مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

أبرز المتون الدراسية الحديثية في عهد الدولة العلوية

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

أما بعد؛

فإن العناية بالمناهج الدراسية في الدولة العلوية الشريفة، لم يكن مقتصرا على أبناء الشعب فقط، بل كان هذا النظام سار على المدارس الأميرية أيضا، فهذا العلامة مولاي عبد الرحمن بن زيدان يصف لنا نظام تعليم الأبناء والبنات في القصر الملكي، فيقول رحمه الله تعالى: “قد شرق وغرب حديث اعتناء ملوك دولتنا العلية العلوية بتعليم أبنائهم، وأفلاذ أكبادهم تعليما صحيحا، واختيارهم لهم الأستاذة الماهرين العارفين بأساليب التعليم النافع، المعروفين بالصلاح والدين المتين، وإبعادهم عن أمهاتهم وأقاربهم، والحيلولة بينهم وبين الرفاهية ومظاهر الأبهة، وفخفخة الملك، وعظمة السلطان، لعلمهم أن ذلك من أعظم القواطع والعوائد عن التحصيل، والوصول على مقامات الرجال، المقتدى بهم في الأقوال والأفعال … قد كانت لدولتنا العالية اهتمام زائد بتعليم البنات، شريفات ومشروفات، لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام”[1].

لقد كانت المساواة في تلقي العلوم بين جميع أفراد المجتمع هي الميزة البارزة في المرحلة العلوية إلى العصر الحديث، فقد خصَّ المغفور له الملك  محمد الخامس في خطابه بمناسبة الذكرى السابعة والعشرين لميلاد المغفور له الملك الحسن الثاني، وذلك يوم الاثنين متم قعدة عام: 1375 الموافق لـ: 9 يوليوز عام: 1956 بوصية خالدة، ونصها: “يا بني: اخترت لك من الأسماء (الحسن) لأربط بين حاضر البلاد وماضيها القريب والبعيد، وليكن لك في جدك المولى الحسن خير أسوة وأعظم قدوة، فلم تكد تطل على السادسة من عمرك حتى قدمتك للمعلم ليلقنك آيات القرآن، وليغرس في قلبك الطاهر الفتي، حب الدين وعزة العروبة والإسلام، ولما ترعرعت يا بني اخترت بقاءك تحت سماء المغرب، ليتم تكوينك الثقافي في بيئة مغربية فبنيت لك مدرسة خارج القصر ليتربى فيك الاعتماد على النفس، فحرمتك من مجاملة الخادمات، وحنان المربيات، حتى تزدهر شخصيتك، وتصبح عصاميا بارزا، قبل أن تكون أميرا، ثم أحطتك برفقاء من مختلف طبقات الشعب؛ لأنني كنت أريد أن أعدك إعدادا منتزعا من بيئة بلادك، فكنت أحرص أن يعاملك رفقاؤك كباقي إخوانك التلاميذ تقارعهم الحجة بالحجة، فلا يخضعون لك إلا بقدر ما تبديه من تفوق ومعرفة، وهذا ما كنت أرجوه من المدرسة المولوية، انعزال عن القصر واعتماد على النفس، وخوض معترك الحياة، لقد سهرت يا بني على بناء المدرسة وبرامج التعليم، وكنت المفتش فيها والمراقب، وكنت أفاجئكم في الدروس وأحيانا بالليل، فكنت تقوم وتسرع إلي باسما مبتهجا، كما أني كنت أراقب دفاتر واجباتك فأجازيك إذا تفوقت، وأعاقبك إذا قصرت ولكن والحمد لله قلما كنت متأخرا.
يا بني: لقد كنت صارما مع الأساتذة وكنت ألح عليهم أن يعودوك الطاعة والامتثال، وان لا يتساهلوا معك وإلا يحترموا فيك إلا القيم الإنسانية المجردة وما أفاء  الله عليك به من ذكاء وعلم وأدب وعمل”[2].

كما حرص جلالة الملك المرحوم  محمد الخامس على تنشئة ابنه البار جلالة الملك الحسن الثاني، وصار شغله الشاغل أن يعد بنفسه برنامجا محكما لتربيته بَدَنيا وفكريا، وتعليمه تعليما يتناسب مع مقتضيات العصر، ولم يكن تعليم الأمراء يختلف عن تعليم من أسعده الحظ من أبناء الشعب بالدخول إلى المسيد فالجامع، يبدأ بتعليم الكتابة والقراءة تقليدا من غير إتقان لقواعدهما، وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، محاكاة دون فهم لمعانيه ولا معرفة بما يتضمنه من: أحكام، وأخلاق، وقصص، ومواعظ، فإذا حذق (المحضري) القرآن، وكان مراد أهله أن يوجهوه توجيها علميا، انقلب إلى (طالب) يقرأ العلوم ويحفظ متونها، كالآجرومية في النحو، والمرشد المعين في الفقه، والمقدمة الصغرى في التوحيد، والحساب بالحمارة، وكلما حفظ متنا وفهم ما فيه من قواعد انتقل إلى متن في نفس الموضوع أوسع من الأول كلما وأشمل موضوعا، فالآجرومية تتلوها الألفية، والمرشد المعين تتبعه الرسالة، والمقدمة الصغرى تعقبها الوسطى فالكبرى أو إضاءة الدجنة، وإتقان علم من العلوم يفضي حتما إلى قراءة علم يرتبط معه بسبب، فبعد النحو يدرس الصرف لمعرفة الاشتقاق، والعروض لوزن الشعر، والبلاغة لتجويد الإنشاء وتمييز ما في الكلام من محسنات، ومن الضروري حفظ بعض الخطب النثرية، والقصائد الشعرية الشهيرة :كخطب الإمام علي، والمعلقات السبع أو العشر، للاستشهاد بما فيها من حوشي اللفظ وشذوذ نحوي وصرفي ناشئ عما أثر عن القبائل العربية من لهجات، وما طرأ على تلك اللهجات من مولد ودخيل، ومثل ذلك يقال في حق التوحيد الذي يدرس بعده المنطق لتعلم الجدل في الذات والصفات والأفعال الإلهية بأسلوب المنطق اليوناني، وفي حق الفقه الذي ينتهي بدارسه إلى علم الأصول لاستنباط الأحكام، وعلم الحساب لقسمة الإرث، وعلم الفلك والهيأة لتحديد سمت القبلة وضبط مواقيت الصلاة، ولابد من التبرك بقراءة السيرة النبوية والشمائل والمغازي واستظهار بعض النصوص المديحية والدعائية كالبردة والهمزية والصلاة المشيشية والحزب الأكبر للإمام الشاذلي”[3].

وقد حرص ملوك الدولة العلوية الشريفة الحرص الشديد، واهتموا أيما اهتمام في تلقي المتعلم التركيز على الجوانب الثلاثة في التأطير والتعليم في المساجد والمعاهد والمدارس والزوايا: الجانب الفكري، والجانب المذهبي، والجانب العقائدي، وفق الوحدات الثلاث المعروفة: وحدة المذهب الفقهي؛ وهو مذهب الإمام مالك، ووحدة المذهب العقائدي؛ وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، ووحدة المذهب الصوفي؛ وهي طريقة الجنيد[4]، فهذه الثلاثة جوانب كانت وما تزال هي المانعة الصائنة من الشرخ، والتفرقة، والتصدع بين المجتمع المغربي الموحد عبر قرون، ومن التطرف والغلو، فملوك الدولة العلوية سلكوا مسلك الوسطية اقتداء بسنة جدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتمسكا بحديثه الشريف  صلى الله عليه وسلم.

إن فن الحديث ازدهرت حركة التأليف فيه، في العهد العلوي الشريف، ودخلت إلى المغرب كتب حديثية من قبيل مسانيد الأئمة: أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشافعي، فكان لذلك أثر كبير على الدراسات الحديثية المغربية، إذ اعتنى بها المحدثون وتدارسوها، وطعموا تآليفهم بما فيها من أحاديث[5].

تعددت مراكز تدريس علوم الحديث، والتي شكلت مجالات أساسية لتداول الحديث وعلومه خلال مراحل تاريخية مديدة من تاريخ المغرب، وتندرج في هذا الإطار المراكز الحديثية بفاس: وتشمل كراسي الحديث بجامع القرويين، وجامع الأندلس، ومسجد الشرفاء، وبمكناس: وتشمل كرسي الحديث بالجامع الأعظم، وبزرهون: وتشمل كرسي الحديث بالمسجد الأعظم، والضريح الإدريسي، وبالرباط: وتشمل كرسي الحديث بالمسجد الأعظم، ومسجد ابن السائح، وبسلا: وتشمل كرسي الحديث بالمسجد الأعظم، وبسوس: عدد من من المساجد والزوايا، والمدارس[6].

لم يكن الأساتذة يتخلفون عن التدريس مهما كانت الظروف حتى في حالة المرض، فهذا العلامة الحسن بن رحال التادلي المعداني (المتوفى عام: 1140هـ)، يقول عنه القادري: “شرع في إقراء الشفا، وهو مريض، والطلبة يدخلون عليه للقراءة بفراشه”[7]، وكانت الدراسة تبدأ من بعد صلاة الصبح إلى ما بعد صلاة العشاء.

هذا حال الأساتذة، وأما الطلبة فكل حسب قدراته، واجتهاده، ومثابرته، فقد كان بعضهم يوصلون النهار بالليل في الطلب لا يفترون، فهذا العلامة علي بن ميمون الشريف الحسني (المتوفى عام: 917هـ)[8] يقول: “كان أكلنا من وقت العشاء إلى وقت العشاء، ولا يمكننا الأكل في النهار لكثرة المجالس في أنواع العلوم”[9]

وكان الأساتذة والطلبة كلما أنهوا دراسة مؤلف معين يقيمون احتفالا كبيرا يسمونه يوم الختم، وكان يوم الختم يوما شهودا يحتفل به الطلبة والأستاذة على السواء، وربما حضره ممثل السلطان أو السلطان نفسه.

وغالبا ما يمنح الأستاذ إجازة للطالب الذي تلقى على يديه أصنافا من العلوم، والإجازة هي اعتراف تام من الأستاذ لطالبه بنجابته وقدرته على تدريس المادة أو الكتاب الذي تلقاه على يد شيخه وأتقنه، وغالبا ما تكون هذه الإجازة بالمجالسة[10].

عرفت المرحلة العلوية حركة علمية نشيطة تمثلت في دراسة وتدريس الحديث النبوية الشريف، فانتشرت المجالس الحديثية، وازداد الإقبال على فن الحديث وعلومه، إذ اعتنى به المحدثون فدرَّسوه وتدارسوه، فأشهر ما في كتب السنة: موطأ الإمام مالك، وصحيح الإمام مسلم، وصحيح الإمام البخاري، والسنن الثلاثة: الترمذي، وابن ماجه، وأبي داود، والنساني، ومشارق الأنوار للصغاني، وشهاب القضاعي، والأربعين النووية، وغيرها، وأشهر ما في المنظومات والأراجيز في المصطلح: منظومة ابن فرح الإشبيلي: غرامي صحيح، ومنظومة ابن زكري التلمساني: معلم الطلاب بما للأحاديث من الألقاب، وأرجوزة البيقوني في مصطلح الحديث: البيقونية، ومنظومة  محمد العربي الفاسي: طرفة الطرف في مصطلح من سلف.

***********

هوامش المقال:

[1]– العز والصولة في معالم نظم الدولة 1 /75-77.

[2]– الوصية الخالدة: من والد صالح إلى ابن بار ص: 23_31.

[3]– الحسن الثاني في الكتّاب القرآني لعبد الوهاب بنمنصور ص: 27_29.

[4]– المجالس العلمية السلطانية على عهد الدولة العلوية الشريفة لآسية الهاشمي البلغيثي ص: 214-215.

[5]– المحدثون في عهد السلطان المولى محمد بن عبد الله (4) للأستاذ أحمد العمراني ص: 364، المجالس العلمية السلطانية على عهد الدولة العلوية الشريفة ص: 196.

[6]– قسم الدراسة من معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين لحسن الوزاني 1 /141-142.

[7]– الإكليل والتاج في تذييل كفاية المحتاج ص: 215، وتنظر ترجمته فيه ص: 214.

[8]– ترجمته مع مصادرها في الإكليل والتاج في تذييل كفاية المحتاج ص: 466_468.

[9]– بحث: ملاحظات حول مناهج الدراسة والتدريس في القرن (12هـ/18م) من خلال كتاب الإكليل والتاج لمحمد بن الطيب القادري لمارية دادي نشر ضمن أعمال ندوة الحركة العلمية في عصر الدولة العلوية إلى أواخر القرن التاسع عشر ص: 218.

[10]– بحث: ملاحظات حول مناهج الدراسة والتدريس في القرن (12هـ/18م) من خلال كتاب الإكليل والتاج لمحمد بن الطيب القادري لمارية دادي نشر ضمن أعمال ندوة الحركة العلمية في عصر الدولة العلوية إلى أواخر القرن التاسع عشر ص: 219.

جريدة المراجع

الإكليل والتاج في تذييل كفاية المحتاج لمحمد بن الطيب بن عبد السلام القادري، تحقيق: مارية دادي، تقديم: محمد بنشريفة، مطبعة شمس، وجدة- المغرب، 2009.

الحركة العلمية في عصر الدولة العلوية إلى أواخر القرن التاسع عشر، بحث لمارية دادي: ملاحظات حول مناهج الدراسة والتدريس في القرن (12هـ/18م) من خلال كتاب: الإكليل والتاج لمحمد بن الطيب القادري، نشر ضمن أعمال الندوة التي نظمت بوجدة، أيام: 9-10-11 دجنبر 1993، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول، وجدة- المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- المغرب.

الحسن الثاني في الكتَّاب القرآني لعبد الوهاب بنمنصور، دعوة الحق، عدد خاص بمناسبة عيد العرش، العدد: 3 سنة: 1389 /1970.

العز والصولة في معالم نظم الدولة لأبي زيد عبد الرحمن بن زيدان، اعتناء: عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط- المغرب، 1381 /1961.

المجالس العلمية السلطانية على عهد الدولة العلوية الشريفة لآسية الهاشمي البلغيثي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية- المغرب، 1416 /1996.

المحدثون في عهد السلطان المولى محمد بن عبد الله (4) لأحمد العمراني، دعوة الحق، العدد: 11، سنة: 1414/ 1993، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط- المغرب.

معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين لعبد الرحمن بن زيدان العلوي المكناسي، تحقيق: حسن الوزاني، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دار أبي رقراق، الرباط- المغرب، الطبعة الأولى: 1430/ 2009.

الوصية الخالدة: من والد صالح إلى ابن بار، دعوة الحق، عدد خاص بعيد الشباب المجيد، العدد: 270 سنة: 1988، مطبعة فضالة، المحمدية- المغرب.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق