مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

(11) رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (11)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد مضت مدارسة خفيفة لاختيار التخيير، وانتخاب الإطلاق، واجتباء الإهمال، وفي هذا المعقد نقف عند ترجيح الشيخ بالتعيين لقول دون قول، ورواية دون أخرى:

ولعل الناظر هـهنا قد يستد له أن الاختيار نوع ترجيح أيضا؛ إذ لا يختار مختار التخيير أو الإطلاق أو الإهمال إلا بناء على مآخذ اعتنت له، ومسالك درجت بين أنظاره كما أسلفنا، وذلك أشبه إلا أن الترجيح في سياقنا أخص؛ لأنه مراجحة بين قولين فأكثر؛ مدارسة لأدلتهما، ونظرا في دلالة نصوصهما، واعتبارا بما احتف من قرائن الحال والمقال في سياقهما، حتى إذا ما استد النظر، وبان بالحجة قوة أحدهما انتزع من مجموع الأقوال انتزاعا، وضمن في الملخص محررا منقحا، ولعل اختيار الإطلاق والتقييد أو الإهمال عن هذا المسلك بمعزل، ويكون بالتوقف؛ لتساوي الأدلة أشبه، والله أعلم

فإذا ثبت ما زبرناه فإن مطلب الترجيح ينعقد في معاقد ثلاث:

المعقد الأول ترجيح قول المدونة: وهو جل ما في الرسالة، وعليه المعول فيها؛ لما فيها من التحرير الذي لا يوجد في غيرها؛ ولذلك جعل ابن فرحون المشهور هو مذهب المدونة،([1]) ولم يلتفت إلى أنه ما قوي دليله، أو كثر قائله؛ لأنهما يلزمان عن كونه فيها؛ ولذا تقرر في المذهب أن من «نظر ولم يظهر له دليل الترجيح، أو لم يكن من أهله، فقول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها رواه عنه ابن القاسم أو غيره؛ لأنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها، وعلى رواية غيره في غيرها عن الإمام، وقول غيره فيها مقدم على قول ابن القاسم في غيرها، وذلك لصحتها، فإن فقد ذلك فليفزع في الترجيح إلى صفاتهم..» ([2])

ومن أمثلة ذلك في الرسالة قول الشيخ رحمه الله: «ثم تقول السلام عليكم تسليمة واحدة عن يمينك تقصد بها قبالة وجهك وتتيامن برأسك قليلا هكذا يفعل الإمام والرجل وحده، وأما المأموم فيسلم واحدة يتيامن بها قليلا، ويرد أخرى على الإمام قبالته يشير بها إليه، ويرد على من كان سلم عليه على يساره فإن لم يكن سلم عليه أحد لم يرد على يساره شيئا»([3]) ففي النص مسائل فقهية اقتصر فيها على مذهب المدونة وهو المشهور، وأغفل سائر الأقوال:

المسألة الأولى: حكم السلام، فظاهر قول الشيخ هـهنا الفرضية، وهو منصوصه في آخر الرسالة، حيث قال: «والسلام فريضة»([4]) وفي المذهب قولان:

الأول: أنه فرض لا يخرج المصلي إلا به، وهو المشهور، وهو ظاهر المدونة؛ ولذلك أورد الإمام سحنون بعد كلام الإمام حديث:(مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)([5]) تأييدا وتأصيلا.

والقول الثاني:أنه ليس بفرض؛ إذ جائز الخروج من الصلاة بالحدث أو غيره، وهو قول ابن القاسم في العتبية؛ لحديث: (إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد تمت صلاته)([6])

فمبنى الخلاف تعارض الحديثين: فمن رجح الحديث الأول، وأيده بالعمل كما قال في التمهيد: «فثبت التسليم قولا وعملا»([7])،  قال بالفرضية، ومن رجح الثاني قال بعدمها، وهو ضعيف جدا؛ لضعف الحديث ثبوتا ودلالة، فأما الثبوت فلا يصح؛ لضعف الإفريقي في سنده([8])، وأما الدلالة فلكونه مخصوصا بالحدث، وما سواه مقيس عليه، فلا يقوى على مراجحة معارضه؛ لوضوح دلالته.

والحاصل أن الشيخ رجح الفرضية؛ لكونها ظاهر المدونة، ومنصوص الشارع، وضعف الثاني؛ لكونه قول ابن القاسم خارج المدونة، وقد مر لك ما فيه، ولضعف أصله ثبوتا ودلالة.

المسألة الثانية: لفظ السلام هل يعرف أو ينكر، قولان:

فمذهب المدونة التعريف؛ لقوله فيها: « قال ابن القاسم قال مالك: ولا يجزئ من السلام من الصلاة إلا «السلام عليكم»، ولا من الإحرام إلا «الله أكبر»([9])

وقيل: يجوز التنكير، فيقول: «سلام عليكم»، وفي النوادر: قال عنه أشهب في العتبية: «سلام»([10])

ومبناه على قاعدة: هل الألف واللام في «السلام» للتعريف أو للجنس؟ فمن استد له كونها للجنس أجاز التنكير، ولم يلتفت إلى الفعل؛ لكونه لا ينفي الجواز، ومن رآها للتعريف، واعتبر بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والعمل من بعده، أنكر التنكير، بل أبطل به الصلاة وهو ظاهر المدونة([11])

فهذا مسلك الشيخ في ترجيحه التعريف، والتنصيص عليه دون غيره.

المسألة الثانية: في عدد التسليمات، والقول فيه ـ كما في نص الشيخ ـ بحسب محله: إماما وفذا ومأموما:

فأما الإمام ففي المذهب ثلاثة أقوال:

الأول: أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه يقصد بها قبالة وجهه، ويتيامن برأسه قليلا، وهو المشهور، ونص المدونة، قال الإمام سحنون: «قلت لابن القاسم: أرأيت الإمام كيف يسلم؟ قال: واحدة قبالة وجهه ويتيامن قليلا»([12])

والثاني: أنه يسلم تسليمتين، وهو في سماع أشهب عن مالك.

والثالث التفصيل: فإن صلى مع الواحد اكتفى بواحدة، وإن صلى مع اثنين فاثنين، وهي رواية أبي الفرج عن مالك([13])

ولعل الشيخ رجح ما في المدونة للعمل، ويؤيده ما في صحيح مسلم عن مجاهد عن أبي معمر: «أن أميرا كان بمكة يسلم تسليمتين» فقال عبد الله: أنى عَلِقها؟ قال الحكم في حديثه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله»([14]). وقوله «أنى علقها» أي: من أين حصل على هذه السنة وظفر بها؟ فكأنه تعجب من معرفة ذلك الرجل بسنة التسليم، وهذا يدل على أن المعروف عكسه، ويؤيده قياس الإمام مالك رحمه الله التسليم على التكبير، قال: «وكما تدخل في الصلاة بتكبيرة واحدة فكذلك تخرج منها بتسليمة واحدة»([15])

ووجه الثاني حديث مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: (كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده) ([16])

ووجه الثالث النظر؛  إذ الأصل تسليمة واحدة للخروج، وما يروى من غيرها فللرد؛ فلذا اشترط العدد والله أعلم.

ومحصل القول أن راجح الشيخ من أجل كونه مشهور المذهب ومنصوص المدونة، وقياس مالك، وعليه العمل؛ ولأن مقابله كالنادر بالنسبة للأول بدليل تعجب عبد الله في شأنه، حتى قال: «أنى علقها»؟

وأما الفذ فالمشهور أنه يسلم تسليمة واحدة كما قال الشيخ: «هكذا يفعل الإمام والرجل وحده» وهو منصوص المدونة، قال الإمام سحنون: «فقلت له: فالرجل في خاصة نفسه؟ قال: واحدة ويتيامن قليلا»([17])، ومقابله رواية ابن وهب عن مالك: يسلم تسليمتين، قال في الواضحة: «ويسلم الفذ تسليمتين: واحدة عن يمينه، وأخرى عن يساره، والمأموم كذلك وثالثة رد على الإمام.. قاله مطرف عن مالك»([18])، ومبناه على ما سلف في شأن الإمام.

وأما المأموم فالمشهور أنه يسلم تسليمتين: واحدة للخروج من الصلاة، والثانية للرد على الإمام، فإن كان على يساره أحد رد عليه، وإلا فلا، وهو نص المدونة، والمرجوع إليه من قبل مالك، ففي المدونة: «عن نافع أن ابن عمر «كان يسلم عن يمينه ثم يرد على الإمام» وبه يأخذ مالك اليوم، قال مالك: فإن كان على يساره أحد رد عليه»([19]).

ومقابله أن يسلم ثلاثا: عن يمينه وشماله ثم يرد على الإمام، وهو متروك الإمام مالك، ففي المدونة: «عن زهرة بن معبد أنه رأى سعيد بن المسيب «يسلم عن يمينه ويساره ثم يرد على الإمام» وكان مالك يأخذ به ثم تركه»([20])

فيتحصل من مجموع ما سلف أن التسليم في مشهور المذهب ومنصوص المدونة واحدة، وهو الأصل للخروج؛ لقول مالك: «وكما تدخل في الصلاة بتكبيرة واحدة، فكذلك تخرج منها بتسليمة واحدة»، والثانية غير لازمة، وبالأحرى الثالثة؛ لأنه إذا كفت الأولى في رد السلام أغنت عن الثانية، وكذلك إن كفت الثانية في شأن المأموم أغنت، وإلا كانت الثالثة كما قال الإمام مالك رحمه الله، فآل الأمر إلى النقاش الأول في تسليمة الإمام([21]).

 

([1]) البهجة في شرح التحفة للتسولي:1/40.

([2]) البهجة في شرح التحفة للتسولي:1/40.

([3]) المدونة:1/161.

([4]) ص 194 باب جمل من الفرائض..

([5]) المدونة:1/161.

([6]) ن التمهيد لابن عبد البر: 10/213.

([7]) يعني: وجوبه كما هو سياق النص في التمهيد:7/87.

([8]) قال الحافظ في التمهيد:10/214 «وهذا حديث لا يصح لضعف سنده واختلافهم في لفظه»

([9]) المدونة:1/161.

([10]) النوادر والزيادات:1/190.

([11]) مناهج التحصيل للرجراجي:1/509.

([12]) المدونة:1/226.

([13]) ن النوادر والزيادات:1/189، ومناهج التحصيل:1/510.

([14]) صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السلام للتحليل من الصلاة وفراغها وكيفيته

([15]) النوادر والزيادات:1/189

([16]) صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السلام للتحليل من الصلاة وفراغها وكيفيته

([17]) المدونة:1/226.

([18]) النوادر والزيادات:1/189.

([19]) المدونة:1/226.

([20]) المدونة:1/226.

([21]) ن مناهج التحصيل:1/511.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق