مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

طِيبُ رَائِحَة النَّبي ﷺ

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

 

الحمْدُ لله الذي خَصَّ نبيَّه ﷺ بجميل الصِّفات، ووهبَه من ضُروب الجَمال والكَمال درجاتٍ ومقامَات، فهُو طيِّب النَّفس، والقَلْب، والرُّوح، نَزَّه الموْلى العَلي جسَده الشَّريف من الآفَات والأَقْذَار، ونشَر عَرَف رَائحته بيْن النَّاس فسَارت بها الأَخْبار.

والصَّلاة  والسَّلام على مَعْدن الطِّيب، ومرْكَز الجُود مُحمَّد النَّبي الطَّاهر، النَّقي، التَّقي، الزَّكي، ما هبَّت نفحَات الورود، وانْتشى مُنتش عَرَف العُود.

وبعد؛ فإنَّ الله سبْحانه وتَعالى خصَّ نبيه المصْطفى ﷺ بطِيب جَوْهره، وجمَال منْظَره، وميَّزَه بطِيب رَائحته، وجَميل هيْئته، مما لا يُوجد عنْد غَيره مِن عبَاده، وصدق الناظم حين قال[1]:

لا تَقِسْ بِالنَّبِيِّ فِي الفَضْل خَلْقاً

***

فَهُو البَحْرُ وَالأَنَامُ إِضَاءُ

كُلُّ فضْلٍ فِي العَالمَينَ فَمِنْ فَضْـ

***

ـلِ النَّبِيِّ اسْتَعَارَهُ الفُضَلاءُ

وقَال عِياض  رَحمه الله: «وأمَّا نَظافةُ جِسْمه، وطِيب رِيحه، وعَرَقِه، ونَزاهتِه عنْ الأقْذَار، وعَوْرات الجسَد، فكان قد خصَّهُ الله تعالى في ذلك بخَصَائص لمْ تُوجد في غيْره، ثُمّ تممَها بنظَافة الشَرْع، وخِصال الفِطرة العَشْر»[2].

وَقد ورَد في دَواوين الآثَار، ومعَاجم الأخْبار أخبار سنية عن طِيب رائِحته ﷺ ، وأنَّ طِيبه هذا يفُوق كلّ طِيب ، وأنَّ رَائحته أزْكى من كلِّ ريح، ومن ذَلك مَا جاء عنْ أنسٍ رَضي الله عنْه قال: «ما شَمِمت عنْبرا قطُّ، ولا مِسكا، ولا شيئا أطيَب منْ ريحِ رسُول الله ﷺ»[3].

يَا طِيب الذَّات يَا مَن كَان عُنْصره

***

مِسكاً يفُوح الشَّذا منْه وكَافُورا[4]

وإذا مَرَّرَ ﷺ كَفَّه الشَّريفة على أحَد من أصْحابه بَقي عَرَفُ رَائحته الزَّكية بجَسده،  مِن ذلكَ ما جَاء عن جَابر بن سَمُرة رَضي الله عنه قَال: «صَلَّيت مع رسُول الله ﷺ صلاةً الأُولى، ثمَّ خرجَ  إلى أهْله وخَرجت معهُ، فاسْتقبله وَلدَان، فجَعل يمْسح خَدَّي أَحَدِهِمْ واحدًا واحدًا، قَال: وأمَّا أنا فمَسح خَدِّي، قال: فوجدْتُ لِيده برْدًا، أو ريحًا كأنما أخرجها من جُؤْنَةِ عطَّار» [5].

وثَبت عن أبِي جُحَيْفة رضي الله عنه أنه قال: «خَرج رسُول الله ﷺ بالهَاجرة إلى البطْحاء فتوضَأ، ثم صلى الظُّهر ركْعتين، والعصْر ركعتين، وبين يديه عَنزة، – قال شُعبة: وزَاد فيه عون عن أبيه أبي جحيفة – قال: كان يمرُّ من ورَائها المرأة، وقام النَّاس فجعلوا يأخُذون يديه فيمسَحون بها وُجوههم، قال: فأخذت بيدَه فوضَعتها على وَجهي؛ فإذا هي أَبْرد من الثَّلج، وأَطْيب رائحةً من المسْك» [6].

تُنبِيك نَفْحَتُه إذَا فغمت

***

عَن طيبِ مَغرِسِ ذلكَ الأصْلِ[7]

وإذَا تَحذَّر عَرَقُه من جَبِينه الشَّريف ﷺ كَأنَّه حبَّاتُ الجمَان كَان أَطْيَبَ الطِّيب، وَأَزْكَى مِن المِسْك وَالرَّيَاحِين،  فَكَان الصَّحَابة يتَنافسُون في أَخْذ عَرقه الطَّيب ومزْجه مع مَا عنْدهم مِن الطِّيب فيزْدَادُ طيبًا عَلى طِيب، من ذلك ما جَاء عن أنَس بن مَالك رَضي الله عنْه قَال: «دَخل عَلينا النَّبي ﷺ َفقَالَ عندنا فَعرِق، وجَاءت أُمِّي بقَارُورة فجَعلت تَسْلُت العَرق فِيها، فاسْتيقظ النَّبي ﷺ فقَال: «يَا أُمَّ سُلَيْم مَا هَذا الذي تَصْنَعين؟» قَالت: هَذا عَرقُك نجْعله في طِيبنا، وهُو من أطْيبِ الطّيبِ»[8]. وفي حديث آخر: «عَرَقُكَ أَدُوف به طِيبِي» [9].

مِن طَيِّبٍ طَابَ فِي الأَنجاب مَحْتِدُه

***

كَما يَطِيبُ عَبِيرُ النَّدِّ والعُود[10]

وكَان الصَّحابة رضْوان الله عَليهم يُميزون طَريق ومَمْشَى النَّبي ﷺ بطِيب رَائحته، وعَرَف رِيحه من ذلكَ مَا جَاء عنْ جَابر رضي الله عنه قال : «لم يَكُن النَّبي ﷺ يمرُّ في طَريق فَيتبعه أَحد إلا عُرِف أنه سَلكه مِن طِيبه» [11].

وتخْتَرِقُ الأَرْجَاء من طِيبِ ذِكْرِهِ

***

جَنَادِبُ تحْدُوها الصّبا والجَنائبُ

هَل المسْكُ مفْتوتٌ بمدْرَجةِ النّدى

***

أَمْ ادُّكِرَتْ مِنْكَ العُلا وَالمنَاقِبُ[12]  

قال ابنْ القَيِّم رحمه الله: «كَان رسول الله ﷺ إذا مر في طريق بقيَ أثرُ رائحتِه في الطَّريق، ويُعرف أنه مرَّ بها، وتلك رَائحة نفْسه وقلْبه، وكَانت رائحة عَرَقه من أَطْيَب شَيء، وذلك تَابع لطيبِ نفْسِه وبَدَنه» [13].

وَكَان النَّبي ﷺ طَيِّبا مُطَيَّبا في حَياته وبعْد مَماتِه، فقد وردَ عن الصَّحابة الذين غسَّلُوه رضي الله عنهم مَا يدُلُّ عَلى هَذا؛  منْه مَا جَاء عن عَلي رضي الله عنه قال: «غَسَّلْت النبي ﷺ فَذهبتُ أنْظر مَا يكُون من الميِّت فلمْ أَجِد شيْئا، فقُلت: طِبت حيًّا وميِّتًا، قَال: وَسَطعت منْه ريحٌ طَيِّبة لمْ نَجد مثْلها قَطُّ» [14].

ومثله قال أبو بكر رضى الله عنه حين قبل النبي ﷺ بعد موته.

فهذه نفحات من طيب النبي ﷺ أوردت بعضا من عبقها الأخاذ؛ لأن المقام مقام تذكير، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله في ميزان حسناتي.

والصلاة والسلام على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى، والحمد لله بدء وانتها.

   هوامش المقال:

*************

[1] – البوصيري في همزيته (ص: 19).

[2] – الشفا بتعريف حقوق المصطفى (ص: 105). طبعة دبي.

[3] – أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي ﷺ (2330) من حديث جابر رضي الله عنه.

[4] – ديوان عبد الغفار الأخرس (ص: .25).

[5] – أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي ﷺ (2329) من حديث جابر رضي الله عنه.

[6] – أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: المناقب، باب: صفة النبي ﷺ (3289).

[7] – ديوان الشريف الرضي  (ص: 30).

[8] – أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي ﷺ (2331) من حديث أنس رضي الله عنه.

[9] – أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي ﷺ (2332) من حديث أنس رضي الله عنه.

[10] – ديوان عبد الغفار الأخرس  (ص: 295).

[11] – أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1 /399-400)، والدارمي في مسنده (رقم الحديث: 67)، وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى في مسنده (3125)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 /28): (ورجال أبي يعلى وثقوا).

[12] – ديوان لسان الدين بن الخطيب (1 /52).

[13] – كتاب الروح (ص: 602-603).

[14] – أخرجه ابن ماجه في سننه (1467)، والبيهقي في سننه (3 /388)، وابن سعد في ( الطبقات الكبرى 2 /244)، وقال البوصيري:” هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات”. وصححه الحاكم في المستدرك (1 /326)، وقال الذهبي :” فيه انقطاع”، وانظر المراسيل لأبي داود (رقم: 415). وفيه يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي ضعيف كبر فتغير صار يتلقن وكان شيعيا التقريب(2 /324).  

*************

جريدة المصادر والمراجع:

-أم القرى في مدح خير الورى (الهمزية): لناظمها أبي عبد الله ممحد بن سعيد ابن حماد البوصيري، ت: الشيخ محمد الشاذي النيفر، جمعية آل البيت للتراث والعلوم الشرعية، فلسطين، 2007م.

-التاريخ الكبير: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري (ت256هـ). دار الكتب العلمية ـ  بيروت ـ بدون تاريخ.

-تقريب التهذيب: للإمام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر شهاب الدين العسقلاني الشافعي (ت852هـ) تحقيق:مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط2 /1415هـ ـ 1995م.

-الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه: لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 1423هـ/2002م.

-ديوان الأخرس: السيد عبد الغفار بن عبد الواحد بن وهب الموصلي البغدادي البصري، ت: الخطاط وليد الأعظمي، دورة معجم البابطين لشعراء العربية، الكويت، ط2، 2008م.

-ديوان الشريف الرضي: صنعة أبي حكيم عبد الله بن إبراهيم الخبري، وزارة الإعلام، بغداد،  1397 هـ.

-ديوان لسان الدين ابن الخطيب، ت: محمد مفتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1409هـ/1989م.

-السنن الكبرى: لأبي بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت: عبد القادر عطاء. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط3 /1424هـ ـ 2003م.

-السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، ت: شعيب الأرنؤوط، وعادل مرشد، ومحمَّد كامل قره بللي، وعَبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 هـ /2009م.

-الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ : للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي، ت: عبده علي كوشك، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وحدة البحوث والدراسات، ط1، 1434هـ/2013م.

-الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد الزهري (ت 230هـ)، تحقيق: د. علي بن محمد عمر. مكتبة الخانجي ـ القاهرةـ ط 1/ 1421هـ ـ 2001 م.

-كتاب الروح : ط. مجمع الفقه الإسلامي بجدة، دار عالم الفوائد، إشراف الشيخ: بكر أبو زيد،  ط. مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ط 1، 1429هـ.

-مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الفكر، بيروت، 1412هـ.

-المراسيل: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط2 /1418هـ ـ 1998م.

-المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ). تحقيق: عبد الرحمان مقبل بن هادي الوادعي. دار الحرمين للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ ط1 /1417هـ 1997م.

-المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ: لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427هـ/2006م.

-المسند:لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي، ت: نبيل هاشم الغمري، دار البشائر، بيروت، ط1، 1434هـ/2013م.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق