مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

مقومات الشعر ومقاصده عند المرزوقي

من الأمور التي كان شيخنا الدكتور عبد الله الطيب ـ رحمه الله تعالى ـ ينبه عليها، ويقول بها، عن عبارة  عمود الشعر التي دأب الناس أن يعتبروها اصطلاحا: إنها ليست بمصطلح، وإنها لو كانت كذلك «لكان النقاد قد أفردوا لها بابا أو فصلا… وإنما كان قولهم: عمود الشعر، كقولهم: عمود كذا وكذا، أي: قوامه، وما ينبغي أن يعمد إليه فيه، وقولنا: الصلاة عماد الدين، ليس عماد الدين فيه اصطلاحا للصلاة، ولما ينبغي أن تكون عليه، ولكنه وصف وتمثيل، وكذلك قولك: عمود الشعر…ولا يعقل أن يكون قولهم: عمود الشعر اصطلاحا، ثم يكون من بعد لا مدلول له إلا البلاغة والجودة»(1).ولذلك فنحن لن نتحدث، هنا، عن مذهب في الشعر، ولكن عن وجوه ومقاصد تُقصد، فوجب أن ينظر إلى هذه الكلمة بناء على هذا الفهم.يقوم «عمود الشعر»، كما عرفه المرزوقي، على سبعة مقومات هي:

ولذلك فنحن لن نتحدث، هنا، عن مذهب في الشعر، ولكن عن وجوه ومقاصد تُقصد، فوجب أن ينظر إلى هذه الكلمة بناء على هذا الفهم.

يقوم «عمود الشعر»، كما عرفه المرزوقي، على سبعة مقومات هي:

أولا: «شرف المعنى وصحته» (2)، ويقصد بشرف المعنى سلامته من العيوب، وفي الحديث: «أمرنا أن تستشرف العين والأذن»، يعني في الأضاحي، أي تتفقد وتتأمل فعل الناظر المستشرف أو تطلبا شريفتين بسلامتها من العيوب» (3). وأن يكون له فضل على غيره من المعاني، فكل «ما فضل على شيء فقد شرف» (4). وكذلك يقصد بصحة المعنى خلوه من العيوب، فالصحة «خلاف السقم، وذهاب المرض» (5) وعلامة ذلك، أن لا يخرج عن مجموعة من الشروط، هي:

أولا: أن ينهج الشاعر في معناه نهج العرب القدماء.

ثانيا: أن يكون واصفا للمثال متابعا للعرف.

ثالثا: أن تكون المعلومات التي يأتي بها في شعره صحيحة، إذ إن الشعر علم العرب ومناط الحجة والشاهد.

رابعا: أن يراعي الشاعر قواعد التفكير السليم.

خامسا: أن يناسب بين الأوصاف وبين الأغراض، أو بعبارة ابن سنان أن يكون صحيح الأوصاف في الأغراض(6).

وعيار صحة المعنى وشرفه، كما يقول المرزوقي، «أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب: فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنسا بقرائنه، خرج وافيا، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته»(7). أي أن عياره الأهم هو مدى وجود عدد من المعاني تشبهه وتؤيده، فيستأنس بها ويبعد عن الوحشة(8). ولا شك أن هذه المعاني التي ينبغي أن يقرن إليها، إنما هي معاني القدماء، إذ إن هذا هو ما يرمي إليه أنصار العمود المنتصرين لقديم الشعر ضد مذهب البديع. فكأن المطلوب من المعنى الشريف أن يكون ذا نسب قديم في المعاني، وقد جاء في اللسان: « […] والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء»(9).

ثانيا: «جزالة اللفظ واستقامته» (10)، ومعنى ذلك أن لا يكون اللفظ ركيكا (11) أو تستعمله العامة في محاوراتها، وإن كان يطلب مع ذلك أن تعرفه إذا سمعته (12) وعيار ذلك « الطبع والرواية والاستعمال» (13).

ثالثا: «الإصابة في الوصف»(14)، ويبن الآمدي مذهب العرب في الوصف، وهو المذهب الذي يدعو إليه أصحاب العمود، فيقول عنه: « […] وهذا مذهب من مذاهب العرب عام في أن يصفوا الشيء على ما هو، وعلى ما شوهد من غير اعتماد لا غراب ولا إبداع» (15) وعيار الإصابة في الوصف «الذكاء وحسن التمييز» (16).

رابعا: «المقاربة في التشبيه» (17)، وعيار المقاربة في التشبيه «الفطنة وحسن التقدير» (18) والواجب هنا الوضوح والبعد عن إعمال الفكر، أو كما قال المرزوقي: «فأصدقه ما لا ينتقض عند العكس، وأحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوب من التشبيه أشهر صفات المشبه به وأملكها له، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس»(19).

خامسا: «التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن» (20)، وعياره الطبع واللسان، فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده (21)، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمرا فيه واستسهلاه، بلا ملال ولا كلال، فذاك يوشك أن يكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة تسالما لأجزائه وتقارنا (22)، وهذا يعني أن القصيدة عبارة عن بناء يتكون من عدة أجزاء هي الكلمات والأبيات فتلزق الكلمة بالكلمة والبيت بالبيت، فيجب لذلك مراعاة مواضع الربط التي هي الفصول والوصول، فمتى كان البناء محكما متلاحما، فذلك هو المطلوب والمستجاد وفق عمود الشعر. وكما يعرف التحام أجزاء النظم بالطبع، كذلك تعرف اللذة في الوزن بنفس الطريقة، فمتى طرب الطبع لإيقاع الشعر فهناك الوزن اللذيذ، ولا سبيل إلى قواعد أو صفات محددة تدلنا على ذلك.

سادسا: «مناسبة المستعار منه للمستعار له»(23)، وعيار الاستعارة، الذهن والفطنة، وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به، ثم يكتفى فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له(24).

سابعا: «مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما»(25) وعيار ذلك «طول الدربة ودوام المدارسة» (26).

وهكذا يتبين لنا أن عيار كل هذه الأبواب إنما يتلخص في أمور، هي:

أولا: الفهم والعقل والذكاء وحسن التمييز والفطنة.

ثانيا: الطبع والرواية والاستعمال والدربة والممارسة.

وبأسلوب آخر يتلخص هذا في الطبع والدربة والعقل، أي أن معرفة جودة هذه العناصر إنما تعتمد أساسا على القدرة الشخصية للناقد في تمييز الجيد من الرديء، بعكس مذهب البديع الذي يقدم لنا –كما سيظهر بعد- مجموعة من القواعد يمكن لكل مطلع عليها أن يدرك الجودة في الشعر ويتبين الرداءة فيه.

وقد وضع عمود الشعر، كما يقول أستاذنا الدكتور محمد الكتاني، انتصارا «للقدماء وأشياعهم ومتبعي مذهبهم على المحدثين المجددين، لأن هذا المقياس لم يشتق إلا من الشعر الجاهلي» (27). لذا كان مقياس عمود الشعر يقدم دائما باعتباره مقياسا للمفاضلة بين الأشعار عند العرب، فبمقدار توفر شعر الشاعر على هذه الخصال تعين منزلته بين الشعراء وبمقدار تمكن القصيدة من هذه الشرائط تقدم أو تؤخر وتستجاد أو تنبذ. فأبواب عمود الشعر هي مقاييس الجودة عندهم، أما مقاييس البديع فلا يعبأ بها.

وهكذا نجد القاضي الجرجاني يقول: « […] وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض(28)، وكذلك يقول الأردستاني عن العرب أنها «لم تكن تهتم بتتبع البديع إذا حصل لها عمود الشعر» (29).

وبذلك طرح العموديون قواعدهم على أنها مقاييس الجودة التي كانت تعتمدها العرب، أما مقاييس البديع فغنهم اعتبروها بعيدة عن الذوق العربي الحقيقي؛ أي أنهم حاولوا القيام بشيئين:

أولهما: التمكين لمقاييس العمود وجعلها المعتمدة في الحكم على الشعر.

وثانيهما: الغض من شأن مقاييس البديع، واعتبارها محدثة لم تكن العرب تعبأ بها.

وفي مقابل ذلك كان رواد البديع يؤكدون دائما أن هذا العلم كان معروف لدى القدماء مستعملا عندهم، وإنما استكثر منه المحدثون فقط.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – مع المرزوقي في عمود الشعر. د. عبد الله الطيب. مجلة مجمع اللغة العربية. القاهرة. ج. 62. رمضان. 1408 هـ/مايو 1988م.

2- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

3- الزمخشري، اساس البلاغة، مادة، «شرف» ص: 327.

4- ابن منظور، لسان العرب مادة «شرف» 9/170.

5- نفس المصدر مادة «صحح» 2/507.

6- سر الفصاحة، ابن سنان ص:256.

7- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

8- الوحشة: الخلوة والهم، ابن منظور، لسان العرب مادة «وحش» 6/371.

9- نفس المصدر مادة «شرف» 9/169، وانظر أيضا القاموس للفيروزآبادي مادة «شرف» 3/162.

10- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

11- القاموس ، الفيروزآبادي مادة «جزل» 11/109.

12- الصناعتين، العسكري ص:79.

13- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

14- نفس المصدر.

15- الآمدي، الموازنة ص:392.

16- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

17- المصدر نفسه.

18- المصدر نفسه.

19- المصدر نفسه.

20- المصدر نفسه.

21- عقد البناء بالجص يعقده عقدا: ألزقه. والعقد: ما عقدت من البناء والجمع أعقاد وعقود. ابن منظور لسان العرب مادة «عقد» 3/297.

22- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/10.

23- المصدر نفسه 1/9.

24- المصدر نفسه 1/10- 11، والملاحظ أن القاضي الجرجاني في الوساطة ص: 33- 34 لا يجعل الاستعارة من أبواب عمود الشعر، التي هي عنده، أولا: شرف المعنى وصحته، ثانيا: جزالة اللفظ واستقامته، ثالثا: الإصابة في الوصف، رابعا: المقاربة في التشبيه، خامسا: البديهة، سادسا: كثرة سوائر الأمثال وشوارد الأبيات. أما الاستعارة فيقول عنها: إن العرب لم تكن تحفل بها، كما أنها لم تكن تعبأ بالبديع، إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض. كما أن المرزوقي لا يعد العنصر السادس من ضمن أبواب عمود الشعر، وإنما يجعله نتاجا لاجتماع العناصر الثلاثة الأول (شرح ديوان الحماسة. المرزوقي 1/9).

25- المرزوقي، شرح ديوان الحماسة 1/9.

26- المصدر نفسه 1/11.

27- د. محمد الكتاني الصراع بين القديم والجديد 2/565.

28- الجرجاني، الوساطة ص: 33- 34 وانظر أيضا شرح حماسة أبي تمام للمرزوقي 1/11.

29- ابن حيدر البغدادي، قانون البلاغة ص:81.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق