مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

هَلْ في عبارَة سيبويه عن التقديم للعنايَة والاهتمام، شكٌّ وعَدَمُ يَقين ؟

ذهبَ أحدُ الباحثين، إلى أنّ سيبويْه عندما تكلم عن تقديم الفاعل والمفعول، وقال: [كأنهم إنّما يُقدِّمون الذي بيانُه أهمُّ لهم وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا يَهُمّانِهم ويَعنِيانهم] فقَد شكّ، وأنّ قولَه: كأنّ… أسلوبٌ يدلّ على شكّه في دلالة التقديم على العنايَة والاهتمام، وليس على اليَقين، وأنّه استخدمَ كلمةَ “كأنهم” فلم يكن متأكدا من كلامه، وهي كلمة تدل على الشك…

والرأي عندي -في سياقِ الرّدّ على هذا الرأي- أنّ عبارةَ سيبويْه الواردَة في الكتاب بخصوص نية المتكلم ومراده من الكلام وهو يقدم ويؤخر، ليسَ فيها شكّ و لا ارتيابٌ إطلاقاً، واحتمالُ الشكّ منه منفيّ عنه وهو الذي درسَ لسانَ العرب ونظرَ فيه وعلمَ أسرارَه ومناهج العرب فيه… ولكنّ عبارَتَه المذكورةَ أعلاه إنّما تدلّ على التّقريب للمَعْنى بألطف الألفاظ وهو لفظ كأنّ الذي يدلّ على التشبيه(1)، حتّى يتجنّبَ الأحكامَ التقريريّةَ الصّارمةَ، وهذا احتياطٌ لا ارتيابٌ.
فليس في العبارَة شكّ، ولكنّ فيها مُقاربةً واحتمالاً، ولا أفهم منها وجودَ شكّ بين حالتيْن، وقَد عبّر سيبويْه عن الاحتمال بأداة التشبيه [كأنّ] وجاء المَعْنى على أنّه: يحتملُ ويُفترَضُ أنّ العربَ يُقدّمون بعضَ الكلام على بعض للعناية والاهتمام، وهو لا يشك في ذلك هل يُقدّمونه للعنايَة أم يُقدّمونَه لغرض آخر. وقَد صرّح في مواضعَ أخرى بهذين المُصطلَحَيْن بصيغة المصدر إذ قالَ: «إن قدمتَ الاسمَ فهو عربيٌ جيّدٌ كما كان ذلكَ عَربياً جَيداً، وذلكَ قولُكَ: زيداً ضربت، والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء، مثله في ضرب زيد عمراً وضرب عمراً وزيد».

أمّا قولُه: وإن كانا جميعاً يُهمّانهم ويَعنيانهم، فهي تدلّ على أنّ الألفاظَ في التركيب كله مفيدة مهمة، سواء أقُدّمَت أم أُخّرت، فتقديم الفاعل وتأخير المَفْعول أو تَقْديمُ المَفْعولِ وتأخيرُ الفاعلِ كلّ ذلِكَ عربيٌّ جيّد كثيرٌ، نطقَت به العَربُ، ولكنّهم أرادوا بالمَفْعولِ مُقدَّماً ما لم يُريدوه بِه مؤخّراً؛ فَما قُدّمَ مما حقه التأخير أو ما أخّر ممّا حقّه التّقديمُ إنما تحصُلُ به غايةٌ زائدةٌ على مجرّد الإفادَة؛ إذ لم يُقدّمْ بعضُ الكلام على بعض إلاّ لغرض العناية المُحتمَلَة المُفتَرَضَة لا المشكوك فيها، فلا مَعْنى للشكّ في عبارَة سيبويْه.

ومن باب التنبيه على أنّ العنايةَ والاهتمامَ لم تكن العلّةَ الوحيدَةَ لتغيير رتبة الكلمات؛ فقَد يحصلُ تغييرُ المَراتبِ بغرض“تَنبيه المُخاطَب إلى المُحدَّث عنه” (2). وقَد يحصُلُ التقديمُ والتأخيرُ لعلّة ثالثةٍ هي الشّكّ الذي يَعْتري المتكلّمَ بعدَ اليَقين، وقد تحدّث عنه في باب الأفعال التي
تُستعملُ وتُلْغى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ألَم يُصرِّحْ سيبَويْه، مثل شيخه الخَليل، أنّ الأداةَ “كأنّ” تُفيد التشبيه؟ لقَد تكلّم سيبويْه عن التّشبيه بالأداة كأنّ وبالكاف وبغيرِ ذلِك، فتبيَّنَ أنّه يستخدمُ أداةَ التّشبيه لإفادَة التّقريبِ .
(2) «باب ما يَكونُ فيه الاسمُ مبنياً على الفعلِ قُدّمَ أو أخِّرَ، وما يَكونُ فيه الفعلُ مبنياً على الاسم» كتاب سيبويه

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق