مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (7)

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله أو من غيره:

* قوله تعالى في ءاخر سورة الأحقاف: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ اُ۬لْعَزْمِ مِنَ اَ۬لرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ بَلَٰغٞ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا اَ۬لْقَوْمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَ﴾.

وقْفُ الهبطي ﴿وَلَا تَسْتَعْجِلۖ﴾، ثم استأنف ووقف على قوله تعالى: ﴿بَلَٰغٞۖ﴾.

قال الإمام أبو جعفر النحاس رحمه الله: «وقال أبو حاتم: أخبرني من لا أطمئن إليه أن الوقف ﴿وَلَا تَسْتَعْجِل﴾ ثم ابتدأ ﴿لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ بَلَٰغٞ﴾ أي: لهم بلاغ، وقال: هذا مما لا أعرفه، ولا أدري كيف تفسيره، وهو عندي غير جائز.

وقال أحمد بن موسى: ﴿لَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ تمام الكلام، وروى يونس عن الحسن ﴿إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ﴾ تمام الكلام، ثم ابتدأ ﴿بَلَٰغٞ﴾.

وقال يعقوب: ومن الوقف قول الله جل وعز: ﴿إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ﴾، فهذا الكافي من الوقف، ثم قال: ﴿بَلَٰغٞ﴾، أي: ذلك بلاغ.

وقال أبو حاتم: ﴿إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ﴾ وقف جيد.

وقال أحمد بن جعفر: ﴿إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ﴾ تَمَّ، ثم قال: ﴿بَلَٰغٞ﴾، أي: [ذلك] بلاغ، وعن نافع ﴿إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّه۪ارِۢ﴾، وإن شئت وقفت على ﴿بَلَٰغٞ﴾.

قال أبو جعفر: فمن قرأ ﴿بَلَٰغاٗ﴾ فها هنا وقفه، ومن قرأ ﴿بَلِّغْ﴾ على الأمر فوقفه ﴿مِّن نَّه۪ارِۢ﴾، والتمام ءاخر السورة»(1).

وقال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله: «وقال قائل: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِل﴾، ثم تبتدئ ﴿لَّهُمْ﴾، أي: لهم بلاغ، ولا وجه لما قال؛ لأن المعنى: فلا تستعجل للمشركين بالعذاب»(2).

وقال الأشموني رحمه الله: «﴿وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ جائز، ولا يوقف على ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾؛ لأن خبر ﴿كَأَنَّـ﴾ قولُه: ﴿لَمْ يَلْبَثُوٓاْ﴾، ﴿مِن نَّه۪ارِۢ﴾ كاف، ويبتدئ ﴿بَلَٰغٞ﴾ خبر مبتدإ محذوف، أي: هذا القرءان بلاغ للناس، وقيل: ﴿بَلَٰغٞ﴾ مبتدأ خبره ﴿لَّهُمْ﴾ الواقع بعد قوله: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾، أي: لهم بلاغ، والوقف على قوله: ﴿تَسْتَعْجِل﴾، ثم تبتدئ: ﴿لَّهُمْ… بَلَٰغٞ﴾، وقال أبو جعفر: وهذا لا أعرفه، ولا أدري كيف تفسيره، وهو عندي غير جائز. وقال غيره: لا وجه له؛ لأن المعنى: ولا تستعجل للمشركين بالعذاب، والتام عند أحمد بن موسى ﴿وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾.

وقرأ عيسى بن عمر ﴿بَلَٰغاٗ﴾ بالنصب بتقدير: إلا ساعة بلاغا، قال الكسائي: المعنى فعلناه بلاغا. وقال بعضهم: نصب على المصدر، أي: بلغ بلاغا، فمن نصبه بما قبله لم يوقف على ﴿مِن نَّه۪ارِۢ﴾، ومن نصبه بإضمار فعل وقف عليه.

وقرئ ﴿بَلَٰغٖ﴾ بالجر بدلا من ﴿نَّه۪ارِۢ﴾، فعلى هذا الوقف على ﴿بَلَٰغٖ﴾.

وكذلك على قراءة من قرأ ﴿بَلِّغْ﴾ على الأمر، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك»(3).

وقال المحقق محمد بن عبد السلام الفاسي -وذَكَرَ كلام الحافظ المتقدم-: «وكأن نظر هذا القائل هو نظر الهبطي، قال البيضاوي على هذا القول: أي لهم وقت يبلغون إليه، كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة أعمارهم اهـ. وهو وجه جيد، إلا أن الوجه الأول الذي ذكره الداني أظهر؛ أي: ولا تستعجل بالعذاب للمشركين استطالةً لمقامهم في الدنيا على عتوهم، فإنهم إذا ماتوا وعاينوا ما يوعدون، فكأن حالهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، هذا الذي وعظتم به بلاغ من الله ومن رسوله إليكم، والله أعلم»(4).

فهذا الوقف -على ما فيه من تعرضات الأئمة له- منقول عن الإمام نافع المدني، ونُقل عن مسبع السبع ابن مجاهد أيضا، قال ابن القاضي رحمه الله: «وقدَّرَ ابن مجاهد ﴿بَلَٰغٞ﴾ مبتدأً، وخبره ﴿لَّهُمْ﴾، ووقف على ﴿تَسْتَعْجِل﴾، وليس بجيد؛ لما فيه من تفكيك الكلام بعضه من بعض»(5).

لذلك لا يمكن اتهام الإمام الهبطي -إن صح عنه هذا الوقف- بالجهل بالنحو، وطعنه في جنبه بكلام لا نرضاه لصغار طلبة العلم، فبالحرى لإمام مقرئ نحوي، كما فعل الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله، قال: «الوقف على ﴿لَّهُمْ﴾ وقف واضح يدركه من قرأ “المقدمة الأجرومية”، ولكن الهبطي وقف على ﴿تَسْتَعْجِل﴾ وهو ممنوع باتفاق»(6).

فانظر أخي القارئ الكريم إلى هذا التقحم على الإمام الهبطي رحمه الله، وإلى المجازفة بإرسال الكلام بَدَدا، دون حفظ لمقامه العلمي والقرائي.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القطع والائتناف: 662.

(2) المكتفى: 197.

(3) منار الهدى: 360-361.

(4) الأقراط والشنوف: (لوحة:97 /ب).

(5) القول الفصل: (246ب)، وينظر قراءة الإمام نافع: (4/204).

(6) منحة الرءوف المعطي: 24.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق