٍ ورُسْلٍ، وأُفُقٍ وأُفْقٍ، وَجَمَعْتُ وجَمَّعْتُ………. فَيَرْجَحُ ضبطٌ على آخر لوِفاقِه الوزنَ، وَيكون ضبطُ الكلمة بغيرهِ مؤدّياً إمَّا إلى انكسارٍ فيه، وإمَّا إلى زِحافٍ يمكن الاستغناء عنه، كقول الشاعر أحمد شوقي – رحمه الله –:[من البسيط]

قالوا: غَزَوتَ وَرُسْلُ اللهِ ما بُعِثوا   ///   لِقَتلِ نَفسٍ وَلا جاؤوا لِسَفكِ دَمِ

جَهلٌ وَتَضليلُ أَحلامٍ وَسَفسَطَةٌ   ///   فَتَحتَ بِالسَّيفِ بَعدَ الفَتحِ بِالقَلَمِ

فقوله: «ورُسْلُ الله» ينضبط بتسكين السين، فإذا حركتها وقلت:«رُسُل الله» انكسر الوزن!

وكقول الأحوص :(4)

وَجُمِّعْتَ مِنْ أَشياءَ شتَّى خبيثةٍ   ///   فَسمِّيتَ لَمَّا جِئْتَ مِنْهَا مُجَمِّعَا

فقوله:«وَجُمِّعْتَ»، إذا خفَّفتَ الميم انكسر الوزن!

أهمية علم العروض:

وقد أشاد أبو الحسن العروضيُّ [ت:342]– رحمه الله تعالى – بفضل العروض وأهميّته، وبالغ في التنويه بشرفه ونباهتهِ، كما شنّع على من ينالون من رفعته، ويضعون من قدره ومكانته، فعقدَ باباً سمّاهُ «باب الحضِّ على تعلم علم العروض وما فيه من الفضل الذي يجهله كثير من الناس»، واستهلَّه بقوله: «اعلمْ أن علم العروض ينفع منفعةً ليست باليسيرة… (5)  »، ثم طفق يحاجُّ الذين يستبردونَه ويستخفونَ به، فقال:«ومن الناس من يزعم أن العروض إنما يراد لأن يقول صاحبه الشعر فقط، وإن من قال الشعر بطباعه فقد استغنى عن العروض! وليس الأمر كذلك؛ لأن صاحب العروض وإن قال الشعر وعلم كيف وضع الكلام ورصفه فلعمري إنه قد سلك طريقا يعرفه ووضع الكلام موضعه، ولكن إنما يراد بالعروض معرفة الأوزان أهي صحيحة أم مكسورة، ومن أي صنف هي. فإن قوما رأيتهم كثيرا ما ينشدون البيت المكسور فلا يحسون بموضع الانكسار منه، وهم عند لقاء بعضهم علماء بالشعر ورواة له ومعادن من معادنه، وهم مع ذلك يطعنون في العروض، ولو علموا ما هم عليه من الخطإ بجهله لسارعوا إلى علمه؛ إذ كان قبيحا بالرجل العالم المتقدم في صناعته أن يذهب عنه منها ما إذا وقفَ عليه كان منه خجلا، ومن ذكره مستوحشا وجلا. ولقد أنشدني رجل من العلماء بالشعر المتقدمين فيه الحذاق بمعانيه بيتا يستشنع إنشاده من مثله وقفت منه على زلله وقبح خطله، وأما هو فما شعر بذلك، ولعله يفعل ذلك كثيرا ولا يدري مواقع الخطإ من الصواب(6)  ».

وقد أورد – رحمه الله تعالى – في كتابه أمثلة ناصعة وحججا قوية تدل على رفعة هذا العلم، وذكر الكَلَفَ الذي يشين وجه الجاهل به، فقال:«وخبرت عن شيخ من مشايخ أهل العلم والرواية، وكانت له حلقة في المسجد الجامع بالرصافة أنه أنشد بيت امرئ القيس:

ألا إنني بال على جمل بالي  ///  يقود بنا بال ويتبعنا بال ويحدو بنا بالي

فجعل «الطويل» على عشرة أجزاءٍ. وهذا شيء ما قاله عربي ولا أنشده أعجمي، فأي هجنةٍ أقبح على الإنسان من هذه الهجنة، وبكمُ الخرس أحسن من النطق بمثل هذا. ولعل هذا الرجل لو علم قبح ما أتى لطالت حسرته إذ كان في تقدمه ورئاسته عند نفسه وأصحابه يأتي بمثل هذا (7)».

ثم قال: «ولعل جماعة هم عند أنفسهم علماء فهم يسمعون هذا وأشباهه فلا يفطنون ولا يحسون بانكساره ولا زيادته ولا نقصانه وهم في خلال ذلك يطعنون على علم العروض وعلى أهله ويضحكون من مسائلهم ويهزؤون من أبياتهم، يزعمون أن الاشتغال بذلك جهل عندهم ولو علموا ما هم عليه من الجهل وطول الغفلة لسلكوا طريقا يرشدهم إلى الهداية (8)».

إلى أن قال:«فإذا كان القوم الذين ذكرناهم متقدمين في العلم وجمعِه والأخذ بالحظ منه، وبعضهم يزيد في البيت، وبعضهم ينقص منه، وبعضهم يجعل الكلام شعراً، فكيف بغيرهم من الناس الذين لا يحلون محلَّهم ولا يسلكون طريقهم (9)».

من فوائد علم العروض وثمراتهِ:

ويمكنُ أن نلخص فوائد علم العروض في ما يأتي، مستأنسا بأمثلة ذكرها الشيخ أبو الحسن العروضي – رحمه الله تعالى -:

– الأمنُ من الزيادة في البيت:

فمثال زيادة الحركة ما ذكر أبو الحسن – رحمه الله – في كتابه أن رجلًا ممن له رغبة في العلم، كثيرَ الكتب شديدَ العناية بالضبط والتصحيح شكلَ بيتا من السريع موقوف الآخِر فخفضه ونونه، وهو قوله:

[ما دامَ مخٌّ في سلامَى أو عينْ]

فقال: «أو عينٍ»، قال أبو الحسن: «وهذا لا يجوز تحريكه البتةَ، وهو الذي يسمى المترادف لاجتماع الساكنين في آخره (10)».

ومثال زيادة الحرف ما ذكره أبو الحسن – رحمه الله – أن شيخا من مشايخ أهل العلم أنشد بيت لبيد بن ربيعة:

يلمس الأحلاس في منزله   ///   بيديه كاليهودي المصلْ

فشدد اللام «المصلِّ» وهي مخففة في هذا الموضع (11).

ومثال زيادة الكلمة فأكثر بيت امرئ القيس السابق ذكره:[من الطويل]

ألا إنني بال على جمل بالي    ///    يقود بنا بال ويتبعنا بال [ويحدو بنا بالي]

حيث زاد مُنشده «[ويحدو بنا بالي»، وهو لا يفطنُ!

– الأمنُ من النقص:

فمثال نقص الكلمة ما حُكيَ لأبي الحسن – رحمه الله تعالى – أنه مرَّ في مجلسِ إملاءٍ قول الشاعر:[المتقارب]

أمن أمِّ طلحةَ طَيْفٌ أَلَمْ   ///   وَنحنُ بالاَجزاعِ مِن ذِي سَلَمْ

وبعده:

وفيهَا عصيت الألى فندوا   ///   وكلُّ فصيحٍ بها مُتَّهَمْ

قال المخبرُ لأبي الحسن:«فرأيت بعض من كان في المجلس قد كتب «وفيها» منفردا عن الشعر، وجعل أول البيت «عصيت الألى فندوا» فظنَّ أن قوله: «وفيها» وفي هذه القصيدة!  (12)».

– الأمنُ من الخلط بين الشعر والنثر:

فقد يكتب الكلام المنثور كما يكتب الشعر، وقد يكتب هذا كما يكتب الأول دون أن يشعر بذلك، ومن أمثلته ما ذكر أبو الحسن – رحمه الله -: «ورأيت أيضا بخط رجل قد كتب بيده كتبا كثيرة وهو أيضا ممن له نبه في الشكل والضبط قد كتب كلاما منثورا ظن أنه شعر متزن ، فأخرجه من الكلام وأجراه كما يفعل بالبيت من الشعر ليفصل بينه وبين الكلام، وهو كلام ليحيى بن يعمر قاله لرجل نازعته امرأة عنده فقال له :

أإن سألتك ثمن شَكْرها وشَبْرها أنشأت تطلها وتضهلها ؟

فظن هذا الرجل أن هذا الكلام بيت من الشعر فكتبه في كتابه على هذه الصورة التي كتبناها (13)».

وهذه النصوص كلها برهان قاطع ودليل ساطع على أن علم العروض هو المعيار في ضبط الأشعار، ورحم الله أبا الحسن حين قال:«ولا أحصي من الأبيات ما وجدته غُفلاً غير مضبوط ولا مشكول، ولم يكن لي فيه سماع ، فاستخرجته في العروض (14)»

خاتمة

فهذه السطور غيض من فيضٍ، وطرف من الأهمية التي في علم العروض، وضرورة شد الإزار لمعرفته وإتقانه، لاسيما المشتغلين في فن التحقيق؛ إذ لا يكاد يخلو كتاب من نصوصٍ شعريةٍ، وأما ما يشاع من صعوبته وكثرة مصطلحاته والذي صرف ثلة من الناشئة عن النظر فيه فأقول فيه – وبه أختم – ما قال الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي – رحمه الله تعالى -:«وليس العروض علما صعبا عسرا طلابه، كما يلهج به أهل زماننا، وكما يكتبه بعض زملائنا الجامعيين في مقدمات تآليفهم وتحقيقاتهم العروضية، وإني لأعجب لهم، كيف يصعِّبون علما ثم يطلبون إلى تلاميذهم معرفته؟ أتبغِّض إليَّ طعاما ثم تدعوني إلى أكله؟ (15)»

ثم قال:«العروض علم شأنه شأن سائر العلوم، لا بد أن يؤخذ له أخذه، ويُتلقى بالجدّ والصرامة، وليس العروض بأشق من علم مثل الصرف، أو القراءات (رواية ودراية)، أو أصول الفقه. فما كانت صعوبة مثل هذه العلوم صارفة بعض خلق الله عن إتقانها وبلوغ الغاية فيها، ورحم الله المشايخ الكبار الذين أدركناهم وقبسنا منهم شيئا: محمد علي النجار، وسيدنا الشيخ عامر السيد عثمان، وعلي حسب الله، ومحمد أبو زهرة، وعبد السلام هارون…، ولكنها عزائم الرجال وصلاح الأزمان، والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم(16)  ».

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1. الجامع في العروض والقوافي (ص:45)

2. الإقناع (ص:3)

3. العقد الفريد (6/276-277).

4. شعر الأحوص الأنصاري (ص:193).

5. الجامع في العروض والقوافي (ص:35)

6. المصدر السابق (ص:35)

7. المصدر السابق(ص:37)

8. المصدر السابق(ص:37)

9. المصدر السابق(ص:41)

10. المصدر السابق(ص:38)

11. المصدر السابق(ص:36)

12. المصدر السابق(ص:42)

13. المصدر السابق(ص:41)

14. المصدر السابق(ص:39)

15. في اللغة والأدب – دراسات وبحوث -(1/177)

16. المصدر السابق (1/177-178)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق