مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

أحسن الحديث (9): الثبات والصبر على البلاء استمدادا من السيرة النبوية (معالم ونماذج)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد؛

       فإن الإنسان معرض في حياته للبلايا والمحن، لأن الحياة بطبيعتها سلسلة متصلة الحلقات  من الأفراح والنعم والمسرات، وأيضا البلايا والمصائب والمحن، وهذه سنّة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والمؤمن الصادق في إيمانه يقابل كل ذلك بالرضا والتسليم، فيقابل النعم  بالشكر ، والمصائب بالصبر والثبات، احتسابا لوجه الله وإيمانا به جلا وعلا،  مصداقا لقول الله تعالى: ﴿وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ([1]) ، ويقول تعالى: ﴿ ولنبولنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المتهدون ([2])، ومن أسباب تسهيل المصائب: أن يتأسى الإنسان المسلم بأصحاب الفضل السابقين، ويتذكر ما أصابهم من بلاء، فيعلم أنه إن أصابه بشيء، فقد ابتلي بأعظم منه، من هو أفضل منه، من من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين ذاقوا المصائب والمحن والابتلاءات بمختلف أشكالها، فلم تُسبب جزعهم، ولم تُنقص من فضلهم. ولنا في سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة الحسنة؛ فالمتأمل لسيرته صلى الله عليه وسلم يجدها لا يخلو فيها موضعٌ إلاّ ويظهر صبر وثبات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واضحٌ في حياته صلى الله عليه وسلم كلها، منذ ولادته صلى الله عليه وسلم وحتى آخر لحظة في حياته. ولأهمية هذا الموضوع  أحببت أن أخصه بمقال أتحدث فيه  عن نماذج من ثبات وصبر النبي صلى الله عليه عند نزول البلايا والمحن فأقول وبالله اعتمادي:

لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الثبات والصبر على المحن، وهي كثيرة وسأكتفي بذكر  ثلاثة نماذج منها وهي:

محنة اليتم في الصغر:  عانى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم محنة اليتم  بفقد والديه، فقد مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب وهو حملٌ لم يُولد بعد، ثم ماتت أمُّه السيدة آمنةُ بنت وهب وهو في سن السادسة من عمره، فأصبح يتيم الأب والأم، لكن الله تعالى قد أعانه على اليتم وهيَّأ له من الأسباب المعينة التي يتغلَّب بها على هذه المحنة،فهيأ له عطف جده وأعمامه، وحببه إلى الناس، ويسر له المراضع، مما خفف من وقع اليتم عليه، ولقد ذكّره الله سبحانه وتعالى بذلك، في قوله تعالى: (ألم يجدك يتيما فآوى) ([3])

وفي هذا توجيه للأيتام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ بأن يتحملوا محنة اليتم ويصبروا عليه، وأن يتذكروا أنهم ليسوا هم الأيتام فقط، فقد كان خير الناس وصفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يتيماً.

محنة فقد الأهل والأحباب: إن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن إحدى المحن والابتلاءات التي ألمّت به كانت في فقده لأبنائه وبعض أهله؛ حيث مات ابنيه قبل الدعوة، وفي عام الحزن مات عمه أبو طالب،  وزوجته خديجة، ومات كثيرون من أصحابه، وفقد بناته الثلاث، ثم مات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أن قال: “إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم   لمحزونون” ([4])

وفي هذا درس وعبرة وعظة لأولئك الذين فقدوا أحدا من أحبابهم، بأن سيدهم وسيد ولد آدم وخير الناس محمد صلى الله عليه وسلم قد ذاق من هذه المحنة شدتها، ليصبر هؤلاء ويقتدوا بقائدهم وحبيبهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم في صبره على هذه المحنة.

محنتة في سبيل تبليغ الدعوة: لقد مر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته بمحن كثيرة ، فقد آذاه المشركون، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، ووضعوا الأوساخ على رأسه وجسده، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم عليك الملأ من قريش، أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، أو أبي بن خلف، فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر غير أمية بن خلف أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر” ([5])

وحاصرته قريشٌ وأصحابه وأهله في شِعْب أبي طالب قرابة الثلاث سنوات لا يأكلون إلا أوراق الشجر؛ وأخرجوه وأهله وأصحابه من مكة إلى المدينة، وتعرض في غزوة أحد للكثير من الأذى، فشج رأسه، وكسرت رباعيته،عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد،وشج رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله” ورغم ذلك كلّه، فقد بقي ثابتاً يجمع أصحابه ويقوّيهم ويرفع من عزائمهم، كما صبر -عليه الصلاة والسلام- على فراق عمّه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- ، وليس هذا الصبر والثبات في غزوة أُحد فحسب بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابتاً دائماً في جميع غزواته.

وبلغت المحنة شدتها عندما طعنه المنافقون في عرضه الشريف صلى الله عليه وسلم، وذلك في حادثة الإفك، فصبر صلى الله عليه وسلم حتى أظهر الله براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، ولم ينل أو ينتقم ممن خاض في عِرْضه، بل صبر واحتسب ذلك عند الله.   

هذا ما تيسر لي ذكره في هذا الموضوع ، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجزي كاتبه، ومصححه، وناشره، وقارئه.

والحمد لله رب العالمين.

******************

هوامش المقال:

([1]) سورة الحج الآيات: (34-35).

([2]) سورة البقرة الآيات: (155-157).

([3]) سورة الضحى الآية: (6).

([4])أخرجه البخاري في صحيحه (1 /401)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون، برقم: (1303).

([5])  أخرجه البخاري في صحيحه (3 /55) كتاب:  مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة،برقم: (3854)، ومسلم في صحيحه (2 /863)، كتاب: الجهاد والسير، باب:  ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين برقم: (1794).

***********

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق