مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (10)

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا -في الأغلب- لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذا أنموذج آخر من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهه وتأصيله:

* قوله تعالى في سورة فصلت: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ﴾

وقف الهبطي على قوله تعالى: ﴿وَظَنُّواْۖ﴾، ثم استأنف نافيا: ﴿مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ﴾.

قال النحاس رحمه الله: «وقال أبو حاتم: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ﴾ تام، وخولف في هذا فقيل: التمام ﴿مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ﴾؛ لأن المعنى وأيقنوا أنه لا ينفعهم الفرار»(1).

وقال الأشموني رحمه الله: «وجوز أبو حاتم الوقف على ﴿ءَاذَنَّٰكَ﴾، وعلى ﴿وَظَنُّواْ﴾، والابتداء بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف: ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٖ﴾ كاف، و﴿مِنَّا﴾ خبر مقدم، و﴿مِن شَهِيدٖ﴾ مبتدأ مؤخر، أو ﴿شَهِيدٖ﴾ فاعل بالجار قبله لاعتماده على النفي ﴿وَظَنُّواْ﴾ تام. قاله أبو حاتم السجستاني»(2).

وعده الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله وقفا تاما، قال: «﴿إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ تام، ومثله ﴿مِن شَهِيدٖ﴾، ومثله ﴿وَظَنُّواْ﴾ إذا قدر بمعنى الكذب، فإن قدر بمعنى العلم فالتمام ﴿مِن مَّحِيصٖ﴾»(3).

وقال أبو الحسن الغزال النيسابوري رحمه الله: «﴿وَظَنُّواْ﴾ عند قوم»(4) أي: كاف.

وقال أبو إسحاق الجعبري رحمه الله: «﴿وَظَنُّواْ﴾ كاف على الاتصال، صالح على الانتقال»(5). ومقصوده أن الوقف على ﴿وَظَنُّواْ﴾ وقف كاف إذا كان المعنى متصلا بما قبله، ويكون صالحا إذا أعملته فيما بعده، وهو ما يوضحه ابن عطية رحمه الله، قال: «وقوله: ﴿وَظَنُّواْ﴾ يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ويكون الوقف عليه، ويكون قوله: ﴿مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ﴾ استئناف نفي أن يكون لهم منجى أو موضع رَوَغان، يقول: حاص الرجل؛ إذا راغ يطلب النجاة من شيء، ومنه الحديث: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه، أي: ظنوا أن هذه المقالة: ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٖ﴾ منجاةٌ لهم، أو أمْرٌ يُمَوِّهون به، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله ﴿مِن قَبْلُ﴾، ويكون ﴿وَظَنُّواْ﴾ متصلا بقوله ما لهم ﴿مِن مَّحِيصٖ﴾ أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين»(6).

وقال أبو حيان رحمه الله: «والظاهر أن ﴿وَظَنُّواْ﴾ معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي ﴿وَظَنُّواْ﴾، وقيل: تم الكلام عند قوله: ﴿وَظَنُّواْ﴾، أي: وترجح عندهم أن قولهم: ﴿مَا مِنَّا مِن شَهِيدٖ﴾ منجاةٌ لهم، أو أمْرٌ يُمَوهون به. والجملة بعد ذلك مستأنفة، أي: يكون لهم منجى، أو موضع روغان»(7).

فهما وجهان وقفيان، اختار أحدهما الشيخ الهبطي رحمه الله، وهو مسبوق فيه بالإمام أبي حاتم السجستاني والحافظ أبي عمرو الداني وغيرهما…

وقد استشكل الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله هذا الوقف، ولم يدر وجه اختيار الشيخ الهبطي له، قال: «والهبطي اختار هذا الوقف الضعيف، ولا أدري لم اختاره؟!»(8).

واستند في ضعفية هذا الوقف على قول الحافظ الإمام ابن جزي رحمه الله: «﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ﴾ الظن هنا بمعنى اليقين، والمحيص المهرب، أي: علموا أنهم لا مهرب لهم من العذاب، وقيل: يوقف على ﴿وَظَنُّواْ﴾، ويكون ﴿مَا لَهُم﴾ استئنافا، وذلك ضعيف»(9).

وقد بينا بأقوال الأئمة السابقين وجه هذا الوقف ومسلكه، ولم اختاره ورجحه، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القطع والائتناف: 629.

(2) منار الهدى: 687.

(3) المكتفى: 187.

(4) الوقف والابتداء: 3/130.

(5) وصف الاهتداء: 506.

(6) المحرر الوجيز: 5/22.

(7) البحر المحيط: 9/315.

(8) منحة الرؤوف المعطي: 22-23.

(9) التسهيل لعلوم التنزيل: 2/243.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق