مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نماذج من أثر الثقافة الفقهية في نظرية حازم

1 ـ الأثر الأول :

أثر فقهه في نظره إلى نظرية الفضائل النفسية في البلاغة، نظرا دينيا، وما في ذلك من التأثر الخفي بشيخ شيخه الفقيه الفيلسوف ابن رشد.

وذلك أن حازما قد تحدث عما يشبه الفضائل النفسية عند قدامة وهي أركان أربعة عليها مدار التحسينات والتقبيحات عنده وهذه هي الدين، ويعبر عنه أيضا بالورعِ ، والعقلُ ، والمروءةُ ، والشهوةُ . وكل ركن منها تتعلق به مذاهب من التحسينات والتقبيحات تصل إلى أربع وعشرين صورة ، تتضاعف القسمة فيها : ( إذا اعتبر تحسين الشيء نفسه أو تقبيحُهُ  بالنظر إلى ما يكون عليه في نفسه وما يرجع إليه ، أو بالنسبة إلى ما يكون منه بسبب مما هو خارج عنه، ومن جهة ما يقع منه أو به فعلٌ ) . وقد جعل حازم الأحوال المطيفة بالفعل سبعة ، فأصبحت ستا وخمسين ناحية من الأنحاء المطيفة بالفعل، إذا علمنا أن تحسين الفعل وتقبيحه يقع في كل ركن من الأركان الأربعة، والتي هي: الورع والعقل والمروءة والشهوة ، من ثمانية أنحاء.

وهذا من أثر ابن رشد القائل في تلخيص الخطابة: “وأما العفة ففضيلة يكون بها المرءُ في شهوات البدن على مقدار ما تأمر به السُّنَّةُ؛ والفجور ضد هذا”. 

2 ـ الأثران الثاني والثالث:

أ ـ أثر نظره الفقهي في إقامة التوفيق بين النظرية البلاغية المعضودة بالحكمة وبين النظرية البلاغية المتصلة بالشريعة.

ب ـ وأثره في قياس الكلي والجزئي على كليات التشريع، وجزئيات التفويض.

يرى حازم أن مهمة البلاغي الباحث في الكليات التشريعُ، ومهمة البلاغي الباحث في الجزئيات التفصيلُ. وهذا تصور كأني به قد قاسه على قول ابن سينا في الخطابة: (…على أن الأولى أن تكون الأحكام الكلية مفروغا عن التشاجر فيها ، وأن يكون الشارع والأئمة فرغوا من تحديدها. وإنما تكون التفريعات الجزئية مفوضة إلى الحكام أنفسهم، دون المتنازعين. فإن القضاء على العدل، والجور، والمصلحة، والمفسدة، مما لا يفي به كل بنية وكل قريحة، ولا القريحة الوافية به تقتدر على الفتوى الجامع للمصلحة إلا عن روية ينفق عليها مدة من العمر. فكيف يصلح لهذا القضاء كل من يصلح للحكومات الجزئية ؟ ولو صلح لذلك، لكان الزمان الذي في مثله يفصل الأمر بين المتشاجرين، يضيق عن إنشاء الرأي السديد فيه. وإذا لم يكن ذلك إلى الحكام، فكيف إلى من يليهم من العوام ؟ فالقوانين الكلية موكولة إلى وضع الشارع .ولا بد من شارع من عند الله. وأما استعمال الكليات في الجزئيات فيقوم به الحكام، حتى يكون غاية نظرهم إنما هو في كون الأمر الجزئي، وغير كونه، سالفا أو حاضرا، أو من ذي قبل. ويكون الحكم الكلى متقبلا من الشارع .فكما أن الحكام القاصرين عن رتبة الشارعين يقصرون عن وضع الشريعة، كذلك الشارعون لا سبيل لهم إلى الحكم في جزئي جزئي بعينه مما لا يتناهى).

وأظن هذه النزعة مظهرا من مظاهر عصر حازم الميال إلى هذا التوفيق ، فقد ألف ابن رشد وهو شيخ شيخه الشلوبين كتابه ” فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ” وحاول المتصوفة التوفيق بين الشريعة والحقيقة ، فكأن حازما حاول هو أيضا إقامة التوفيق بين النظرية البلاغية المعضودة بالحكمة وبين النظرية البلاغية المتصلة بالشريعة ، وأَصَّلَ لذلك بوضع قوانين كلية ، والقوانين الكلية عنده بمعنيين هما:

أولا: القوانين المطلقة، أو قوانين الشعر المطلق، وهي بهذا المعنى تكاد توافق معنى القوانين الكلية عند ابن رشد، أي ( القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر). وإنما قلت : تكاد ، لأن ابن رشد يعتقد أن هذه القوانين المطلقة هي القوانين الأرسطية، بينما يرى حازم أن القوانين الأرسطية موضوعة بحسب الشعر اليوناني، وأنها قوانين ناقصة. وإنما القوانين الكلية عنده هي القوانين المستندة إلى الحكمة والفلسفة وما ضمته من علوم. لذلك كان التشابه بين الرجلين في التعريف لا في مضمون هذا التعريف.

ثانيا : القوانين الجامعة ، أي القوانين التي لا تعنى بالجزئياتِ قدر ما تعنى بما يجمع هذه الجزئيات ويضبطها في قانون عام.

والملاحظ في كل هذا أن حازما خالف غيره من معاصريه في كون فقهه لم يمنعه من التفتح على العلوم، وخاصة علم المنطق. إذ اعتمد المنطق في نظريته وهو في عرف جماعة من المتقدمين وكثير من المتأخرين علم قصد به كيد الإسلام وأهله، وأن ( بينه وبين الشرعيات منافرة )، لذلك أفتى ابن الصلاح ( ت : 643 هـ ) معاصر حازم بتحريمه، وألف ابن تيمية في نقض قواعده كتابه: ” نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان “، وخص السيوطي هذا الكتاب بتلخيص سماه: ” جهد القريحة في تجريد النصيحة”، ثم ألف بعد ذلك كتابه:” صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام “. بينما اعتبرت البلاغة عند المتأخرين من علوم يستفيد منها الباحث في الشريعة، فلم يروا لذلك أن يستعملوا في علم له علاقة بالشريعة فنا بينه وبين الشرعيات منافرة .وأيضا فقد رأوا أن المنطق صناعة والبلاغة صناعة أخرى، ولا يجوز إدخال صناعة في صناعة. لذلك كان إنكار العلماء كابن الصلاح ( ت : 643 هـ ) وأبي شامة ( ت : 665 هـ ) وغيرهما على من أدخل المنطق في أصول الفقه. وأنكر غير هؤلاء إدخال المنطق في علم النحو، لأن أهل الفلسفة قد قالوا: ( يجب حمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها وكانوا يرون أن إدخال صناعة في أخرى إنما يكون لجهل المتكلم أو لقصد المغالطة والاستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى عند ضيق الكلام  عليهم). 

3 ـ الأثر الرابع: أثر تصوره الشرعي في منهجه في الكتاب، وفي اختيار عنوانه. 

يبدو أن اختيار مصطلح ” المنهاج ” في دلالته على الطريق ، وَنَقْلَه من الدلالة عليها إلى الدلالة على القوانين هو من خصائص اللغة الشرعية، فقد لاحظ ” كارتر “( M c Carter)أن من المظاهر المحتملة للعقلية العربية كون ( أغلب الكلمات التي تشير إلى السلوك الإنساني هي استعارات مشتقة من مفهوم الحركة  طولا عبر خط مستقيم. فلفظة الشريعة تعتبر المثال الخاص، يضاف إلى ذلك السنة، السيرة، الصراط المستقيم، الطريقة “طريقة الصوفية ” وهي كلها مفردات تقنية خاصة بالإسلام، وهناك مفردات أخرى مثل: سبيل، مذهب، وجه، حلال، خطيئة  (1) ( أي الخروج عن الطريق )، مسلك، دليل ” بمعنى برهان “..).

4 ـ الأثر الخامس: التحسين والتقبيح بين النظر الفقهي والنظر الفلسفي.

قال حازم مبينا كيفية التهدي إلى التحسينات والتقبيحات التي ينحى بالأقاويل المخيلة نحوها:( فأما طريق التهدي إلى تحسينات الأشياء وتقبيحاتها بالمحاكاة فإنه لما كان المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده بما يخيل لها فيه من حسن أو قبح وجلالة أو خِسَّة وجب أن تكون موضوعات صناعة الشعر الأشياء التي لها انتساب إلى ما يفعله الإنسان ويطلبه ويعتقده. والأقاويل الدالة على تلك الأشياء من حيث تُخَيَّل بها تلك الأشياء . فتحسين المحاكاة وتقبيحها إما أن يتعلقا بفعل أو اعتقاد، أو يتعلقا بالشيء الذي يفعل أو يعتقد. 

وطرق تعلقها بالشيء أو فعله أو اعتقاده أربعة : 

1 ـ إما أن يحسن الشيء من جهة الدين ….

2 ـ وإما أن يحسن من جهة العقل …

3 ـ وإما أن يحسن من جهة المروءات والكرم …

4 ـ وإما أن يحسن من جهة الحظ العاجل وما تحرص عليه النفس وتشتهيه مما ينفعها …

فوقوع التحسينات والتقبيحات في التخاييل الشعرية إنما يسلك به أبدا طريق من هذه الأربعة وهي : الدين والعقل والمروءة والشهوة ). وهكذا لم يخرج حازم بجعله المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء وطلبه أو التخلي عن فعله أو طلبه عما جعله الفلاسفة الهدف من الشعر بل ومن المحاكاة كلها، فالمحاكون والمشبِّهون عندهم ( إنما يقصدون بذلك أن يحثوا على عمل بعض الأفعال الإرادية وأن يكفوا عن عمل بعضها). وهو ما يعبر عنه بالطلب والهرب أيضا. والأمور التي يقصد محاكاتها لا تخرج عن كونها إما فضائل وإما رذائل، وقد جعلها حازم محصورة في أربعة طرق هي: الدين والعقل والمروءة والشهوة. فالفضيلة ما حُسِّن من هذه الجهات، والرذيلة ما قبح من هذه الجهات أيضا. وهي طرق تذكرنا بنظرية (الفضائل النفسية) لقدامة بن جعفر، فكأن حازما كان ينظر إليها من قريب محاولا تعديلها لتوافق تعريف المناطقة للشعر وهو كونه محركا، لذلك جعل ( الشهوة ) طريقا إلى التحسين والتقبيح، وهي ليست فضيلة نفسية فلم يكن لها مكان ضمن نظرية قدامة، وكان لها هذا المكان في حديث حازم لأنه كان يتحدث عن محركات لا عن فضائل.

وقد أضاف حازم إلى المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى اعتقادِ الشيء أو التخلي عن اعتقاده، ومن ذلك تحسين الشيء من جهة الاعتقادات الدينية وهو ما يفهم من قولـه: (… أن يحسن الشيء من جهة الدين وما توثره النفس من الثواب على فعل شيء أو اعتقاده ) . وهذا هو الأمر الذي لم يقل به غيره . والظاهر ـ والله أعلم ـ أن حازما نظر في مثل قول ابن سينا: ( وأما العبارة والاعتقاد والنظر فهو الذي يقصد محاكاته ) وفي مثل قول ابن رشد:( والفرق بين القول الشعري الذي يحث على الاعتقاد ، والذي يحث على العادة ، أن الذي يحث على العادة يحث على عمل شيء أو على الهرب من شيء . والقول الذي يحث على الاعتقاد إنما يحث على أن شيئا موجود أو غير موجودٍ، لا على شيء يطلب أو يهرب منه ). فظن من جهة أن الاعتقاد مقصود بالمحاكاة والتي يعد الشعر من أساليبها، وظن من جهة أخرى أن تعريف المناطقة ناقص لكونه يخرج القول الذي يحث على الاعتقاد من دائرة القول الشعري ، إذ هو لا ينهض إلى فعلٍ وإنما ينهض إلى اعتقاد . فكان تعريفه للمقصود بالشعر هو ( إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده). وبذلك يكون التعريف تاما في نظره، خاصة أنه قد قرأ لابن رشد أو لمثله أن الاعتقادات أعظم أجزاء المديح، وأن الاعتقاد يقوم على المحاكاة لكونه ( هو القدرة على محاكاة ما هو موجود كذا أو ليس بموجود كذا). 

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1-     يقصد الحرام .

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق