وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

العقلانية الأخلاقية لدى طه عبد الرحمن

1. من تجديد العمل الديني إلى سؤال الأخلاق

تشكل الأخلاق مرجعية ضابطة لحدود مشروع طه عبد الرحمن إلى درجة أن المقولات الأخلاقية، إبداعا ونقدا وتجديدا، تخترق مشروعه كله. ويعسر أن تجد كتابا لطه أو دراسة إلا وفيها إشارة إلى الارتباط الوثيق بين الأخلاق وبقية القطاعات العلمية المتعددة التي يشتغل فيها طه. لهذا اعتبرنا الإمساك بخيوط النظرية الأخلاقية في مشروع طه عملا ضروريا لفهم مباحثه الفلسفية والمنهجية الخاصة بقضايا المعرفة والعلوم، وأشكال التواصل والتداخل والتكامل بينها، كما أن البحث يساعدنا على الوقوف على البعد الإنساني في الفكر الإسلامي المعاصر، هذا البعد المتمركز حول الله، والمستنير بتجلياته في الكون، في رحابة إيمان وتغلغل روحي عميق.

ويرتبط التصور الأخلاقي لطه عبد الرحمن بالتجربة الروحية التي لا تتعارض عنده أبدا مع المعرفة العقلية، بل إنها قد تكون سببا من أسباب إثراء هذه المعرفة والتغلغل فيها. إن التجربة الروحية، بنظر طه، تفعل في المعرفة العقلية أضعاف ما تفعله التجربة الحسية فيها، إن إغناء لقدراتها أو تنويعا لمراتبها أو تمديدا لأطرافها[1]. والتجربة الروحية، في الأخير، ليست إلا الدخول في تجربة حية تنال كلية الإنسان وتبلغ من القوة والرسوخ درجة تفوق قوة ورسوخ النمط المعرفي الموروث، بحيث تجُبُّ ما قبلها جبا، ولا تجربة بهذا الوصف الشمولي والجذري ممكنة ما لم تتعلق بذات الإنسان نفسها، وليس بفعل من أفعاله أو صفة من صفاته؛ لأن الذات هي التي تصدر عنها الأفعال صدور الآثار، كما تظهر منها الصفات ظهور التجليات[2].

ويكاد مشروع طه أن يكون ثمرة جناها من هذه التجربة الروحية الحية التي عاشها. كما خلص من هذه التجربة إلى تداخلية القوى الإدراكية للإنسان على اختلافها؛ فهي متصلة بعضها ببعض. ولم يعد طه مقتنعا بأن هناك قوة حسية خالصة وقوة عقلية خالصة وقوة روحية خالصة، بل في القوة الحسية بعض من العقل كما في القوة العقلية بعض من الروح وهكذا.. إن الاتصال بين مختلف القوى الإدراكية يثبت لنا أن التجربة الروحية مكملة للنظر العقلي وليست منقطعة عنه ولا بالأولى مفسدة له كما ساد عند الكثيرين من أصحاب النزعات المادية.

وألف طه كتاب “العمل الديني وتجديد العقل” ليثبت فيه خلاصات تجربته الروحية الحية التي ستنعكس على مشروعه العلمي في كل مستوياته. هذه الخلاصات التي تقوم على فكرة مركزية في الكتاب كما ستكون محورية في المشروع كله، وهي أن العقل ليس مرتبة واحدة وإنما مراتب متعددة بعضها أعقل من بعض؛ بحيث يكون أدناها عقلا ما كان موصولا بالرتبة الأخيرة من رتبة الحس؛ لأنه ما زال يحمل بعضا من خشونته وكثافته، ويكون أعقلها جميعا ما أشرف على الرتبة الأولى من رتب القوة الروحية؛ إذ يكون قد لاح له مطلع من رقتها ولطافتها انطبع به إن كثيرا أو قليلا[3]. ولو أن كتاب “العمل الديني وتجديد العقل” يقدم الأرضية الأخلاقية التي سيؤسس عليه طه مشروعه العلمي، إلاَّ أنه تقيد فيه بشروط التنسيق المنطقي على عادته في الكتابة والاستدلال.

لقد دفعت تداخلات الأخلاق والحس والعقل لدى طه إلى تعميق النظر في مستويات هذه التداخلات، ليستنتج بأن الأخلاق هي الميزة الإنسانية الأولى؛ أي التي يكون بها الإنسان إنسانا[4]، وأن قوة الخُلق وليست قوة العقل هي التي تميز الإنسان عن الحيوان[5]، بل إن وجود الإنسان ليس متقدما على وجود الأخلاق وإنما مصاحب لوجودها. ويستدعي هذا بنظر طه إنشاء نظرية أخلاقية يكون من أصولها مبدأ الجمع بين شروط الأخلاقية وشروط الإنسانية، فتتحقق عالمية الإنسان بالأخلاق، وتجنبه هذه الخاصية الأخلاقية كذلك خطر استرقاق العلم المادي للإنسان أو ما يسميه طه بـ”الاسترقاقية[6].”

والخاصية الأخلاقية التي تجعل أفق الإنسان مستقلا عن أفق البهيمية وتكون أصلا تتفرع عليه كل صفات الإنسان، بما فيها العقلانية، يجب أن تلج مستوى السلوك والممارسة. هذا ما جعل مقولة “العمل” أساسية أيضا في مشروع طه؛ حتى لا تكون الأخلاق عبارة عن نظر وتأمل مجردين وحسب. فالقيم العملية، بنظر طه، تقوم بتلقيح الممارسة العقلية وإخصابها؛ فتتوالد منها قوة تفتح لها آفاقا إدراكية جديدة. وعلى هذا الأساس انتقد طه الحضارة اليونانية والحضارة الغربية المعاصرة، وهي بنظره مجرد حضارة قول تقوم على مقولة “الإنسان حيوان ناطق” بخلاف الحضارة الإسلامية التي تنبني على مقولة “الإنسان حي عامل[7].” وعليه لابد من الخروج من الآفات الخلقية لحضارة القول التي أغرقتنا في طوفان من الأقوال وفي طوفان لفظي، من خلال الاستجابة للمقومات التداخلية للمجال التداولي الإسلامي العربي وهي الجمع بين المقال والسلوك. ولن يقوم بهذه الوظيفة التداخلية والتداولية بنظر طه إلاَّ التخلق المستند إلى التجربة الدينية المؤيدة التي يتعامل فيها المتخلق في الله ويشتغل بالله[8]. وتحقيقه لمستويات قصوى من العمل والشغل هو ما يقربه من الأصول المعرفية الإسلامية. ثم إن الاندفاع في القول يسبقه التحقق بالعمل لتحقيق مقولة “كلام تحته عمل”؛ لأن العبرة عند العامل بالشرع ليست بالأفكار المجردة بقدر ما هي بالثمار العملية التي تلازم هذه الأفكار أو تنتج عنها[9]، وتتجلى هذه الثمار في الانفتاح والتوسع والتعمق التي يصبح عليها عقل المتخلق.

هذا التصور العملي هو الذي جعل طه يربط بين المبدع وأثره الإبداعي، سواء كان فيلسوفا أو أديبا أو غيرهما[10]. ولعل الكتاب الأخير من مشروعه العلمي، السيرة الفلسفية، سيكون مجالا خصبا لبسط مقتضيات هذه الممارسة العملية في البحث الفلسفي. ولا نعدم في جل كتب طه الدعوة إلى التسديد العملي ودفع التجريد النظري والبعد المادي، وربط المعرفة بالشيء مع العمل بهذه المعرفة، والدعوة إلى “التحقق من الدلالات العملية للنصوص”، و”التخلق بالقيم المأخوذة منها”، ليكون القرب التداولي من المجال قربا عمليا وحاليا، لا قربا نظريا ومقاليا، وليكون الفهم فهما بالحضرة لا فهما بالفكرة، وشتان بين فهم مستنير بنور الاشتغال وفهم منقطع عن الاشتغال[11]؛ فالفهم المستنير بنور الاشتغال هو الذي يورث التخلق الحق، ويدعو إلى تحصيل معرفة اليقين، والموصل إلى المقاصد النافعة بعدما يتحول الفهم العملي إلى وسائل ناجعة.

وسيبرز النزوع العملي في تصور طه الأخلاقي والفلسفي في تصنيفه لمراتب العقول. ومنهج التراتبية مترسخ في مشروع طه؛ فالاستدلال مراتب، والأخلاق مراتب، كما العقول مراتب وهلمَّ جرا. فالفعل الخلقي الواحد، مثلا، ليس رتبة واحدة بنظر طه، بل هو رتب متعددة قد لا تقف عند حد؛ إذ قد يأتي الفرد الواحد فعلا معينا، تارة ينزل به رتبة وتارة ينزل به رتبة غيرها، حتى كأنه فعلان مختلفان. فهذا الفعل الخلقي، إذن، يتطرق إليه التدرج والتكميل؛ فالفعل الواحد يتدرج في نفسه باعتبار تكثره الداخلي؛ فيصير عبارة عن طبقات متفاوتة، فضلا عن تدرجه بالإضافة إلى غيره، ولكل طبقة من هذه الطبقات خلق يميزها عن غيرها[12].

وأما تراتبية العقول فقد توصل إليها طه انطلاقا من البحث المتعمق في الممارسة المعرفية الإسلامية، ليجدها مؤسسة على مبدأ إنساني عام هو “حقيقة التكامل الخلقي للإنسان“؛ ويظهر هذا التكامل في خلق الإنسان من جهة كونه، على اختلاف مظاهره وتعدد قدراته ووظائف أعضائه، ليس مجموعة من الأجزاء التي تقبل إيقاع الانفصال بينها وإيقاف التأثير بعضها في بعض، وإنما هو عبارة عن ذات واحدة تجتمع فيها مظاهر القوة مع مظاهر الضعف، كما تجتمع فيها صفات العقل مع صفات الوجدان وقيم الجسم مع قيم الروح، اجتماعا شرَّع له الدين الإسلامي بأحكامه السَّديدة[13]. ولما كانت هذه الأحكام مرتبطة، من الوجهة التداولية، بمجال أصلي خاص فإنه يصعب إيجاد خطاب علمي بالمعنى الدقيق للعلم عن العقل بوصفه حقيقة واحدة يشترك فيها الناس جميعا، وأقصى ما هنالك خطابات متنوعة يركب بعضها بعضا ركوب الطبقات، تختلف استنتاجاتها باختلاف أدواتها وغاياتها. من هنا يصبح العقل معطى تداوليا أكثر مما هو تصور جامد ومحدود يعتبر فيه “جوهرا قائما بذاته”.

ولهدم هذا التصور الضيق عن العقل قدم طه نظرية في العقل تقوم على التراتبية في مستويات التعقل، من اللازم على كل باحث في مشروع طه إحكام مفاصلها الكبرى؛ لأن مفهوم “العقل” سيكون حاضرا في جل مستويات هذا المشروع. ويوازي هذا الهدم طلب عقلانية أصيلة تستمد أصولها من التخلق الديني الخاص بالإنسان وحده دون بقية الكائنات الذي هو وحده، بنظر طه، يورث اليقين المفقود[14]. وتصطنع هذه العقلانية الدينية مناهج وأدوات قادرة على تحصيل المعرفة وتبليغها، ومخالفة مناهج العقلانيات المادية وأدواتها.

وإذا كانت العقلانية بوجه عام هي عبارة عن خاصية الفعل الإنساني في طلب تحقيق مقاصد معينة بوسائل معينة، فقد غلب على العقل المسلم تصور أن العقلانية، كلما ذكرت، إنما هي عقلانية يونانية، وأرسطية بالتحديد، والتي يسميها طه بـ”العقلانية المجردة”. فالعقل، إذن، الذي هيمن على تصور الباحثين وعلى ممارساتهم الفكرية وطموحاتهم النقدية والاجتهادية كان هو العقل المجرد، وهو الصنف الأول من أصناف العقل التي درسها طه، إلى جانب “العقل المسدد” و”العقل المؤيد”.

يتشكل العقل المجرد من خلال سلوك منهج يعتمد تقنيات أو إجراءات أو قرارات، تمكن المتوسل بها من تحصيل أقوال مدللة ومتقومة بالصدق ومنسقة فيما بينها. وهذا ما يفرز أو يصنع هذا العقل المجرد المتداول في العلوم النظرية[15]. واعتماد الطرق الصورية والمادية وربط الآثار بأسبابها، نتائج أو معلومات، هو المنهج الذي يسلكه هذا العقل. وعلى هذا الأساس اكتشف طه حدود العقل المجرد المادي وصفاته؛ فإذا كانت حدوده الملازمة له جملة الأفعال الاعتقادية والتدليلية التي يقوم بها المقارب عند النظر بقصد إدراك مطلوب معين، فذلك ما استخرجه طه في الممارسة العقلية التراثية، من خلال دراسة نصوص متعددة مأخوذة من قطاعات معرفية مختلفة ومتداخلة كالفلسفة والكلام والتفسير؛ فبمقتضى دلالة مفهوم “النظر[16]“، مثلا، يكون حد “النظر” في الألوهية بصفة خاصة، هو “بذل وسع العقل وقدرته في الاقتراب من حقيقة الألوهية[17].” إلا أن الصياغة الصورية للنظر، وبالتالي للنظرية أو الصورنة، لا تتجاوز حدودها حدود العقلنة ذاتها؛ إذ يظهر عجز هذا العقل المادي المجرد لما نعلم استحالة إخضاع الواقع لعقلنة كاملة، ما دام هناك من الحقائق ما لا يمكن تعقيله. ولما كان هذا العقل المادي المجرد هو عين هذا التعقيل ظهر قصوره عن إدراك حقائق علمية ثابتة، فيبقى هذا العقل نسبيا، ولم تعد “القوانين المشتركة” و”الكلية” التي يختص المنطق بدراستها واحدة عند جميع العقلاء؛ إذ أصبح علم المنطق يشتغل بصنوف متكاثرة من القواعد والمسلمات، وبضروب متغايرة من الأنساق التي تبنى على هذه المسلمات والقواعد، وبألوان متباينة من الحسابات الآلية؛ كأصناف منطق القضايا، ومنطق المحمولات من مختلف الدرجات على تباين مسلماتها وقواعدها، كأنواع المنطق متعدد القيم، وهي الأنواع المنطقية التي تزيد قيمتها عن القيمتين التقليديتين الصدق والكذب زيادة قد تصل إلى اللامتناهي، وأيضا أشكال منطق الموجهات بما فيه منطق الضرورة والإمكان ومنطق الواجب والمباح ومنطق الجهات الزمانية، وأصناف منطق اللزوم[18]… وإضافة إلى هذا، فإن العقل المجرد ليس كما اعتقد، يفارق الصفة المادية، كأنه لا يفرز إلا معاني كلية ومطلقة لا علاقة لها بالمحسوسات، في حين أن دراسة العلاقات التداخلية بين المعارف تثبت التكامل البيِّن بين العلوم الصورية، غير المادية، والعلوم التجريبية المادية: أي “صورنة” النظريات التجريبية، وهذا ما يعمل العقل المجرد على ترتيبه مما يعمق ماديته.

إن العقل المجرد، إذن، ليس إلا عقلا مقيدا وليس مطلقا، تشكل في إطار تفاعلات علمية وتداولية خاصة. والقول بتقييده ليس خروجا أو إنكارا لصفة العقلانية، وإنما هو خروج عن إطلاقه. ثم إن الخروج عن هذا العقل المجرد هو في الوقت نفسه خروج إلى طور في الإدراك يفوق طور العقل وينفعه[19]. وهذا ما جعل طه يلتمس عقلانية أخرى غير مادية وغير مجردة، لا تقع مثل الأولى في النسبية والفوضى والاسترقاق، ولا تخل بشرط النجوع في الوسائل مثل الأولى التي تكتفي بالظواهر الخارجية واعتماد الوسائل المادية فقط[20].

وقسم طه العقلانية غير المجردة إلى قسمين: عقلانية غير مجردة قادرة على إدراك المعاني الثابتة والشاملة، وعقلانية غير مجردة قادرة على إدراك الوسائل المتغيرة والخاصة. فالأولى يمثلها “العقل المسدد” والثانية يمثلها “العقل المؤيد”، فما مضمون هذين العقلين؟ وكيف يشتغلان؟

العقل المسدد عند طه، هو العقل الفقهي في التراث الإسلامي الذي يعمل وفقا لمقاصد الدين، جالبا النفع ودافعا للضرر. فنزل بذلك مرتبة تعلو العقلانية المجردة وتفضلها رجاحة. ويصبح عندها العقل المسدد هو الفعل الذي ينبغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة، متوسلا في ذلك بإقامة الأعمال التي فرضها الشرع[21]، أو هو العقل الذي اهتدى إلى معرفة المقاصد النافعة[22]. فالخاصية التسديدية لهذا العقل الفقهي تحصل بالأخذ بالمقاصد الشرعية النافعة. إنما الوسائل التي يستعملها هذا العقل المسدد لا يقين في نجوعها، مما يجعله يخل بشرط التغير والخصوص، ما دامت الوسائل متغيرة وخاصة. وبهذا يقع العقل المسدد في آفتين كبيرتين، الأولى: آفة التظاهر بأقسامه الثلاثة: التكلف والتزلف والتصرف، والثانية: آفة التقليد بأقسامه الثلاثة: التقليد الاتفاقي والتقليد النظري والتقليد العادي[23]. فالتظاهر وصف يقوم بالمتخلِّق عندما يقع التفاوت بين ظاهر الفعل عنده وبين حقيقة القصد منه، وأما التقليد فهو عمل المتخلق بقول الغير من دون تحصيل عملي يثبت فائدة هذا القول[24]. وعلى هذا الأساس لم يرق العقل المسدد إلى مستوى العقلانية الدينية التي تجمع بين النفع في المقاصد والنجاعة في الوسائل، مما سيكتشفه طه في رصده لمقومات العقل المؤيد.

إن العقل المؤيد، إذن، هو العقل الذي اهتدى إلى تحصيل الوسائل الناجعة فضلا عن تحصيل المقاصد النافعة[25]. ويشكل، عند طه، خطوة بعيدة في تكميل الحقيقة العقلية عند الإنسان؛ إذ إنه يقطع به مرحلة يحصل فيها القدرة على اتقاء الآفات الخلقية للعقل المسدد، كالتظاهر والتقليد، والآفات العلمية للعقل المادي المجرد، كالتجريد والتسييس[26]. فالعقل المؤيد، بذلك، لا يعارض الشرع، بل يأخذ بأثر المعاني الغيبية والقيم الأخلاقية، ويتداخل فيه القول والعمل، والمعرفة العلمية بالمعرفة اليقينية. وحتى مفهوم الطاعة التي تميز العقل المسدد أيضا، فإن العقل المؤيد يخرج معنى الطاعة من الطاعة في العبادة والطاعة في المعاملة إلى معنى “الاشتغال بالله، والتعامل في الله”. وهذا ما تفي به التجربة الصوفية في الممارسة التراثية، بنظر طه[27].

وإذا كان العقل المؤيد قد تميز عن العقلين السابقين بالقدرة على تحصيل الوسائل الناجعة، فإنه قد اعتمد في ذلك على آليات تصورية ومعرفية ومنهجية هي الجمع بين المقال والسلوك، والجمع بين معرفة الموضوع المتعقَّل ومعرفة الله، وأن يكون في الاشتغال العلمي متَّسع للزيادة الدائمة؛ فالقول إذن، في العقل المؤيد، لا ينفك عن العمل، كما أن الزيادة لا تنفك عن الفائدة والنفع.

وانتهج طه طريق الغزالي في تأصيل مفهوم المنطق، بمعنى الميزان، من القرآن الكريم؛ ذلك أن طه قد حمل الألفاظ القرآنية “نعقل” و”يعقل” و”تعقلون” و”يعقلون[28]” على معنى العقل المؤيد، فتفيد هذه الألفاظ، إذن، حصول التأييد في العقل: أي القدرة على التوسل إلى المقصد النافع بالسبب الناجع[29]. ويستدل طه على تخريجاته باعتبار هذه الألفاظ تأتي دائما في القرآن الكريم في معرض الكلام عن المغيبات والمكتمات من أمور الغيب مما يعجز العقل المادي المجرد والعقل المسدد عن إدراكه، كما أن هذه الألفاظ تأتي في القرآن الكريم مرادفة لكلمات التذكر والتدبر والتبصر التي تدل بوضوح، هي الأخرى، على معان لها تعلق بالمغيبات، وما يصدق عليها يصدق بالضرورة على لفظ العقل الذي هو مرادف لها[30].

إن دوام الاشتغال بالله والتغلغل فيه، بنظر طه، هو الذي يسمح بإنشاء منهجية عقلانية تكون أداة فعالة في بناء علم نظري أو طبيعي إسلامي، أو تشييد فكر إسلامي. ولن تكون هذه العقلانية إلا مؤيدة تقوم على قيم خلقية عليا تعلو بهمة الإنسان، وتجدد مداركه تربويا بتطهيرها من الطبقات المعرفية المترسبة والمانعة له من تصور أو تقبل أي شكل مغاير من أشكال المعرفة. ووسائل هذا التجديد التربوي هي التغلغل في العمل الشرعي والمواظبة عليه والزيادة فيه، وتجاوز أعمال الجوارح إلى أعمال الجوانح، وعدم الاكتفاء بالتعرف على الأفعال والصفات، بل جعل الأصل هو التعرف على الذات، إلى درجة يصبح فيها العمل هو المُمِد للنظر بأسبابه وكيفياته حتى يتحدا اتحادا. وبذلك نحصل على تخليق مؤيد هو الأرضية الصَّلبة التي أسَّس عليها طه الإنساني وأطروحته العلمية ونظريته في التداخل المعرفي، أساس هذا التخليق هو الجمع بين العلم والأخلاق وبين العقل والغيب[31].

إن التخليق المؤيد هو الحجر الأساس في مشروع طه العلمي، والعلامة البارزة في نظريته الأخلاقية التي سماها “نظرية التعبد”. والتعبد عنده، هو جمع بين تخلق حكيم وتعرف بصير[32]. وبهذه النظرية الأخلاقية التي حدد لها طه وظائف خاصة، ونحت لها مفاهيم دقيقة[33]، يمكن تجاوز الضرر الخلقي لحضارة اللوغوس، وتأسيس حضارة يكون فيها السلطان لـ”الإيتوس”؛ (أي الخلق)، بحيث تتحدد فيها حقيقة الإنسان، لا بعقله أو بقوله، وإنما بخلقه أو فعله[34]. كما أن هذه النظرية تجعلنا، بنظر طه، نستعد للتحول الأخلاقي المنتظر، ونهيئ الأجوبة للإنسان الحائر والسائل في العالم المنتظر[35]. وتستند هذه النظرية أيضا إلى “الفراغ الأخلاقي الإسلامي” الذي يضر وظيفتنا الحضارية اليوم.

وتستمد “نظرية التعبد” الأخلاقية خصائصها التكوينية من عمق جوهر الرسالة الإسلامية والمعرفة الإسلامية؛ فأخلاقها كونية لا محلية وعميقة لا سطحية وحركية لا جمودية، وهي بذلك الأخلاق الحسنى التي لا انغلاق فيها ولا انقطاع، إنها أخلاق حكمة لا أخلاق جدل أو موعظة، هي المدخل لبناء إنسان جديد على مقتضى تخلق جذري وكلي، مما لا يمكن أن يتحقق إلاَّ داخل التجربة الدينية العميقة.

هذا البناء الأخلاقي، بمفاهيمه ووظائفه ونظريته وطموحاته هو الذي سيشكل بنظرنا الإطار المرجعي الأساس لمشروع طه العلمي، وستكون المقولة الأخلاقية، بأبعادها الفلسفية والتصورية والشرعية العميقة، ثاوية خلف كل المناقشات والاستدلالات والتنظيرات التي يزخر بها مشروع طه، وذلك ما سنتعرف عليه في الفقرات التالية.

2. الأخلاق وتصنيف العلوم

انتهى طه، إذن، في وضعه نظرية العقل إلى أن المقصود في أبحاثه ودراساته وفي مشروعه العلمي كله، ليس هو العقل المادي المجرد الذي صاغه الفكر اليوناني، وإنما هو العقل الحي الذي أمده الشرع الإلهي عن طريق مواعظه بالتسديد في المقاصد، وعن طريق حكمه بالتأييد في المسائل. وهذا ما يبرز الدور الأساس للأخلاق في تأسيس العقل في منظور طه. ولما كان الفعل الخلقي، وهو أساس الفعل العقلي، لا يبقى  على حال واحدة ولا في مكان واحد، وأصبح يتوالد ويتشعب فتنشأ عنه مواضع اتصال ومناطق تداخل بين مختلف الأفعال التي يأتيها، أصبح عندها السلوك الإنساني عبارة عن صفات متكاملة وأفعال متعاضدة، بحيث إذا دخل على الصفة أي تبديل أو على الفعل أي تغيير تداعت له الصفات الأخرى بالتأثير والتأثر. وعندها يحصل الإنسان تكاملا ماديا وروحيا مقوِّما لفطرته، ويجعله مستعدا لتلقي معرفة متكاملة ومتداخلة العناصر، ومحفوظا من آفة الانفصال بين المعارف والأخلاق! أو بين العلم والقيم: أي يكون في المحصلة الأخيرة، منشغلا بالمعرفة الكاملة[36]، بواسطة عقل كامل[37].

ومعيار الكمال المعرفي والعقلي، هو الذي يفسر، بنظر طه، الطابع التكاملي للفعل الإنساني؛ ففي الفعل الواحد تجتمع مظاهر القوة مع مظاهر الضعف، وصفات العرفان مع صفات الوجدان، ومستويات النظر مع مستويات العمل، وقيم الجسم مع قيم الروح. فمباحث العلوم المعرفية، وهي المهتمة بقضايا التداخل المعرفي والعلاقات بين العلوم، أثبتت كيف أن العقلانية الحديثة في أصولها ومناهجها مشكلة بطريقة تداخلية مثمرة، ومبنية على جملة من الخيالات والمثالات، وهي تستند في ذلك إلى نظريات علمية حديثة منها: “نظرية الشواهد المثلى” و”نظرية دلاليات الإطارات” و”نظرية الفهم الاستعاري” و”نظرية الفهم القصصي[38].وعليه، أصبح الحديث –مثلا- عن عقل مادي مجرد أو خيال مجرد غير ذي جدوى! مادام العقل يزدوج بالخيال والعكس بالعكس. كما لم يعد مفيدا ذلك التقسيم التقليدي للمعارف والذي غرق فيه بعض من أهل العلم في الإسلام، بين معارف لها ارتباط بمجال القيم العقدية مثل العلوم الشرعية والأخلاقية والمعارف الأدبية والفنية، ومعارف تكاد تكون نقيضها ولا علاقة لها بهذه القيم في عرف أولئك، مثل العلوم الرياضية والإعلامية والطبيعية والكيميائية والبيولوجية. فدعوى هذا التقسيم باطلة في التصور التداخلي لطه؛ ذلك أن العلوم، أيا كانت، ينبغي أن تخدم الحقيقة الشرعية الإسلامية للوسائل التي تمكن من الكشف عن هذه المقاصد الشرعية[39]. ثم إن دعوى التقسيم تلك أصبحت متجاوزة في البحث العلمي الحديث وعند فقهاء العلم المعاصرين؛ إذ إن مجموعة من التعريفات التقليدية في مباحث العلوم، والتي كانت مسلمات راسخة في الأذهان، قد زحف عليها شك البحث العلمي، وإن لم تبطل فلم تعد مسلمة كما كانت؛ كالتفرقة بين “الواقعة والنظرية”، وبين “الملاحظة والنظرية”، وبين “التعريف والنظرية”، وبين “التحليل والتركيب”، وبين “الوصف والتفسير” وبين “الواقعي والاعتقادي”، وبين “الصوري والتجريبي[40].”

واعتمد طه في رد ذلك التقسيم التقليدي الذي سيطر على المعرفة الإسلامية، على مستجدات البحث العلمي خصوصا في مجال العلوم المعرفية الحديثة. لكن المجهود الأكبر الذي بذله في مشروعه العلمي التداخلي هو إعادة الاعتبار للحقيقة الدينية في كتاباته المعرفية والفلسفية والمنهجية، ووضع إمكان علمي مبدع يضاهي إمكانات الآخرين، ويتميز عليهم بتقيده بالعمل والتزامه حدود الشرع. كما اختلف هذا الإمكان العلمي لطه، عن ما يظهر بين الفينة والأخرى من دراسات وأبحاث، تطلب التأصيل الإسلامي للمعرفة عبر آليات محدودة وضيقة، تقوم على “تزيين إسلامي” للبناء العلمي المنقول عن الغرب، فيتم تصدير الدراسات العلمية بـ”البسملة” أو تذييلها بعد الفراغ منها بعبارة “الله أعلم”، أو تخليلها بالآيات والأحاديث. في حين يشترط طه لتحقيق إمكان علمي مغاير لطريق الآخرين، خاصة الغرب، تحصيل القدرة على فك مفاصل البناء النظري المنقول وإعادة تركيبها بفضل عمليات تحويلية تدخل على المفاهيم والأحكام[41].

وهذا الإمكان العلمي المغاير الذي قدمه طه والمؤسس على الحقيقة الدينية، بمقومها الأساس الأخلاق، هو الذي يساعدنا على فهم تداخلات الأخلاق في مشروعه وارتباطها المرجعي بكل عناصره، وسيكون تركيزنا في الفقرتين السابقتين عن علاقة الأخلاق في مشروع طه بعلم منقول وعلم مأصول.

أ. الأخلاق والفلسفة والمنطق

إذا كانت القيمة الدينية هي أفضل درجة وأكثر فائدة، بنظر طه، فإن الأخلاق هي جوهر هذه القيمة، وهي التي تورثنا معرفة القيم والمعاني من خلال يقنيتيها. وعليه اعتبر الفعل المعرفي في الممارسة الإسلامية فعلا خلقيا بدليل وقوعه تحت الحكم بالحسن أو القبح. من هنا دافع طه عن اعتبار السلوك في الممارسة الفلسفية، وانتقد عمليات اختزال الفلسفة في أبنية العقل المادي المجرد، وعدم اعتبار بنيات العمل المجسد[42]. فربط طه بين الفلسفة والفقه لترسخ البعد العملي والأخلاقي فيها، وتحقيق التداخل المثمر بين طريق النظر الفلسفي وطريق الخبر الفقهي. ولما كان الفقه يتأسس بنظر طه على الأخلاق، فالفيلسوف الحقيقي أخلاقي بطبعه؛ يطلب الحق حيث ما جاز وجوده. مهمته إصلاح العقول والأخلاق، من خلال التفلسف في القيم والمقاصد والدعوة إليها وبثها في النفوس منقذا للإنسان ومرتقيا به إلى الكمال.

وعلى أساس الربط بين الفلسفة والأخلاق، على قاعدة الحقيقة الدينية، أبطل طه دعاوى مافتئت تربط التفلسف بالشك والجحود والإلحاد؛ ومثل بكبير الفلاسفة العقلانيين ديكارت الذي لم يشك يوما في قيمه المسيحية! بل كان شديد الارتباط بها، ولم يبرحها في كل لحظات إنشائه الفلسفي، وحتى في تطوافه الخيالي الطويل. واعتقد الكثيرون أن ديكارت فارق إيمانه، فاتبعوه في تخيله، وهو فراق على مقتضى الخيال وليس على مقتضى الدليل، فذهب ظاهر إيمانهم وبقي خالص إيمانه[43]. كما مثل طه لتداخل الفلسفة والأخلاق بالفيلسوف النمساوي “لودفيغ فيجنشتاين” L. WITTGENSTEIN الذي نفذ تأثيره في شتى مجالات المعرفة والفكر[44]؛ إذ كان صوفيا متغلغلا في الأخلاق العملية. والصوفية عند طه، بما تعنيه من عمق أخلاقي، رتبة أعلى من الرتبة التي ينزلها القول الفلسفي. ويعني هذا حاجة الفلسفة إلى الأخلاق الصوفية حاجتها إلى العلم. وشهد تاريخ كثير من الفلاسفة العظام سعيا حثيثا إلى التأليف بين التفلسف والتصوف. وما انفك أهل التجربة الروحية منذ أوائل النظر الفلسفي ينبهون المتفلسفة على أن العقل واللغة، وإن أفادا في تحصيل المعرفة الخارجية وتوصيلها، فإنهما عاجزان عن اطلاعنا على المعرفة الداخلية، وما زالوا يرشدونهم إلى صفات العقل ونعوت اللغة التي تمنعهما من الوصول إلى هذه المعرفة؛ فمن هذه الصفات العقلية: “التجميد” و”التمديد” و”التقطيع”، ومن النعوت اللغوية: التصريح” و”التقييد” و”التفصيل”. ومن أين كان لهؤلاء الوعاة أن يدركوا حدود العقل وقيود اللغة لولا رسوخ علمهم بماهية العقل وطبيعة اللغة؟! وحيث لا يجدي الوعي الفلسفي وجب التماس “البصيرة الروحية”، فهي أوعى منه لإحاطتها بحقيقة أسبابه ولقصوره هو عن هذه الإحاطة. وليس ما يلتجئ إليه المتفلسف من دقيق الإدراكات التي يطلق عليها تارة اسم “المعرفة الضرورية” وتارة اسم “الحدس” وتارة اسم “البداهة” إلا مطالع هذه البصيرة التي يأبى أن يسميها باسمها[45]! فالأخلاق، إذن، هي للتفلسف مدخل للإيمان الذي يولد التفلسف العظيم، كما أن هذا التفلسف العظيم يثبت الإيمان العظيم. وفوق ذلك، فإن الإنسان المؤمن، بنظر طه، فيلسوف من غير أن يتفلسف. وكان عظماء المفكرين من أهل الإيمان، وعظماء المؤمنين من أهل الفكر.

ولم يقف القول الفلسفي عند حد تداخله العميق مع الأخلاق، بل كان نقطة التقاء معارف متعددة وأكثرها تجريدية كالمنطق. فالقول الفلسفي كان يستمد من عبارية المنطق كما يستمد من إشارية الأخلاق والتصوف، وكان كمال التفلسف الوصل بين المنطق والأخلاق. ومنذ نشأة الفلسفة جعل المنطق آلتها ومدخلا لها كما جعلت الحكمة والأخلاق موضوعا وثمرة لها، فالفيلسوف منطقي أو صوفي أو هما معا. فكان المفكر والمنطقي الإنجليزي “برتراند راسل” مثلا في مقاله المشهور “التصوف والمنطق” نموذج العالم المتداخل والجامع بين هذه الحقول الثلاثة[46]، كما كان الأصل في الكوجيطو الديكارتي هو وجود الإيمان لا فقدانه كما اعتقد كثير من المقلدين[47].

وعليه، نفى طه مقولة “لا أخلاق في المنطق”، وأثبت عكسها: أي “في المنطق أخلاق”. ودلَّل بمعيارية المنطق ذاته، ودوره في توجيه السلوك العقلي، وهذا ما لا يختلف عن توجيه السلوك المادي والسلوك الحركي.

فالأخلاق، إذن، بنظر طه، موجودة في كل معرفة، ولو كانت أشد تجريدا وتنظيرا. ومشروعه، في جزء كبير منه، يقوم على كشف مكامنها في المعارف، واستخراج الأخلاق الموجودة في التراث الإسلامي لتأسيس نموذج معرفي أخلاقي ذي كفاية تقويمية وتفسيرية عالية وفعالة. وهذا ما أنجزه طه في مشروعه التداخلي من خلال وقوفه على البناء الأخلاقي لعلم أصول الفقه مما سنعرض له الآن.

ب. البناء الأخلاقي لعلم أصول الفقه

سنقف الآن عند مجهود طه في جعل الأخلاق إطارا مرجعيا لعلم أصول الفقه بما يفيدنا في إثبات الطابع المرجعي للأخلاق في مشروع طه ككل.

وبصدور كتاب “تجديد المنهج في تقويم التراث”، سنة 1994، خطا البحث المقاصدي خطوات جديدة، وتجاوز الدراسات التقليدية التي وقفت عند إعادة ترتيب مفردات الأبحاث القديمة، وعرضها في صياغات جديدة! أما طه فقد أعاد تصنيف “علم المقاصد” ذاته ضمن الفلسفة الإسلامية على غير عادة القوم[48]، ودعا إلى دراسته ضمن أقسام الفلسفة كمبحث أخلاقي إسلامي أصيل، بل إنه يتميز عن المباحث الأخلاقية التي شملتها هذه الفلسفة والتي كانت ثمرة التفاعل مع الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الغربية الحديثة[49].

وقدم طه في مشروعه العلمي مجهودا نظريا متميزا يؤسس لنظرية جديدة في المقاصد، تقوم على جعل الأخلاق أساسا ينبني عليه الفقه وأصوله من خلال إبراز العلاقات الدقيقة التي تجمع بين الأخلاق والفقه في الشريعة الإسلامية، مما حقق تداخلا مثمرا وفعالا بين وجوه الإلزام القانوني والإلزام الأخلاقي، بحيث تصبح مبادئ الأخلاق الخاصة قادرة على أن تسدَّ ثغرات القوانين العامة، وهذا إشكال ظل العقل المسلم المعاصر، وما زال، متخبطا فيه. وقد زاوج طه في وضعه وابتكاره للبناء الأخلاقي لعلم أصول الفقه بين البحث المتعمق في دلالات المفاهيم والمقولات الأصولية وبين التأمل الدقيق في الأحكام الشرعية، وبين الاستفادة من المنهجيات الحديثة في دراسة القيم والأخلاق. كما استثمر مجموعة من الآليات المنطقية واللغوية في دراسته خصوصا في رصد معاني لفظ “المقصد، مما أكسب مجهوده صرامة علمية خاصة.

وينطلق طه في تأسيس البناء الأخلاقي لعلم أصول الفقه من التأكيد على طغيان الاهتمام الخاص بـ”مبحث الأحكام” على حساب “مبحث المقاصد” برغم ادعاء الأصوليين أن لكل حكم شرعي مقصدا مخصوصا. وقد أفضى هذا الغلو في الاهتمام بالأحكام بالأصوليين إلى المبالغة في ما يسميه طه بـ”تفقيه الممارسة الدينية”؛ أي التقنين الفقهي الصارم لأفعال المكلفين بما يجعل الاعتبار فيها أساسا لظاهر موافقتها للأحكام المقررة، في مقابل إهمال المعاني الخلقية التي تنطوي فيها، وبالتالي الفصل النكد بين العقل والقلب[50]. وهذا الفصل النكد الذي يفرق بين وجهي الحكم الشرعي أحدث في تاريخ المعرفة الإسلامية ما سماه طه بـ”الفتنة النصية الكبرى[51]“؛ أي التفريق بين الوجه القانوني والوجه الخلقي للحكم الشرعي.

وبحكم الطابع التداخلي للمشروع العلمي لطه، فإنه سعى إلى إعادة الربط بين هذين الوجهين، وجعل الأخلاق الإطار العام للعلم الإسلامي وخاصة علم أصول الفقه؛ فقد أثبت أن للأخلاق دخلا في تحديد ماهية الفعل الإنساني وهويته. فكل فعل إنساني يقترن بقيمة خلقية، ولو كان فعلا ذهنيا؛ فقوة الخلق هي ميزة الإنسان عن البهيمة وليست قوة العقل، كما ساد واشتهر. وعلى هذا الأساس سجل طه تحفظه على تعريف علم مقاصد الشريعة باعتباره العلم الذي يبحث في مقاصد الشريعة؛ إذ إن هذا التعريف مجرد تفصيل لفظي للمعرف لا تحليل مفهومي له، والمطلوب في الحد أن يكون بسطا للمفهوم لا شرحا للملفوظ[52]. أما ادعاء أن علم مقاصد الشريعة هو العلم الذي ينظر في المصالح، فقد ناقشه طه من حيث اللبس الذي يعتري مفهوم المصلحة من جهة صيغته الصرفية أو من جهة توسع مدلوله مع المتأخرين، ليخلص إلى أن مفهوم المصلحة ليس اسم ذات متحيزة وإنما هي اسم معنى مجرد، مرادفة لمفهوم “الصلاح”. والصلاح قيمة خلقية، بل هو القيمة الكبرى التي تندرج تحتها القيمة الخلقية الأخرى، وهذا ما اختص علم الأخلاق بالبحث فيه، تحت أسماء أخرى كالخير والسعادة وغيرها..

فعلم المقاصد، وفق هذا التحليل، هو علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني. وعبر دراسة دقيقة للفظ “المقصد” باستثمار آليات لغوية ومنطقية، استخلص طه أن علم الأخلاق الإسلامي يتكون من ثلاث نظريات مختلفة لكنها متداخلة ومتكاملة فيما بينها عبر عناصر ثلاثة هي “الفعل” و”النية” و”القيمة”، وهي “نظرية في الأفعال[53]“، و”نظرية في النيات[54]“، و”نظرية في القيم[55]“. ووقف طه على الآفات التي وقع فيها الأصوليون لعدم تبينهم الفروق بين المعاني للفظ “المقصد”، وهي: “المقصود” و”القصد” و”الغاية؛ إذ خلطوا بين رتب الوسائل والحيل والذرائع، وبين العلة السببية والعلة الغائية، وبين العقلانية التفسيرية والعقلانية التوجيهية.

ومادامت نظرية القيم هي أصل النظريتين الأخريين؛ إذ هي وحدها التي يحصل بها الامتياز في الإنسانية[56]، فقد عمل طه على إدخال وجوه من التصحيح عليها حتى تكون أكثر كفاية ونجاعة. وسجل أولا اعتراضاته على تقسيم الأصوليين للقيم الشرعية وترتيبها: أي قيم ضرورية وقيم حاجية وقيم تحسينية؛ فالاعتراض العام ينطلق من أن هذا التقسيم العام يخل بشرط التباين من شروط التقسيم؛ حيث إن القيم التي يتكون منها القسم الضروري مثل الدين والنفس والعقل والنسل يشاركه فيها القسمان الآخران، الحاجي والتحسيني. وعليه اقترح طه، لاستيفاء شرط التباين، إنزال القيم الخمس رتبة تعلو الأقسام الثلاثة كما لو كانت أصولا أو أجناسا أو قيما عليا. أما الاعتراضات الخاصة فتتعلق بالقسمين الضروري والتحسيني؛ ذلك أن هذه القيم ليست أخص من الأصل الذي هو الشريعة.

وتتلخص الاعتراضات الخاصة بالقيم التحسينية في الإخلال بشروط الترتيب، بتأخير ما ينبغي تقديمه، وإهمال رتب الأحكام، وإهمال الحصر في حديث مكارم الأخلاق المفيد لعلو الرتبة. وعليه استنتج طه بعد اعتراضه العام والخاص أن القيم لا تنحصر في عدد قليل، كما أن التفاوت بين مراتب القيم يرجع إلى تفاوتها في القوة الخلقية، وأن “مكارم الأخلاق” تندرج في جميع مراتب القيم بغير استثناء[57].

وقدم تقسيما جديدا للقيم يقوم على قلب الترتيب القديم، فأصبح كالآتي:

أ. القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر يندرج فيها مثلا حفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال، وتلحق عموم البنى الحسية والمادية.

ب. القيم العقلية أو قيم الحسن والقبح يندرج فيها الأمن والحرية والسلام والعمل والثقافة والحوار، وتلحق البنى النفسية والعقلية.

ج. القيم الروحية أو قيم الخير والشر تندرج فيها الرحمة والمحبة والإحسان والتواضع والخشوع، وتلحق عموم القدرات الروحية والمعنوية.

فإذا كان التقسيم الأصولي التقليدي يقدم الجانب المادي من الحياة على جانبها الخلقي والمعنوي، فإن التقسيم الجديد عكس الآية وقدم اعتبار الجانب المعنوي من الحياة على جانبها المادي. وقدم طه تحليلا متعمقا لبنية الحكم الشرعي، وأثبت أن أهمية الأخلاق في الإسلام لا تقل أهمية عن الفقه، بل إن الحكم الشرعي له ظاهر هو الفقه وباطن هو الخلق، والتفريق بينهما هو سقوط في ما سماه طه بـ”الطرفية الظاهرة” وهو الأخذ بالطرف القانوني وحده من الحكم الشرعي، أو “الطرفية الباطنية” وهو الأخذ بالطرف الأخلاقي وحده[58]. ودعا إلى “الوسطية الشرعية”، وهي حفظ التوازن بين المقتضى القانوني والمقتضى الخلقي في الأحكام[59]. وهذا ما يحول علم المقاصد، كمبدأ أصولي، إلى اعتباره علم الأخلاق الإسلامي وبالتالي اعتبار علم الأخلاق الإطار المرجعي الأساس لعلم أصول الفقه.

3. من سؤال الأخلاق إلى فلسفة الدين

لا يخفي طه، وهو الفيلسوف المتدين، رغبته في تشييد فلسفة دينية جديدة، إدراكا منه لما تتطلبه المرحلة التاريخية الراهنة[60]. ويعتبر أن ما يكتبه يدخل في باب جديد من الممارسة الفلسفية هو فلسفة الدين[61]“. هذا المبحث الجديد الذي يختلف عن “علم اللاهوت” كما عرف عند اليهود والمسيحيين؛ ذلك أن فلسفة الدين لا تتوسل بسلطة المؤسسة الكهنوتية وإنما بسلطة العقل، كما لا تتفكر في ذات الله وإنما في ذات الإنسان في علاقته بالله. وفلسفة الدين التي يقصدها طه تختلف عن “علم الكلام” أو “علم أصول الدين”؛ إذ إن فلسفة الدين لا تقصد الدفاع عن العقيدة ضد خصم معين، وإنما تجديد الفهم لمكوناتها ومقتضياتها في سياق المستجدات الفكرية. كما تشتغل، على عكس البحوث الكلامية المجردة، بالمسائل العملية المشخصة. ففلسفة الدين، عند طه، هي ثمرة اجتهاد وإبداع انطلاقا من خصوصية الحاجات الفكرية التداولية، بعيدا عن كل أشكال التقليد والترديد؛ فهي عمل حداثي وتجديدي، يتجاوز التفكير الديني الجامد والمهيمن والذي ليس إلا تقريرات مفككة ولو زينت بآيات وأحاديث، في حين تعرض فلسفة الدين للأقوال في صورة استشكالات واستدلالات يشد بعضها برقاب بعض على طريقة الفلاسفة، مع استيفاء مقتضيات العقلانية الحديثة.

إن فلسفة الدين تخلق فضاء فكريا تتحرك فيه معاني الدين وحقائقه بكفاءة استشكالية واستدلالية لا تقل عن الكفاءة التساؤلية والتدليلية للأنساق المعرفية والعلمية الأخرى، أو المعاني والحقائق المقررة في عالم الممارسة الفلسفية؛ هذا الفضاء الفكري الذي يقوم على صفتي الشمول والتكامل المميزتين للحقيقة الدينية، وإحاطتها بكل فعاليات الإنسان في تكاملها وتعالق بعضها ببعض، فتدخل كل الممارسات العلمية للإنسان، مثلا، ضمن هذا الفضاء الفكري الجديد، والذي يخرج فيه الإنسان، سواء في إنتاجه العلمي أو غيره، من العبودية للمخلوق إلى الحرية في الخالق[62].

وعلى هذا الأساس عمل طه في مشروعه على استشكال المسألة الدينية عموما والمسألة الأخلاقية خصوصا، من الوجهة الفلسفية؛ فالوعي بالفعالية الدينية صار في واقعنا أقوى وأعمق من ذي قبل، حتى أننا اليوم، أقرب بنظر طه، إلى ظهور فلسفات دينية منه إلى استمرار الفلسفات التي تنتقد الدين. ويتوقع أن ينشط النظر الديني ويتجدد في مطلع هذا القرن، وأن تخرج بهذا الانبعاث فلسفات في العقيدة والإيمان[63].

إن تجديد الفلسفة الدينية الإسلامية كان هما حاضرا في كل ثنايا مشروع طه العلمي، كما كانت رغبته كبيرة في تقويم الفلسفة الأخلاقية للغير مما يفتقده حتى يشعر بحاجته إلى هذه الأخلاق والقيم، والتي تصحح قيمه المادية التي شكل نقدها مستوى أولا من مستويات المشروع الأخلاقي المؤطر لأبحاث طه واجتهاداته، مما سنعرض له باقتضاب غير مخل.

أ. نقد الأفكار الأخلاقية الغربية المعاصرة

يرى طه أن أخلاق الدين هي أخلاق عمق تغوص في أعماق الحياة وأعماق الإنسان، وأن الحداثة لم تقف إلاَّ عند أخلاق السطح. وركز طه نقده للحداثة الغربية من منطلق أنها في حاجة ماسة إلى أخلاق الدين لحصول الانتفاع بها. ولم يخف جرأته على ممارسة نقد أخلاقي لهذه الحداثة من خلال الأخلاق الإسلامية.

وعليه انتقد طه هيوم لفصله الدين عن الأخلاق، بدعوى الحس الأخلاقي المشترك بين الناس[64]. بل ذهب طه إلى كشف الأصل الذي بنى عليه هيوم نظريته الأخلاقية، وهو “الدين”، ليؤكد أن الخبر الإلهي هو المصدر الحقيقي للعلم بالقيمة الخلقية، كما أن الفعل الإلهي هو السبب الحقيقي للشعور بها في الوجدان.

وانتقد المتكلمين والفلاسفة المسلمين الذين تذبذبوا بين القول بتبعية الدين للأخلاق والقول باستقلال الأخلاق عن الدين لانسياقهم إلى التفكير في هذه العلاقة وفق مقتضيات المنقول اليوناني. وهذا الضعف والتقليد في ممارستهم هو الذي أثر سلبا على تصورهم لمفهوم الشعائر في العبادة والتي أصبحت مطلوبة لذاتها، مما يخالف مقصد الحقيقة الدينية، وهو الأثر الذي يتركه أداء تلك الشعائر في القائم بها، ترقيا في المراتب الظاهرة والخفية. ويكون الأثر، إذن، ذا طبيعة سلوكية، وهو الذي يسمى بـ”الأخلاق”. وبناء على هذا سعى طه إلى إحياء “التخلق الدينيداخل الممارسة الفكرية والعلمية، مما نلحظ آثاره طيلة حديثنا عن مشروعه. وتجسد هذا التخلق الديني الغائب مقولات “لا أخلاق في العلم”، و”لا غيب في العقل”، وهما أصلان تنبني عليهما المناهج العقلية والنتائج العلمية للنمط المعرفي الحديث، وهو ما يخلف آفة الانقطاع عن الأخلاق وعن الغيب، ويثلم التكامل المادي والروحي للإنسان. ولن يسترجع هذا التكامل إلا بالدخول في تخليق مؤيد يعيد إلى المتخلق رسوخ وحدة النظر والعمل لاكتساب صفتي النفع العلمي والكمال العقلي.

وعمل طه على تأسيس نظرية التخليق المؤيد، بدءا بنقد عقلانية النظام العلمي- التقني للعالم، وتقويمه من الوجهة الأخلاقية. وتتأسس عقلانية هذا النظام للعلم على تحصيل القدرات الإمكانية والتمكينية للترويض والتجريب، طلبا للسيادة على الكون من خلال مظاهر ثلاثة، هي مظهر التنبؤ الذي تكسبه عقلانية النظم ويمكن سلطان السطوة، ومظهر التحكم الذي تكسبه عقلانية التنظيم وتمكن من سلطان البأس، ومظهر التصرف الذي تكسبه عقلانية الانتظام ويمكن من سلطان البطش[65]. وتشترك هذه المظاهر العقلانية في ترك جانبي الاعتبار والاشتغال من الأخلاق الدينية، مما يحفظها من الإمكانات التي قد تصيبها، أو بأسباب الضرر الذي قد يتطرق إليها. ولكن الحداثة المعاصرة لا تأخذ بهذا كله، وحتى إن أخذت بشيء من ذلك فبناء على أن لا أخلاق إلا الكليات السلوكية التي يقرها العالم أو تقرها العلمانية[66]. فمراتب عقلانية النظام العلمي – التقني، وهي النظم والتنظيم والانتظام، تضر، بنظر طه، بالأخلاق الدينية ضررا يتزايد بحسب مراتب هذه العقلانية؛ ذلك أن نظرية النظم تستبعدها، ومرتبة التنظيم تستحوذ عليها، ومرتبة الانتظام تصطنع بديلا عنها. وقد انعكس هذا الضرر بالأخلاق الدينية سلبا على هذا النظام العلمي – التقني، وأفضى بالإنسانية إلى مفاسد وأوردها مهالك، مما حفز فلاسفة أخلاقيين على التفكير في وسائل تصحيح من خلال وضع نظريات أخلاقية جديدة، تعرض لها طه بالنقد والتقويم.

وانقسمت النظريات الأخلاقية الغربية التصحيحية لمسار النظام العلمي – التقني، بحسب أنواع السيادات التي اشتغلت بالاعتراض عليها، وهذه السيادات هي: التنبؤ والتحكم والتصرف. وركزت جميعها على قصور هذه السيادات؛ فقصور التنبؤ قالت به “نظرية المسؤولية[67]، وقصور التحكم قالت به “نظرية التواصل[68]“، وقصور التصرف قالت به “نظرية الضعف[69]“. ولو أن “نظرية المسؤولية” قامت على مبدأين أخلاقيين هما: مبدأ تعظيم الخلق، ومبدأ الاستخلاف، إلاَّ أن يوناس وقع، بنظر طه، في ضحالة الإدراك لمعنى المسؤولية ولمعنى “الخوف” المقترن بها؛ ذلك أنه ربطهما بغيب المستقبل في هذه الحياة الدنيا، وكان أولى به ربطهما بغيب المستقبل في الحياة الأخرى. كما أن نظرية التواصل، ولو أنها قررت استقلال الأخلاق بوظيفتها التقويمية في مجالها الأصلي الذي هو التواصل والمناظرة، وأصبح العلم فيها مردودا إلى الأخلاق إلاَّ أنها، بنظر طه، قصَّرت في استيعاب ظاهرة التواصل من حيث حقيقتها وواقعها؛ ذلك أن التواصل كما يراه “آبل” و”هابرماس” لا يحمل بالضرورة الحق في طبيعته ولا في واقعه، مما يبطل تأسيس الأخلاق عليه، وطلب مصدر آخر غير مبدأ التواصل، ولما لا يكون هذا المصدر، بنظر طه، اتصالا روحانيا! أما نظرية الضعف، فرغم دعوتها إلى مبدأ الإعراض عن تجميع التقنية، والقول بمبدأ انقلاب العقل إلى ضده، مما يجعلها تطرق بابا في القيم والمعاني ينفتح على الأخلاق الدينية، إلاَّ أنها، بنظر طه، لم تتخط عتبة هذا الباب فأصيب بالضحالة على غرار النظريتين السابقتين، لانغلاق “إيلول” و”جانيكو” داخل قوانين عقلانية ومقتضيات منطقية ضيقة.

وبناء على الاعتراضات الخاصة التي سجلها طه على هذه النظريات الأخلاقية التصحيحية، خلص إلى أنها قصرت عن بلوغ مرادها في تقويم السيادة التي اشتغلت بها. وسجل طه اعتراضين عامين على هذه النظريات، وهما: عدم خروجها عن الأخلاقيات القديمة إلاَّ خروجا ظاهريا تعلَّق بمنهجية التدليل أكثر مما تعلق بمضمونية التعليل، وبقاؤها في حدود الأخلاقيات التعقلية التقليدية كما أقرها أفلاطون وأرسطو. وهي كذلك لم تفترق عن الأخلاقيات الحديثة إلا افتراقا هينا تعلق بالقصد المحصل أكثر مما تعلق بالطريقة المتبعة، وبقيت في حدود الأخلاقيات “التنكرية” لا تفترق في كثير عن الأخلاقيات العلمانية المؤسسة على مبدأ الانقطاع عن الأخلاق الدينية والمتميزة  بخطابها المنكر. وأخلت هذه النظريات أيضا بشرط المناسبة؛ فلم تكن وسائلها على قدر مقاصدها شكلا ومضمونا، فدعت إلى الاتصاف بخلق التعقل القاصر كما تنكرت لسيد الكون الحق[70].

وقام طه بالاعتراض على المقتضيات الإنكارية للخطاب “التقنوي” الحداثي، متجاوزا آليات النقد المجرد، والدخول في مجال الاعتبار بما يعني العبور من أحكام النظر إلى أسرار العبر[71]، والانتقال من صفة التنكر إلى صفة التعرف، بعدما تستبدل مكان صفة التعقل مبدأ “التخلق” الجالب للحكمة المؤيدة كما يجلب التعرف البصيرة المسدَّدة، وهذا ما سماه طه بـ”نظرية التعبد”.

تجمع هذه النظرية بين التخلق الحكيم والتعرف البصير، وتدفع آفات النظريات السابقة تنبؤا أو تحكما أو تصرفا، من خلال ترسيخ آداب العلم والتقنية تعرفا وتخلقا، مما يحد من قهر النظام العلمي – التقني وتسلطه؛ فيحفظ تنبؤه من آفة الرجم بالغيب، وتحكُّمه من آفة الطمع في فعل غير المقدور وآفة التوسُّع غير المحصور، ويحفظ تصرفه من آفة قلب الأدوار بين الداخل والخارج وآفة قلب الأدوار بين الذات والغير، فتنحصر طلبات السطوة والبأس والبطش عن هذا النظام[72]. كما تربط هذه النظرية التعبدية بالعلم بمعرفة الله والعلم بأحكامه، مما يخرج الإنسان من طلب حظوظ السيادة على الكون إلى أداء حقوق العبودية لسيد الكون.

وهذا التصور الأخلاقي العام هو الذي سيؤطر مشروع طه كاملا، ويجعله يرفض الفصل بين العلم والغيب وبين القلب والعقل وبين العقل والحس، كما سيجعل العلوم جميعها، طبيعية أو إنسانية، خادمة للحقيقة الشرعية[73]. فالعقل الذي هو مناط التكليف سيصبح وفق “نظرية التعبد” فعلا قلبيا صريحا: أي فعلا خلقيا تتحدد به إنسانية صاحبه[74]؛ إذ لا إنسان بغير أخلاق – كما أنه لا إنسان بغير دين، فحقيقة الإنسان هي كونه كائنا حيا متدينا. فالجمع بين الأخلاق والدين يشكل أصل الأصول الذي بنى عليه طه مشروعه العلمي في جميع مستوياته.

ب. الميثاق الأخلاقي

يفرق طه بين طريق الإلزام في ممارسة الأخلاق بما هو أوامر ونواه معروضة على إرادة الإنسان، وبين طريق الاعتبار في ممارسة الأخلاق بما هو معان وقيم يستنبطها الإنسان تلقائيا من الأفعال والأقوال التي يشهدها ويتلاقاها. هذا الطريق الأخير يأنس له الإنسان ويتفاعل معه لارتباطه بحريته. ويستدعي هذا بنظر طه إيراد الأخلاق في صورة أخبار لا في صور أوامر، وفي صورة قصص لا في صورة نسق، وبذلك تصبح الأخلاق أفعالا حية يعيشها الإنسان. وعلى هذا الأساس عرض طه عناصر ميثاقه الأخلاقي، والتي حصرها في الأخلاق الكونية، والأخلاق العميقة، والأخلاق الحركية. وربط كل نوع بقصة في التاريخ الإسلامي، ومن خلالها حصل التداخل المثمر والجمع المتين بين العقل والشرع، وبين العقل والقلب، وبين العقل والحس. وسينعكس هذا التداخل والجمع على تصور طه وتحلليه لكثير من الظواهر المعرفية والمنهجية المتعددة في جميع مستويات مشروعه العلمي.

فالجمع بين العقل والشرع تحقق يوم تعهد الإنسان أمام الله سبحانه وتعالى يوم خاطبه: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم﴾ (الاَعراف: 172) فأجاب: “بَلى”. وهذا التعهد الإنساني هو الميثاق الذي أخذه الشارع من العقلاء؛ وبهذا الميثاق تزود الإنسان بالأخلاق التي تحميه من التزلزل، وهي ذات طبيعة كونية من حيث خصائصها، وهي أخلاق مؤسسة من لدن الشرع لعلو رتبته على العقل واستغنائه عنه، وهذا ما يثبت أن لا ميثاق أخلاقي بين البشر وحدهم، لتلونهم وتقلبهم. ويتطلب هذا الميثاق الثبات والاستقرار، مما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان رباني المصدر. كما أن هذه الأخلاق شاملة لكل أفعال الإنسان، فكل فعل عقلي، إذن، هو بالأساس فعل خلقي بموجب هذا الميثاق، وكل عقل خلقي هو عقل متصل، وكل عقل غير خلقي هو عقل منفصل، نقض الميثاق ونقض العهد. العقل المتصل عقل كامل جامع للعقل التكليفي والعقل التشريعي، كما يجمع العلم النافع العلم الشرعي والعلم الوضعي[75].

وبفضل هذه الأخلاق الكونية التي أسسها الميثاق الأول، بطبيعتها المؤسَّسة  والمتعدية والشاملة، يتشكل الاجتماع الإنساني على أسس الثقة والألفة، ويتأطر الفعل العقلي داخل الشرع.

أما الأخلاق العميقة التي هي النوع الثاني من عناصر الميثاق الأخلاقي فتجسدها حادثة شق الصدر، وهي تعبر عن قيمة العقل في الممارسة الإسلامية بما هو ذات كامنة في الإنسان وهي جوهر حقيقته ومصدر أفعاله. وبهذه الحادثة يرى طه أنه صلاح قلب الإنسان النموذجي، أو إنسان الختم[76]، وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وتفيد هذه الحادثة التاريخية العجيبة[77] الإنسان في استخلاص نوع خاص من الأخلاق، تتميز بكونها أخلاق تطهير. وعملية التطهير قام بها رسول من عالم الميثاق الأول. والإنسان في حاجة دائما إلى مطهر خضع هو بنفسه للتطهير من لدن مطهر، في إطار سلسلة تطهيرية إلى الإنسان الخاتم والنموذجي.. كما أن هذه الأخلاق المستخلصة هي أخلاق تأهيل: أي تأهيل القلب، لا ليكون محل العواطف والانفعالات والأهواء وحسب، ولكن ليكون محل العقل وتوابعه من المعرفة والتفكر والتذكر.. فيرتبط العقل بالشرع في القلب من خلال الأمر الجلل وهو نزول الوحي. كما أن هذه الأخلاق هي أخلاق تجديد أي تجدد الإنسان من خلال تغيير أصله وباطنه، ليصبح إنسانا جديدا.

فأخلاق شق الصدر هي، إذن، أخلاق عمق تطهر باطن الإنسان وتجدد عمقه، وتؤهله لتحمل المسؤوليات الجسام. وهذه الأخلاق العميقة مما يحتاج إليها العالم اليوم، بنظر طه، بعد الانهيار المروع للنظريات الأخلاقية والأنساق المعيارية والدساتير السلوكية الكبرى.

وأما الأخلاق الحركية، وهي التي تشكل النوع الأخير من عناصر الميثاق الأخلاقي، فتجسدها حادثة تحويل القبلة[78] التي تستخلص منها أخلاق ذات مميزات خاصة؛ فهي أخلاق إشارية، من حيث إن القِبلة، وهي أدل الأشياء على الحس، تستقبل للقيام بأدل الأشياء على العقل. فالمقصود، إذن، المعنى المجازي، أو قل الإشاري، واستقبالها في التعبد هو الخروج من محسوسيتها والدخول في معقولية التعبد[79]. كما أن هذه الأخلاق المستخلصة من حادثة تحويل القبلة ذات طبيعة انفتاحية، لما يخرج الإنسان من نفسه وينفتح على المتوجَّه إليه، وهو البيت العتيق حسا والله -جل جلاله- عقلا. وهي كذلك أخلاق اجتماعية، لما تورثه من أخلاق الانتساب إلى الجماعة، باستقبال أهل الميثاق المسلمين للقبلة وحجهم إليها في المواقيت المعلومة.

إن حادثة تحويل القبلة، في إطار الميثاق الأخلاقي، تمد الإنسان بأخلاق حركية تفتح الإنسان على العالم دلالة ومحيطا ومجتمعا. والعالم اليوم في حاجة إلى معرفة القبلة وأخلاقها؛ لأنه بالتوجه إلى القبلة يتحول الإنسان من الوجهات الخاصة المتصدعة إلى الوجهة الواحدة المتمكنة التي يرضاها.

ورد طه على من يشكك في قيمة هذا الميثاق الأخلاقي وقدرة المسلمين على إقناع العالم به، ويربط ذلك بقدرة المسلم على مضاهاة الغير في النظر والتفلسف، وجعل عقلانيته الميثاقية محيطة بعناصر العقلانية غير الميثاقية وأسبابها، مع إبراز حدودها وقصورها.

وباستكمال عرض أركان الميثاق الأخلاقي نكون قد بسطنا معالم الإطار المرجعي الذي نظرية طه الإنسانية من فسلفة الدين إلى الميثاق الأخلاقي.

الهوامش


[1]. ينظر: طه عبد الرحمن، “حوارات من أجل المستقبل”، ص105.

[2]. ينظر: طه عبد الرحمن، “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، ص98.

[3]. “حوارات من أجل المستقبل”، م، س، ص106.

[4]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص14.

[5]. ينظر: د. طه عبد الرحمن، “رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة”،  مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثامن عشر، (1422ﻫ/2002م)، ص209.

[6]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص65.

[7]. المرجع نفسه، ص77.

[8]. المرجع نفسه، ص74.

[9]. طه عبد الرحمن، “العمل الديني وتجديد العقل”، ص75.

[10]. ينظر: طه عبد الرحمن، “فقه الفلسفة”: 1. الفلسفة والترجمة، ص166.

[11]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص102.

[12]. المرجع نفسه، ص82، 55.

[13]. ينظر: “العمل الديني وتجديد العقل”، ص67.

[14]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص76.

[15]. “العمل الديني وتجديد العقل”، م، س، ص36.

[16]. عرف العقل المجرد عند علماء الإسلام بـ”النظر”، وهو الفعل الإدراكي الذي يطلب شيئا معينا، ويسلك إليه طرقا محددة مع الاعتقاد بأن هذه الطرق قادرة على الظفر بهذا الشيء المطلوب ينظر: نفسه، ص38.

[17]. المرجع نفسه، ص39-40.

[18]. المرجع نفسه، ص58-59.

[19]. ينظر: طه عبد الرحمن، “فقه الفلسفة”: 1. الفلسفة والترجمة، ص180، 181.

[20]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص75.

[21]. “العمل الديني وتجديد العقل”، م، س، ص72.

[22]. ينظر: د. طه عبد الرحمن “الممارسات الدينية ونقد العقلانية”، ، مجلة إسلامية المعرفة، السنة السادسة، العدد 23، شتاء (1421ﻫ/2001م)، ص121.

[23]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص75.

[24]. المرجع نفسه، ص71، وينظر أيضا: “الممارسات الدينية ونقد العقلانية”، ص122، وينظر أيضا: “العمل الديني وتجديد العقل”، ص173.

[25]. ينظر: “سؤال الأخلاق”، م، س، ص73، وينظر: “الممارسات الدينية ونقد العقلانية”، م، س، ص123.

[26]. “العمل الديني وتجديد العقل”، م، س، ص163.

[27]. المرجع نفسه، ص167.

[28]. ورد اللفظ الأول “نعقل” مرة واحدة في القرآن الكريم، وكذا لفظ “يعقلها”، وورد ذكر “تعقلون” 24 مرة، وتكرر ورود “يعقلون” 22 مرة.

[29]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص75.

[30]. ينظر: طه عبد الرحمن، “الممارسة الدينية ونقد العقلانية”، ص126.

[31]. ينظر: “سؤال الأخلاق”، م، س، ص88، 89، 109، 110، 111، 119.

[32]. المرجع نفسه، ص133-134.

[33]. المرجع نفسه، ص143.

[34]. المرجع نفسه، ص146.

[35]. المرجع نفسه، ص169.

[36]. “سؤال الأخلاق”، م، س، ص104.

[37]. المرجع نفسه، ص97.

[38]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص168.

[39]. المرجع نفسه، ص189

[40]. المرجع نفسه، ص47-48.

[41]. المرجع نفسه، ص191.

[42]. ينظر: فقه الفلسفة: 1. الفلسفة والترجمة: 28. وينظر أيضا نقد طه للسانيين المحدثين في تكوثر الخطاب كغرايس ولا كوف وبراون وليفنسن وليتش في “اللسان والميزان أو التكوثر العقلي”.

[43]. ينظر: فقه الفلسفة: 2. القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص29.

[44]. المرجع نفسه، ص97.

[45]. ينظر: فقه الفلسفة: 1. الفلسفة والترجمة، ص230.

[46] ينظر: فقه الفلسفة: 2. القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص96.

[47]. المرجع نفسه، ص31.

[48]. ما زال كثير من الأصوليين المعاصرين يعتبرون مبحث المقاصد جزءا لا يتجزأ من علم أصول الفقه، برغم دعوة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى التوسع في هذا المبحث وتأسيس علم مستقل بذاته، وهو “علم مقاصد الشريعة”. ينظر: د. أحمد الريسوني، “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، منشورات دار الأمان والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، جمادى الآخرة (1411ﻫ/ يناير 1991م)، ص359.

[49]. ينظر: د. طه عبد الرحمن، “رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة”، ص229 هامش رقم 5.

[50]. ينظر: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، ص153.

[51]. طه عبد الرحمن، “رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة”، ص224.

[52]. المرجع نفسه، ص209.

[53]. تختص بالبحث في الجوانب الأخلاقية للأفعال الشرعية والتي تدور على مفهومين أساسين هما: “القدرة” و”العمل” ينظر: نفسه، ص211.

[54]. تختص بالبحث في الجوانب الأخلاقية لهذه القصود التكليفية والتي تدور على مفهومين أساسين هما: “الإرادة” و”الإخلاص” ينظر: نفسه، ص212.

[55]. تختص بالبحث في الجوانب الأخلاقية للغايات الشرعية والتي تدور على مفهومين أساسين هما: “الفطرة” و”الإصلاح” ينظر: نفسه.

[56]. ينظر: طه عبد الرحمن، “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، ص69. و ينظر: “سؤال الأخلاق”، ص54. وهذه القيم الثابتة والشاملة، والتي يشترط فيها البقاء على حال الاستقرار وعلى حال الصدق، والتي تنبني عليها تكاليف الدين، هي التي اختصت بالذات باسم “المقاصد” ينظر: “سؤال الأخلاق”، ص69، 70، 74.

[57]. ينظر: “رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة”، م، س، ص219.

[58]. المرجع نفسه، ص225.

[59]. المرجع نفسه.

[60]. يرى طه أن العالم مقبل على تحول أخلاقي عميق قد ينتج عنه نظام أخلاقي عالمي جديد ينظر: د. طه عبد الرحمن، “الممارسة الأخلاقية والهوية الإنسانية”،  جريدة الإشارة، العدد الثاني، شوال (1420ﻫ/2000م). وعلى هذا الأساس اقترح “نظرية الزمن الأخلاقي” ناقضا النظرية الهيغيلية التي تلغي الإسلام والعرب من كل حسبان ينظر: طه عبد الرحمن، “روح العولمة وأخلاق المستقبل”، جريدة الإشارة، السنة الثانية، العدد 14، شوال (1421ﻫ/2001م).

[61]. ينظر: “سؤال الأخلاق”، م، س، ص224. ونشير إلى أنه بدأت تظهر دراسات دينية جديدة تستلهم معاني هذا المفهوم الذي أسسه طه وجعله مؤطرا مرجعيا لمشروعه العلمي، وتنطلق هذه الدراسات من أن الإنسان كائن ديني، وأن التعاطي مع الشأن الديني يجب أن يتم من خلال اعتبار الدين جزءا لا يتجزأ من تاريخ الذهن البشري من جهة، وأنه عنصر من أشد عناصر الوعي الإنساني جوهرية من جهة أخرى ينظر: “مدخل إلى فهم الظاهرة الدينية من منظور تاريخ الأديان”، خنجر حمية، مجلة المحجة، مجلة فصلية متخصصة تعنى بشؤون الفكر الديني والفلسفة الإسلامية المعاصرة، العدد الثاني، (1422ﻫ/ 2002م)، ص63، 67. كما تنطلق هذه الدراسات من تميز الإنسان بإيمانه وبطلبه المطلق، بما هو شيء غامض متباعد وغير مدرك، ولكنه في غاية الضرورة ينظر: بوليس الخوري، “خواطر في فلسفة الدين”،  مجلة المحجة، العدد نفسه، ص42. ويعرف البحث الديني، في مثل هذه البحوث الجديدة، بأنه تحقيق في الدين، وفي موضوع الدين والتدين، والمتدينين، وموضوعه الدين، والمراد والتعاليم الدينية. أما فلسفة الدين بالتحديد، فهي بنظر أحدهم، علم المطالعة الدينية العامة العقلانية في موضوع الدين، لمعرفة ماهيته. وقد يستعمل مصطلح آخر هو علم منطق فهم الدين ينظر: حجة الإسلام علي أكبر رشاد، “حوار تأسيسي في منطق فهم الدين”،  مجلة المحجة، العدد نفسه، ص105، 110، 113، 114، 115. وينظر أيضا الملف الذي خصصته مجلة المحجة، العدد الخامس، رجب (1422ﻫ/2002م)، لموضوع “الإيمان وإرادة الاعتقاد”، لنلحظ دوران مفهوم فلسفة الدين، في الدراسات الفلسفية والمعرفية الحديثة.

[62]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص172.

[63]. ينظر: طه عبد الرحمن، “تكامل المعارف، اللسانيات والمنطق والفلسفة”، ص87.

[64]. “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص45.

[65]. المرجع نفسه، ص118.

[66]. العلم المقصود في هذا الإطار هو المعرفة بالأسباب المادية التي تحدد الطبيعة الإنسانية، بيولوجية كانت أو اجتماعية أو نفسانية. والعلمانية المقصودة هي قطع الصِّلة بكل القيم التي لا تولِّدها مقتضيات التقدم العلمي – التقني، “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص122.

[67]. وضع أصول هذه النظرية الفيلسوف الألماني “هانس يوناس” HANS JONAS، فـي كتابه “مبدأ المسؤولية، أخلاقيات من أجل النظرة التكنولوجية”، وتقترح هذه النظرية للخروج من الوضعية الدائمة التبدل التي يتغير فيها التنبؤ، تجديدا أخلاقيا عن طريق إقامة ميثاق بيننا وبين الطبيعة، مثل الميثاق الذي بيننا وبين المجتمع، ميثاق يقوم على المسؤولية المشعرة بالخوف، وتجنب الأسوأ ودفع الأفسد ينظر: نفسه، ص124.

[68]. وضع أصول هذه النظرية الفيلسوفان الألمانيان “كارل أوتو آبل” KARL OTTO APPEL، في كتابه “في مسألة التأسيس العقلي للأخلاقيات في عهد العلم”، و”يورغان هابرماس” JURGEN HAPERMAS في كتابه “الأخلاق والتواصل”، وفيها يدعو آبل إلى تأسيس ما يسميه بـ”الأخلاقيات الكبرى” التي تشترك في وضعها جميع أمم الأرض عبر تواصل دائم بين أفرادها، كما عمل هابرماس من جهته على تأسيس أخلاقيات التواصل الذي يتخذ عنده صورة “المناظرة” ينظر: نفسه، ص126-167.

[69]. وضع أصول هذه النظرية الفيلسوفان الفرنسيان “جاك إيلول” JACQUES ELLUL، في مقالته “بحث من أجل أخلاقيات المجتمع التقني”، ودومينيك جانيكو D. JANICAUD، في كتابه “قوة المعقول”. وتقوم عند “إيلول” على أن دفع مساوئ وسائل القوة يتعلق بمعارضتها بأخلاقيات تقرر حاجة الأفراد والمؤسسات إلى الزهد في جزء من هذه الوسائل. أما “جانيكو” فقد اتجه إلى بيان كيف أن التصرفات التقنية تصير إلى الإضرار بحيث كان يجب أن تأتي بالنفع ينظر: نفسه: 127-128.

[70]. كما انتقد طه نظرية “تعددية القيم المتصادمة” في الفلسفة الأخلاقية الغربية المعاصرة، كما برزت مع “ماكس فيبر” و”أشعيا برلين” و”يورغان هابرماس” و”كارل أوتو آبل” و”جون رويز” و”ميكائيل ولترز”، واعترض طه على مبادئها التي تقوم على مبادئ: التعارض بين العقل والدين، والتعارض بين السياسة والأخلاق، والتطابق بين الثقافة والأخلاق، واقترح نموذجا عكسيا وهو “تعددية القيم المتصادفة”، ويوصل فيها العقل بالإيمان والسياسة بالخير والثقافة بالفطرة ينظر: «تعددية القيم، ما مداها؟ وما حدودها؟»، طه عبد الرحمن، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العددان 20-21، (1423ﻫ/2002م)، ص232-261.

[71]. ينظر: “سؤال الأخلاق”، م، س، ص133. وينظر مفهوم الاعتبار بمعنى طلب المقصد في: فقه الفلسفة: 1. الفلسفة والترجمة: 171. وينظر الاعتبار كذلك بمعنى جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائيا مما يشهده من أفعال ويتلقاه من أقوال في: “سؤال الأخلاق”، م، س، ص156.

[72]. ينظر: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص143.

[73]. نفسه، ص189-190. وينظر: “العمل الديني وتجديد العقل”، م، س، ص27، 73. وانظر علاقة العقل بالشرع في: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص149-150، 150، 151، 152.

[74]. ينظر: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص154.

[75]. ينظر: د. طه عبد الرحمن، “التربية الروحية الإسلامية والخروج من أزمات المعرفة المعاصرة”.

[76]. ينظر: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، م، س، ص160.

[77]. وهي بالفعل حادثة عجيبة، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى الاستغراب من تصديق طه لها، وهو صاحب التكوين المنطقي المتين؛ فكيف يصدق حادثة، لا تقنع، برأي هذا الناقد، الطفل الصغير ولا الشيخ الرئيس! ينظر: علي حرب، “الأختام الأصولية والشعائر التقدمية”، ص158. أما بنظر طه، فإن الذي لا يطيق عقله مثل تلك الأحداث، ويعتبرها مجرد خيالات، سواء كانت خيالات ممكنة، أي أوهام، أو خيالات غير ممكنة: أي أساطير، فإذا سلمنا له جدلا بأن هذه الأحداث خيالات واهمة، وليست وقائع ثابتة، فلا يجوز له أن ينكر أن مكانة الخيال في العقلانية الجديدة سوف تتقوى وتسمو إلى الحد الذي لا يسع هذه العقلانية إلا الإقرار بحقيقة تداخل التصور العقلي والتوهج الخيالي؛ فالأبحاث التي تنجز في مجال “علوم المعرفة” تبيِّن كيف أن العقلانية الحديثة في أصولها ومناهجها مبنية على جملة من الخيالات والمثالات، وهي تستند في ذلك إلى نظريات علمية حديثة منها: “نظرية الشواهد المثلى” و”نظرية دلاليات الإطارات” و”نظرية الفهم الاستعاري” و”نظرية الفهم القصصي” ينظر: “سؤال الأخلاق”، ص168. أما حادثة شق الصدر فهي مشهورة في كتب السنن ينظر: صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير-اليمامة، بيروت، الطبعة الثالثة، (1407ﻫ/1987م)، 1/135، 2/589، 3/1217-1218. وصحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي،  د. ت: 1/148-149. و: مسند أبي عوانة، أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني، تحقيق أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998 م: 1/ 119-120، و: مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، القاهرة: دار الريان للتراث. بيروت: دار الكتاب العربي،  1407ﻫ، 1/65. و: صحيح ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، (1414ﻫ/ 1993م)، 14/242، 243-248، 249، 16/420. والسنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية،  ط1، (1411ﻫ/1991م)، 1/140. وقد اختلفت المصادر السابقة حول زمن هذه الحادثة، فأشار ابن حبان مثلا في موضع إلى وقوعها في طفولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ديار حليمة السعدية، وذكر في موضع آخر أن وقوعها كان ليلة الإسراء، وهو ما تجمع عليه المصادر الأخرى، ويشير ابن حجر إلى أن هناك من استنكر وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ويعترض على ذلك بأن الروايات قد تواردت به وثبت شق الصدر أيضا زمن البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل ينظر: فتح الباري، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر الشافعي العسقلاني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة، 1379ﻫ: 7/ 204-205، ورجح عياض أن شق الصدر كان وهو صغير عند مرضعته حليمة بالإجماع، لكن السهيلي يرجح بأن ذلك وقع مرتين وهو الصواب برأي ابن حجر ينظر: نفسه، 1/460. ورغم غرابة الحادثة فإن أيا منهم لم يستنكر وقوعها، وإن كان الخلاف حول زمنها سببا كافيا في نظرنا للتفكير في ذلك، والله أعلم.

[78]. وردت في قوله تعالى: “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ” (البقرة: 143).

[79]. ينظر: “سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، ص165.

Science

د. محمد همام

باحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق