وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

الإشعاع الديني والعلمي للزاوية الدلائية

ظلت الزاوية الدلائية قبلة للعلم والعلماء طيلة قرن من الزمان، فكانت في البداية عبارة عن زاوية دينية علمية ثم حركة سياسية، وقد لعبت دورا حاسما في التاريخ السياسي للمغرب، ويرجح تاريخ  تأسيسها في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، على يد أبو بكر الدلائي، الذي ينحدر من قبيلة مجاط الصنهاجية القادمة من أعالي ملوية، حيت أمره شيخه القسطلي باتخاذ زاوية له في أرض الدلاء، لإكرام المريدين وإطعام الطعام، ولما تزايد قاصدوا المكان، فكر أبو بكر الدلائي في تشييد المباني حول هذا المسجد الذي أسسه، وحفر العيون، وتحولت إلى جامعة علمية ضخمة، تدرس فيها مختلف العلوم من فقه وحديث ومنطق وجبر وهندسة وطب وكيمياء…

وسميت بالزاوية الدلائية نسبة إلى كلمة الدلاء على الأرض التي أسس فيها المجاطيون زاويتهم بالجنوب الغربي للأطلس المتوسط المشرف على سهول تادلا، ولفظ الدلاء عربي (جمع دلو إناء يستقي به الماء)… وينتسب الدلائيون إلى قبيلة مجاط، أحد فروع صنهاجة، وهو جذم من البرانس الذين يرجع إليهم مع البتر جميع أنساب البربر ولا عبرة بما اعتبره بعض المؤرخين المتأخرين من رفع نسب الدلائيين  إلى أبي بكر الصديق، وإنما هم – بناء على انتساب الدلائيين أنفسهم  من قبيلة لمتونة الصنهاجية، التي  كانت تسكن بأقصى جنوب الصحراء المغربية…[1].

لا نعرف بالضبط متى وجدت زاوية الدلاء، غير أنه يمكننا الاطمئنان إلى القول بأن تأسيسها كان في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام 974هـ – 1566م، أسسها أبوبكر بن محمد بن سعيد الدلائي بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي، فقد ذكرت كتب التراجم أن هذا الشيخ كان يكرم الواردين على زاويته بمراكش، فلم يسع أبا بكر أمام إلحاح شيخه إلا أن يبني الزاوية الدلائية البكرية، ويفتح أبوابها في وجه المريدين والزائرين[2].

  • موقع الزاوية الدلائية.

ولقد وقع اضطراب في تحديد مكان  الزاوية الدلائية بسبب تخربيها وانطماس معالمها، فأشار إليها بعض مؤرخي القرن الماضي إشارات عامة غامضة، كقولهم ثلاث مراحل من فاس مكتنفة بين بجاناة وهسكورة وتادلا، وجاء الأروبيون في مطلع هذا القرن يتحدثون عن الزاوية الدلائية وموقعها بأحاديث متضاربة… والواقع أن هناك زاويتين  دلائيتين، قديمة وحديثة، ما تزال أطلالهما قائمة الذات، مائلة للعيان حتى اليوم، ويعرف سكان خنيفرة الزاوية القديمة باسم (أيت يدلا)، أي أهل الدلاء، ويروي شيوخهم بالتواتر ما كان لهذه البقعة الطيبة من ماض علمي مجيد… [3].

وفي الواقع تقع الزاوية الدلائية القديمة التي أسسها الشيخ أبو بكر الدلائي على ربوة في سفح جبل (بوثور) بينه وبين جبل (تاغوليت)، وتنحدر في شرقيها شعبة (أقا إيزم)، أي شعبة الأسد، وتتفجر بالقرب منها عين جارية، تخترق المسجد وتضيع في الشعاب، وفيها بقايا المسجد الذي أسسه أبو بكر الدلائي، حيت يرى الزائر صفين من السواري والحنايا قائمين بجهلة القبلة، والمنار المتهدم الذي لم يبق منه سوى العمود الداخلي  الذي تلتف حوله الدرج على ارتفاع بضعة أمتار، وجدران القبتين المشيدتين على ضريحي الشيخين الدلائيين أبي بكر وابنه محمد، وقد نبتت أشجار التين والعليق والشوك بكثرة في جوانب المسجد حتى غطته، وجعلت التنقل في داخله متعذرا[4].

  • الشيخ أبو بكر مؤسس الزاوية الدلائية.

 لا جرم أن هذا الولي الأكبر، والعلم الأشهر، الشيخ أبا بكر هو شمس أنوارهم المشرقة، وهو جد السادات أهل زاوية الدلاء، وبه كمل ظهورهم، وشاع ذكرهم، وعظم أمرهم… وكانت ولادته عام بوعقبة وهو سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة، وسمي بذلك لأنه التقى فيه مقاتلة أهل فاس وعمالتها وسلطانهم … ومقاتلة أهل مراكش وعمالتها وسلطانهم…على مشروع بوعقبة من وادي العبيد  … ففي سنة تلك الواقعة ولادة صاحب الترجمة[5].

ونشأ مشتغلا بما يقربه إلى الله المتوفق لأمر المنهل الأصفى، حريصا على معرفة  الحلال والحرام، بعيدا عن الشبهات التي تؤدي إلى الملام، ساعيا في تحصيل كبرى الهمم، لا يخالط إلا أفاضل القوم، ويرى اليوم الذي لا يستفيذ فيه علما بيس اليوم، يزاحم العلماء بركبتيه ليبلغ من العلم …، فحفظ في مدة يسيرة القرآن العظيم…[6].

وبعد أن أسس أبو بكر زاويته في الدلاء، اجتهد في تكثير العمارة من حولها فبنى الدور والدكاكين وسائر المرافق الضرورية،  وحبس الرباع على الطلبة والمساكين، حتى صارت من أحسن المدن وأكثرها سكانا وأشهرها ذكرا، يقصدها الناس من مختلف الجهات ويلتقي فيها العلماء والطلاب الوافدون، فينالون من التعظيم والإكرام ما يجعلهم يرغبون في المقام بها أطول، ما يمكنهم من الزمن، وتعقد المجالس العلمية في مسجد الدلاء الرحب، وتقوم سوق العلم فيه على قدم وساق…وكانت وفاة أبي بكر الدلائي يوم السبت 3 شعبان عام 1021هـ/29 شتنبر 1612م، ودفن في مسجده في الدلاء[7].

  • الإشعاع العلمي والديني للزاوية الدلائية.

أصبحت الزاوية الدلائية مورد المرشدين والطلبــة والمساكين وأهل العلم وغيرهم، إلى أن استحالت بعد إلى مدينـة عامرة بأسواقها ومدارسهـا وتجارهـا، وكان أبو بكر ذا ثروة هائلة، لأنه من أسرة ثرية،  فصار يطعـم الطعام الكثير، ويكـرم الواردين على زاويـته في سخـاء نادر اندهـش له الناس، وتعجبوا منه، ثم صار على نهجـه ابنه محمـد بن أبي بكر، وفي أيامه زادت شهرة الزاوية، وعظم صيتهــا، وغصت رحابها بالوافدين، والطـلاب والمريدين، وكان يقيم كل سنة احتـفالا عظيمـا بالمولد النبوي، يقصده الناس في كل مكان، وقدر عدد الحاضرين في أحـد الاحتفالات بسبعين ألف نفس، وكانـوا جميعا ينزلون ضيوفا عليه، فينالـون من حفاوته وإكرامـه وجوائزه ما تقر بـه أعينهم…[8].

وبقدر ما كان معنيا بشأن الفقراء والمريدين والزوار، كان معنيا كذلك بنشر العلم وتدريسه،  فأصبحت الزاوية الدلائية في عهده مركزا علميا كبيرا، يقصـده الطلاب من كـل حدب وصوب، فكـثـرت المدارس بها لإيواء الطلبة، وكـان بإحداهـا فقط ألف وأربعمائة بيت، ولكثرة الطلبـة كان يسكن بالبيت الواحد من هذه المدارس العديدة طالبـان فأكثر، وهذا يدلنا على عظمة الزاوية،  وإلى أي عدد بلغ طلابها.
ولما أصبحت مـركزا علميا، اقتضى ذلك تأسيس خزانـة علمية بها، فأسست بها خزانة عظيمة شبههــا بعضهم بخزانة الحكم المستنصر الأموي، ونحـن نعرف مقدار ما كـان بخزانة الحكم من الكتب، وأن فهارسها وحدهـا كانت تبلغ أربعا وأربعين فهرسة، في كـل فهرسة عشـرون ورقة، ليس بها إلا أسماء الكتب[9].

قال عبد الله كنون في كتابه النبوغ المغربي عن الزاوية الدلائية: فكأنما بعثها الله لحفظ تراث العلوم والآداب، الذي كاد أن يضيع، فقامت عليه خير قيام، وما هي إلا مدة قليلة حتى صارت مركزا مهما لنشر الثقافة العربية بين قبائل المغرب، ومأزرا حصينا  للعلوم الإسلامية بالبلاد، وقد تخرج فيها عدد لا يحصى من العلماء الفطاحل، والأدباء الأمائل… [10].

وتعتبر الطريقة الشاذلية المتصلة بالإمام أبي القاسم الجنيد، من أسلم الطرق الصوفية وأقربها إلى السنة، وأكثرها انتشارا بالمغرب، حتى إنها لتعتبر الطريقة الرسمية في هذه البلاد، إلى جانب المذهب المالكي في الفقه، والعقائد الأشعرية في التوحيد، وقد أخذ الشيخ أبو بكر الدلائي طريقة التصوف، كما تقدم عن الشيخ أبي عمر القسطلي المراكشي، الذي أخذ عن الشيخ عبد الكريم الحاحي المعروف بالفلاح…تلميذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الحق التباع المراكشي، أشهر الآخذين عن الشيخ محمد بن سليمان الجزولي [11].

وقد ألفت حول الزاوية الدلائية العديد من التآليف، ومن أشهر ما ألف حولها كتاب البدروالضاوية في التعريف بالسادات أهل الزاوية الدلائية  للشيخ سليمان الحوات الشفشاوني.

        الجزء الأول          الجزء الثاني          الجزء الثالت             الجزء الرابع          الجزء الخامس

  • أساتذة الزاوية الدلائية من أبنائها وتلامذتها:

عني الشيخ أبو بكر الدلائي بالعلم والعلماء عنايته بالتصوف والمريدين، واهتم بالغ الاهتمام بتعليم أبنائه الستة، فكان منهم من يدرس على العلماء الوافدين على الزاوية الدلائية، ومنهم من ينتقل إلى مدينة فاس ليدرس فيها، ولما اضطربت أحوال المغرب بعد وفاة المنصور الذهبي، وانتشرت الفتن بسبب اختلاف أبنائه وتنازعهم على الملك، أخذ الناس يفرون من المدن إلى البادية، وكانت الزاوية الدلائية من أحسن البقاع التي يلتجئ إليها العلماء، حيث يجدون الطمأنينة وراحة البال، وينعمون بكرم ضيافة أهلها، فيتفرعون للعلم وتدارسه، وقد حصل أبناء أبي بكر على بضاعة علمية غير مزجاة، فتصدوا للتدريس في زاويتهم، وأقبل عليهم الطلاب من كل حدب وصوب[12].

ومن أساتذة الزاوية  الدلائية من أبنائها وتلاميذتها أذكر:

  • عبد الرحمن بن أبي بكر الدلائي: هو أحد العلماء النابغين في العهد الأول للزاوية الدلائية، وفيها أخذ العلم عن أبي على الحسن بن أحمد الدرعي الشهير بالدراوي، وأبي العباس أحمد بن محمد بن القاضي المكناسي، وذلك قبل أن يرتحل إلى فاس ليأخذ عن الإمام محمد بن قاسم القصار، ويدرس عليه التفسير والحديث وغيرهما وينال منه إجازة عامة[13].
  • محمد المرابط الدلائي: أو محمد الصغير بن محمد بن أبي بكر الدلائي، هو أحد علماء هذه الأسرة الذين طارت شهرتهم بالمغرب والمشرق، وتخطف الناس مؤلفاته باذلين فيها الأثمان الباهضة، وسبب شهرته بالمرابط تقشفه في الملبس منذ صباه، أخذ العلم بالزاوية الدلائية فقط عن أبيه وأعمامه وإخوته، وغيرهم من العلماء الوافدين على الزاوية، وتولى المرابط الإمامة والخطابة والتدريس في المسجد الأعظم بالزاوية البكرية[14].
  • أحمد الحارثي بن أبي بكر الدلائي: هو أحد نحاة الزاوية ولغوييها، قضى حياة الطلب كلها في الدلاء آخذا عن علماء قومه، وعن الوافدين على زاويتهم، وكانت له اليد الطولى في التاريخ والحساب واللغة والبيان والأدب والأصول والفقه والحديث[15].
  • المسناوي بن محمد بن أبي بكر الدلائي : الفقيه المحدث الأستاذ الكبير، نشأ في الدلاء ثم انتقل إلى فاس قبل أن يبلغ الحلم، واكب فيها على تحصيل العلوم بجد واجتهاد، ولم يرجع إلى الزاوية الدلائية إلا وهو عالم بارع في الفقه والأصلين، والتفسير والحديث وعلم الكلام والقراءات واللغة والنحو والأدب، فأخذ يلقن هذه العلوم لتلاميذ الزاوية[16].
  • أبوعمر بن محمد بن أبي بكر الدلائي: علامة أديب، تم تكوينه العلمي بالزاوية الدلائية على يد علماء قومه وغيرهم، كان عالما مشاركا في الحديث والفقه والأصلين والنحو والبلاغة والأدب والأدب، ودرس كل هذه الفنون بزاويتهم… [17].
  • أحمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي: عالم أديب درس في الزاوية الدلائية على علمائها المتوافرين دون أن يبرحها، ثم اشتغل بالتدريس فيها، كان موسر الحال، عظيم الجاه، يتقلب في رغد العيش، وينعم بالحياة المترفة إلى جانب أخيه السلطان محمد الحاج، متخذا بطانته من أدباء الزاوية وشعرائها، إلى أن زارهم الشيخ محمد بن عبد الله السوسي عام 1071هـ / 1660م، في طريقه إلى حج بيت الله الحرام، فأخذ عنه أحمد الدلائي وصلح حاله، ورق قلبه، وأعرض عن الدنيا وزخرفها إلى أن مات بالدلاء… [18].
  • محمد الشرقي بن أبي بكر الدلائي: هو أحد أعلام الدلائيين المشاركين في مختلف الفنون، الجامعين بين العلم والدين والأدب، كانت دراسته كلها بالزاوية الدلائية على علماء قومه وغيرهم، وأجازه أبو حامد محمد العربي الفاسي إجازة عامة، واختص من بين أساتذة الزاوية كما رأينا في الفصل السابق بتدريس علم القراءات والتجويد، وهو يتقن إلى جانب ذلك اللغة، والنحو والبلاغة وكانت وفاته بالدلاء عام 1079هـ / 1668م[19].
  • الشاذلي بن محمد بن أبي بكر الدلائي: كان أعجوبة الزمان، في الحفظ والإتقان، يجيد الشعر، قرأ في الزاوية الدلائية وحدها على علمائها من أهله وغيرهم، ونبغ في اللغة وقواعدها وآدابها، وكرس حياته لتدريس ألفيه بن مالك، ومقامات الحريري حتى قيل إنه قرأ الأولى مائة مرة والثانية ثلاثين مرة كما رأينا، وقد خرج الشاذلي مع قومه بعد تخريب الزاوية الدلائية إلى فاس ودرس بها فتخرج على يده علماء كثيرون … [20].
  • – أشهر أعلام الزاوية الدلائية:

فقد ظلت الزاوية البكرية محج الطلاب يحجون إليها من كل أصقاع البلاد طيلة قرن كامل من الزمان، من أجل الأخذ عن علمائها الأجلاء المبرزين، وعددهم كثير لاي مكن إحصائه، إلا أنه مع  الأسف الشديد لم تذكر لنا المصادر التاريخية إلا عددا يسيرا منهم، أذكر أبرزهم:

  • أبُو على الْحسن بن مَسْعُود اليوسى نور الدَّين أَبُو الْوَفَاء المغربي (يوس بِالضَّمِّ قَبيلَة من البربر) قدم مَكَّة حَاجا وَرجع إِلَى بَلَده وَتوفى سنة 1111 احدى عشرَة وَمِائَة الف[21].

وقد تتلمذ اليوسي لكثير من العلماء الدلائيين مثل محمد المرابط، ومحمد بن عبد الرحمن، وأبي عمر بن محمد بن أبي بكر الدلائي، وأخذ عنه عدد وافر من أبناء الدلائيين وغيرهم من الطلبة الذين كانوا يقيمون في الزاوية الدلائية، وكان دخول اليوسي إلى الزاوية الدلائية حوالي عام 1060، وهو م يزال شابا طالبا للعلم… [22].

  • أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد المقري القرشي التلمساني الفاسي. 992هـ – 1041 هـ = 1584م – 1631 م)، المؤرخ الأديب الحافظ[23].

صاحب كتاب نفح الطيب، وأزهار الرياض وغيرها… كان أعجوبة الزمان في القدرة على الكتابة المسجعة المنمقة، وفرض الشعر المحلي بأنواع البديع، كما كان فقيها محدثا، أقام مدة في الزاوية الدلائية يدرس الحديث على محمد بن أبي بكر الدلائي، وكان هذا الشيخ بقوة عجب بقوة حافظة المقري وسرعة إدراكه… [24].

  • أبو حامد محمد العربي بن الشيخ أبي المحاسن يوسف الفاسي، المؤرخ الأديب، العلامة المشارك، مؤلف كتاب مرآة المحاسن، يمتاز بالجرأة في الحق، والدعوة إلى الدفاع عن حوزة الوطن… [25].

  • الأوضاع السياسية في عصر الزاوية الدلائية:

لما انتشر عقد الدولة السعدية وتقلص ظلها من المغرب، إثر اشتداد النزاع وشبوب الحرب بين أولاد المنصور الذهبي في طلب العرش والفوز بصولجان الملك، وكان قد أمر الدلائيين أهل الزاوية التي أسسها الشيخ أبو بكر الدلائي، فاشتهرت بإيواء الطلبة  ونشر العلم وإحياء رسوم الدين زيادة على بذل الطعام للصادر والوارد وإعانة المحتاجين وإغاثة الملهوفين، فاغتنم رئيسها في هذه الأثناء، الشيخ محمد الحاج الدلائي حفيد الشيخ أبي بكر المذكور، فرصة ضعف نفوذ الدولة وشغلها عن حكم البلاد، فلف لفه، وزحف إلى مكناس وفاس فتملكها، ولم يلبث أن أسس الدولة الدلائية التي قاومها المولى محمد بن الشريف، ومادون تلك إلى ناحية الغرب فهو لأهل الدلاء. [26].

وفي الوقت الذي توالت فيه انتصارات السلطان الرشيد بن الشريف العلوي، كان أمر محمد الحاج الدلائي  في إدبار، فقد بلغ من الكبر عتيا، وأصاب مرض السادة إحدى عينيه، وفقد أبنائه ماعدا عبد الله، ولم يكن إخوته وبنو عمه أبطال حرب وكفاح، وإنما كانوا رجال علم ودين، فضعفت القيادة الحربية للدلائيين وإن بقيت قبائل الأطلس الباسلة وفية لهم، وماذا يا ترى يستطيع رجل بلغ الثمانين من عمره أو قاربها أن يعمل في الميدان، وماذا يمكنه أن يصنع في ترتيب الجيوش وتجهيزها وقيادتها، الحقيقة أن كل شيء كان خلال عام 1078/1668، ينذر بقرب حلول الكارثة بالإمارة الدلائية، جاء السلطان الرشيد واستولى على المغرب الشرقي ومدينتي فاس ومكناس، وعبثا حاول محمد الحاج أن يقاوم هذا التيار الجارف، فخرج على رأس جنده من البربر وقصد خصمه الرشيد في سهول سايس، والتقى الجمعان على ضفة نهر بومزورة أحد روافد وادي فاس، فتقاتلا قتالا خفيفا نحو ثلاثة أيام، ثم رجع محمد الحاج إلى الدلاء[27]..

تجلى للسلطان الرشيد في هذه المناوشات ضعف الدلائيين وعجزهم، فتوجه إليهم في جموع كبيرة، ولم يعترض طريقه أحد حتى أشرف على الزاوية الدلائية، ولم يعد يفصل بينه وبينها إلا نحو 25 كلم، فوجه الدلائيين مجمعين على حربه في سهل (بطن الرمان)[28]، بقيادة أحد أبناء الحاج، ودارت المعركة الفاصلة بين الدلائيين والعلويين في الأيام الأولى من عام 1079/1668، ولم يصمد البربر إلا قليلا ثم تراجعوا مهزومين، فتبعهم الرشيد إلا أن نزل على أبواب مدينة الدلاء…[29].

 وقال عبد الله كنون في النبوغ المغربي: “لما توفي المولى محمد بن الشريف وتولى أخوه مولاي رشيد، لم يرض بهذه القسمة الجائرة، فتقدم واستولى على جل بلاد المغرب، ثم حارب الدلائيين فظهر عليهم وتتبعهم حتى كاد يفنيهم، وقصد زاويتهم فأوقع بها الواقعة الحاسمة، وشرد بأهلها فصفا له ملك المغرب، ولم يبق له منازع فيه وذلك سنة “1079[30].

وقال الشيخ أبو على اليوسى في محاضراته: كان الرئيس أبو عبد الله الحاج بن محمد بن أبي بكر قد ملك المغرب سنين عديدة، واتسع هو وأولاده وإخوته وبنو عمه في الدنيا، فلما قام الشريف السلطان الرشيد بن الشريف ولقى جيوشهم ببطن الرمان فهزمهم، وذلك أوائل المحرم فاتح سنة ست وتسعين وألف، فدخلنا عليه، وكان لم يحضر في المعركة من عجزه لكبر سنه فإذا بالفلّ يدخلون فدخل عليه أولاده وإخوته وأظهروا جزعا شديدا وضيقا عظيما فلما رأى منهم ذلك، قال لهم: ما هذا! إن قال لكم حسبكم فحسبكم… [31].

وقال اليوسي نقلا عن تحفة المعاصر ما نصه: أخبرنى الشريف البركة الخير المرابط سيدى أحمد بن عبد القادر القادرى الحسنى ثم الفاسى أنَّه كان بها يعنى الزاوية الدلائية حين دخول السلطان الرشيد إليها حاضرًا، وكنت ممن لفظته يد الاكتئاب، ورمت به قوس المحن والاغتراب، لما شاهدت يومئذ من تغير الأحوال، وكثرة الأحزان والأهوال، إلى تادلا فلما وصلت الصومعة منها ولقيت الفقيه الصالح سيدى عبد الرحمن بن إسماعيل والد الفقيه العلامة الولى الصالح سيدى محمد ابن عبد الرحمن صاحب سيدى أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله معن الفاسى رحمهم الله تعالى وسألنى عن خبر الزاوية المذكورة وأهلها وما فعل هنالك، لم أملك عينى من البكاء بتذكره أيام تلك الأيام والمعاهد، وما خص الله تعالى به أولئك السادات الكرام الأماجد[32].

وفى نزهة الحادى وغيرها أن الشريف الرشيد غير من الزاوية الدلائية المحاسن، وصير محاسن معينها العذب آسن، وصحبها حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وكانت مشرقة إشراق الشمس، فمحت الحوادث ضياءها، وقلعت ضلالها وأفياءها، … [33].

وكان ممن حضر هذه الحادثة الإمام أبو على الحسن بن مسعود اليوسى ورثى هذه الزاوية بقصيدته الرائية الشهيرة المشتملة على جودة الرثاء المقصود، والتأسف على فوات حسن الحال المعهود، والتحنن إلى معاهد تلك الأطلال، والتشوق لمن كان بها من القطان والآل، والتنبه إلى الدهر والبائه، وتقلبه بأهله وأبنائه، والتأسى بذى التصبر لصروفه، والتسلى بما بيديه من نكره عن معروفه، وعدم الاهتبال بما يحدثه من الحوادث وترك الركون لنعيمه الحادث، وعدم الثقة بود بنيه، وتلون شيم أهله وذويه، ورفع الهمة عنهم ثقة بالمولى، فيما لابد وأولى، والتخلى عن خلل الخزايا والكبائر، والتحلى بحلل المزايا والمثابر، والترقى في أدراج خير السجايا لإدراك المعالى والمفاخر، إلى غير ذلك من الأخلاق والأوصاف الحسان التي يحصل الشرف بها في الدين والدنيا وينجو بسببها في الآخرة الإنسان. قال في مطلعها:

أكلف جفن العين أن ينثر الدرا فيأبى ويعتاض العقيق به جمرا
وأسأله أن يكتم الوجد ساعة فيشقى وإن اللوم آونة إغرا
على أن دمع العين فضل حشاشة تذاب فماذا ينفع الدمع أن يجرا
وكانت سروح الهم عنى عوازبا وبعد النوى أضحت مراتعها الصدرا[34].

 حيث نعلم أن علماء الزاوية الدلائية وأدبائها، بعدما خربت زاويتهم، قد استقروا بمدينة فاس، بإذن من المولى إسماعيل، فلم يمض وقت قصير حتى اعتلى هؤلاء العلماء البدو كراسي التدريس، أمثال محمد بن محمد المرابط والحسن بن مسعود اليوسي  وأحمد بن محمد الشاذلي ومحمد بن احمد بن المسناوي، وراحوا ينافسون علماء مدينة فاس منافسة قوية، الشيء الذي خلق جوا ثقافيا وعلميا حافلا بالعطاءات والمساهمات الفنية[35].

هكذا شهدت  الزاوية الدلائية عصرها الذهبي، وعمرت نحو قرن من الزمان، وظلت مركز إشعاع  لشتى العلوم، ثم أدركها زمن الفتنة والتدهور والفناء، غير أن وجودها العلمي ظل يسطع في أبنائها وتلامذتها ورجالها الصالحين، الذين نزلوا فاس بعد تخريبها، فكانت الزاوية الدلائية أنموذجا دينيا وتاريخيا، وعلميا وأدبا…

[1] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص 27 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[2] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص 31 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[3] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص36 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[4] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص36 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[5] – مخطوط البذور الضاوية في التعريف بسادات أهل الزاوية الدلائية – لسليمان ‏الحوات الشفشاوني (ت1204هـ)  ورقة 49.

[6] – مخطوط البذور الضاوية في التعريف بسادات أهل الزاوية الدلائية – لسليمان ‏الحوات الشفشاوني (ت1204هـ)  ورقة 49.

[7] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص48 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[8] – دعوة الحق  العدد 289 إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه. -محمد علي ابن الصديق / رمضان-شوال 1412هـ.

[9] – دعوة الحق  العدد 289 إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه. -محمد علي ابن الصديق / رمضان-شوال 1412هـ.

[10] – النبوغ المغربي لعبد الله كنون (1/274)، الطبعة الثانية.

[11] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص50 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[12] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص75 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[13] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص86 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[14] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص87 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[15] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص88 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[16] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص88 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[17] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص88 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[18] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص89 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[19] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص90 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[20] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص91 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[21] – هدية العارفين (1/296)، طبعة 1951، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في طبعتها البهية اسطنبول.

[22] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص104 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[23] – الأعلام للزركلي (1/237)، الطبعة 15 مايو 2002م، دار العلم للملايين.

[24] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص 115 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[25] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص121 الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[26] – النبوغ المغربي لعبد الله كنون (1/269)، الطيعة الثانية.

[27] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص252الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[28] – يكشف الدلائية موضعان يحمل كل منهما اسم الرمان، ففي شمال الزاوية الدلائسة بطريق خنيفرة يقع السهل الذي تسميه قبائل زيان بورمان/ وهو الذي يرجح أن المعرفة دارت فيه.

[29] -الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي  لمحمد حجي ص253الطبعة الثانية 1409هـ – 1988م.

[30] – النبوغ المغربي لعبد الله كنون (1/269)، الطيعة الثانية.

[31] – إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة  مكناس (3/57) الطبعة الأولى 1429هـ – 2008م، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة.

[32] – إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة  مكناس (3/63) الطبعة الأولى 1429هـ – 2008م، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة.

[33] – إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة  مكناس (3/63) الطبعة الأولى 1429هـ – 2008م، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة.

[34] – إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة  مكناس (3/64) الطبعة الأولى 1429هـ – 2008م، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة.

[35] –  دعوة الحق عدد 258 1406هـ/1986م، من تاريخ الحركة الثقافية في عهد المولى اسماعيل / عبد الجواد السقاط.

ذة. رشيدة برياط

باحثة بمركز علم وعمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق