مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

محاضرة “نظرات في كتاب الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي من تحقيق النص إلى تأصيل الدراسة ” يقدمها محقق الكتاب الدكتور محمد أفيلال

نظم مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية التابع للرابطة المحمدية للعلماء يوم الأربعاء 12 أبريل 2023، محاضرة بمقرّه تحت عنوان: «نظرات في كتاب الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي: من تحقيق النص إلى تأصيل الدراسة»، قدّمها محقق الكتاب الدكتور محمد أفيلال.

وقد أفاد فيها مجموعةً من طرائق تحقيقه للكتاب وخطوات إخراجه للناس، مع تفصيل ذلك وتقديم الأمثلة عليه، قال المُحاضر مُقدِّما للعمل:

نظرا لأهمية ما يتضمنهُ كتابُ “الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي العربي”(1)، من معطيات تاريخية، وما يحمله من ظواهر اجتماعيةٍ، وما يقدمه من مادةٍ أدبية، قمت بدراسته وتحقيقه. فالكتابُ مصدر تراثي مدون في مناقب شيخ الزاوية الشرقاوية العربي الشرقي البجعدي المتوفى عام (1234هـ/18-1819هـ)، مركزا على هويته الشخصية وسيرته في اكتساب الفضائل والقيم والخدمات الاجتماعية التي اشتهر بها، والمواقف السياسية مما جعله يترأس الزاوية، ويملك خصوصية خاصة تتمثل في تناول أهم فترات الزاوية، والتي تنطلق من تأسيس الزاوية الشرقاوية خلال أواسطِ القرنِ العاشرِ الهجري/السادس عشر الميلادي من قبلِ شيخِها الأولِ مَحمدٍ الشرقيِّ إلى نهاية مشيخة شيخها محمد العربي بنداود مؤلف كتاب “الفتح الوهبي” المتوفى عام (1316هـ/1898م).

وقد ارتأيت أن أقدم هذا العمل في قسمين: اهتم الأول بالدراسة، وجعلته في أربعةِ فصول، وقسمت كل فصل إلى مجموعة من المباحث. اهتمت بالحديث عن الزاوية الشرقاوية وظروف ومراحل تأسيسها ووظائفها الاجتماعية والاقتصادية. ثم انتقلت إلى الجانب السياسي، فقمت بتحديد علاقة شيوخ الزاوية بالمخزنين السعدي والعلوي، وفي الدور الذي لعبته الزاوية في إخماد الفتن وإعادة الاستقرار للمنطقة، ثم عرجت على الدور الديني للزاوية من خلال عرض الطرق الصوفية للزاوية، وسندها وأذكارها، وبنشاطها العلمي وتوهجه، والأثر الناتج عنه. وتكلمت عن علاقة الزاوية الشرقاوية بزاوية الصومعة، والزاوية الفاسية، والزاوية الدلائية، والزاوية الناصرية، ثم ذكرت الزوايا التي تفرعت عن الزاوية الأم وبقيت تابعة لها، وختمت هذا الفصل بإبراز التراث الفكري للزاوية ومؤلفيه، وبالأطر التي لها علاقة بالزاوية.

اهتم الفصل الثاني ومباحثه بالمؤلف محمد العربي بنداود، من مصادر دراسة حياته واسمه، ونسبه وأصله وكنيته ولقبه. وولادته ونشأته وتعليمه، وشيوخه وأدائه لفريضة الحج، وظهور بركاته، وتعيينه على رأس الزاوية، واشتغاله بالتدريس. ووقفت على العلاقة التي جمعت المؤلف بملوك عصره. وأبرزت تكوينه الفكري والثقافي، وأشرت إلى إنتاجه، وأخيرا حددت زمان ومكان وفاته.

وتناولتْ مباحثُ الفصلِ الثالث التعريف بكتاب “الفتح الوهبي”، ابتداء بالتأكد من العنوان ومن نسبته إلى صاحبه، ثم شرحت معاني ودلالات كلماته، وذكرت البواعث التي دفعت إلى التأليف، ثم أبرزت المحتوى العام للكتاب، مبديا بعض الملاحظات والاستنتاجات. وذكرت خصوصية الكتابة، فقمت بتجنيس الكتاب وإبراز طبيعة موضوعه، والمصادر المعتمدة في التأليف، ثم تكلمت عن منهجية المؤلف وأسلوبه في الكتاب، فبينت طرق تعامله مع مصادره المعتمدة، وطريقة عرضه للمواد، واستخلصت العناصر المكونة للترجمة، وأبرزت سماتها وخصائصها. ثم ذكرت طرق استدلالاته المتنوعة، وأسلوبه التعبيري. ثم كشفت عن القيمة العلمية للكتاب.

أما الفصل الرابع فقد جعلته في مبحثين اثنين، عرفت في المبحث الأول بالنسخ المخطوطة المتوفرة، وما اعتمد منها كأصل في التحقيق، وبينت في المبحث الثاني الطريقة التي اتبعتها في تحقيق النص، والرموز التي اعتمدتها، وعرضت نماذج مصورة من النسخ.

أما فيما يخص القسم الثاني من العمل فقد ضم النص المحقق، ومحاولة إخراجه في حلته الأكاديمية التي تعتمد المنهجية العلمية الدقيقة.

أولا: عملية تحقيق الكتاب:

يُجْمِعُ المتخصصون في تحقيق النصوص التراثية أن “الكتاب المحقق هو الذي صحَّ عنوانه، واسمَ مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب إلى الصورة التي تركها مؤلفه”(2). ولتحقيق هذه الغاية لابد من تتبع الخطوات الآتية:

مرحلة الإعداد، وتكون باختيار المخطوط، ومعرفة النسخ وجمعها، ثم دراستها للتحقق من نسبة النص إلى صاحبه وذلك بالاعتماد على الكتب التي تحدثت عن المؤلف والكتب التي نقلت عنه، وتعرف مراتبها في الصحة، وتحديد النسخة الأم أو التي يمكن اعتبارها النسخة الأم في المتن، ورقنها على الحاسوب، وتنظيمها بوضع علامات الترقيم المناسبة، وتقسيمها إلى فقرات، وكتابة أرقامها في صلب المتن تيسيرا للمقابلة، ووضع الرموز المناسبة.

مرحلة التخريج، وتكون في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والشعر، وكافة النقول بهدف التوثيق والتصحيح.

مرحلة الضبط، وتكون بشكل بعض النصوص شكلا تاما وتهم بالدرجة الأولى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأمثال والشواهد والمشتبه من الأعلام، والغريب من الألفاظ، وما يُلتبس من المصطلحات والمفاهيم والتراكيب بالاستعانة بالمصادر المتخصصة أو المراجع الموثوق بها.

مرحلة التعريف وتخص تعريف الأعلام، والمواضع، وبعض الألفاظ والمصطلحات والمفاهيم التي تحتاج إلى ذلك.

وبناء على هذه المعطيات، فإن أول عنصر بدأت به عملية تحقيق كتاب “الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي” هو العنوان، فقمت بالتأكد من صحته، ومن الصيغ التي ورد بها في المصادر والمراجع والمظان، ومن نسبته إلى صاحبه. ثم انتقلت إلى متن الكتاب فنقلته من النسخة التي اعتبرتها أقرب إلى النسخة الأصلية، ورقنته على الحاسوب، مع الالتزام في عملية الكتابة بقواعد الرسم المعمول بها اليوم، ثم قابلت النسخ التي رمزت إليها بـــ “أ”، “ك”، “م”، مقابلة دقيقة، فأثبتت الفروقات في الهامش.

وبما أن المؤلف يعرض مواد كتابه من غير تنظيم قمت بتنظيم مادة المتن بوضع علامات الترقيم المناسبة، كما رجعت إلى السطر كلما بدأ المؤلف فقرة جديدة، ووضعت رقم كل صفحة من صفحات النسخة الأصل بين معقوفتين، واستحسنت أن أشكل النص كاملا، وأضع بعض العناوين والترجمات بين معقوفتين، كل ذلك من أجل خدمة النص وتوضيحه وتسهيل قراءته.

وبعد قراءتي للكتاب قراءات متعددة، تمكنت من الوقوف على الأصول الثقافية التي كونت الكتاب، فعملت على إرجاع النصوص المنقولة إلى مصادرها الأصلية المطبوعة منها والمخطوطة، وقابلت النقول على الأصول، مع التنبيه على تصرف المؤلف في النقل أحيانا.

والجدير بالذكر أن بعض التعليقات والنصوص اتفق مضمونُها مع ما جاء في أكثر من مصدر، لهذا لم يكن بإمكاننا الجزم بأن المؤلف قد اعتمد على مصدر معين، فارتأيت أن أوثقها في هامش المتن على مصادر متنوعة دون الإعلان عن أنه نقل عن هذا المصدر أو ذاك. كما أن بعض عمليات النقل تمت عن طريق الوساطة، فقمت بالتنبيه على ذلك. فمثلا المؤلف في خاتمة الكتاب يحيل على أنه نقل عن الإحياء بينما هو في الواقع ينقل عن الدر الثمين.

هذا بالنسبة للنصوص النثرية، أما النصوص الشعرية من قصائد ومقطوعات وأبيات مفردة وثقنا منها ما هو مثبت في الدواوين، وكذلك فعلنا مع ما هو مثبت في المصادر التي نقلها عنها المؤلف ولم نعثر عليها في دواوين أصحابها، وما هو موجود في أكثر من مصدر ومتداولة بين المؤلفين إلى درجة أن هؤلاء المؤلفين اختلفوا في نسبتها إلى شاعر بعينه أشرنا إليه، وما هو من إنشاد المؤلف كان الكتاب هو المصدر الوحيد لها اكتفينا بذلك.

ضبطت الآيات القرآنية الكريمة بالإحالة إلى سورها ورقمها، والأحاديث النبوية بإرجاعها إلى مصادرها معتمدا في ذلك أساسا على الصحاح، ثم السنن والمساند، أو المصادر الأخرى التي ينفرد فيها النص الحديثي.

عرفت بأغلب الأعلام البشرية المذكورة في الكتاب، وأشرت إلى مصادر ترجمة كل علم، وكذلك الأعلام البشرية، وشرحت بعض المصطلحات التي رأيتها في حاجة إلى توضيح، وذلك بالاعتماد على معاجم لغوية مختصة في المجال.

اعتمدت في وضع الهوامش على استقلال كل صفحة بأرقامها، وأشرت فيها إلى الفروق الواردة بين النسخ، وإلى التصحيحات، وإلى التوثيقات المصدرية، والتعاريف، والتعاليق، والشروح. وجميع الملاحظات التي تهم إثبات النص والتأكد منه، أو تدعمه وتكمله وتوضحه.

قمت بوضع بعض الرموز، وذلك تجنبا لإثقال الهامش، ولإبراز المضمون، وتسهيل الاطلاع عليه.

ثانيا: عملية الدراسة

  • إشكالية التجنيس:

دعت الضرورة مناقشة طبيعة موضوع الكتاب، ووضعه في سياقه الثقافي، ذلك أن لم المؤلف لم يقتصر على ترجمة الشيخ العربي كما ورد في عنوان كتابه، وإنما ترجم فيه كذلك للشيخ المؤسس للزاوية وأحفاده، وشيوخه وتلامذته، وللمدرسين العلماء، وللوافدين على الزاوية من الفقهاء. كما أن مقدمة الكتاب خصصها للحديث عن التصوف، ومناقشة الكرامات وتحديد الفرق بينها وبين المعجزات، والسحر والشعوذة، وخاتمته خصصها لسلوك المريد مع مولاه، وبابه الأول في التعريف بسيد الوجود محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني في فضل أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ما جعلنا نبحث عن هوية كتاب الفتح.

من الممكن أن نصنف الكتاب ضمن الترجمة المنقبية المفردة، لأن عنوانه يحيل على ترجمة فرد واحد(3)، وهو الشيخ العربي، وما يقوم عليه العمل في المتن هو إبراز دور الشيخ وأهميته في استمرار زاوية أجداده وإشعاعها العلمي(4).

ومن الممكن أن نصنف الفتح ضمن الترجمة المنقبية الجماعية، لأن الكتاب ينقل لنا مناقب رجال الزاوية الشرقاوية في إطار مراحل زمنية متعاقبة، ويعرفنا بالجماعة الصوفية التي تكلفت بحفظ التسلسل في تسيير الزاوية الشرقاوية، وتناقل معالم الطريقة بدءا بالشيخ الشرقي وشيوخه، مرورا بأولاده وخلافائه وتلامذته، ويبين دور كل مرحلة في استمرارية الزاوية.

كما يمكننا تشبيهه بكتاب في أدب التصوف، لأنه يعرف التصوف ويذكر بعض رجالاته، ويعرض أقوالهم وأشعارهم، ويقدم معلومات حول المذهب، وكيفية سلوك الطريق.

كما يمكننا أيضا أن نضع الكتاب ضمن صنف تأليفي يعرف بـ“الفهرسة”، التي هي صنف تأليفي يختص بذكريات الدراسة عند شيخ من الشيوخ، وما حصله من علوم، وما استفاده من شرعية تحمل هذا العلم في مؤلفاته ورسائله وأنظامه وفوائده، وفي الطرق الصوفية وما يرتبط بها من أوراد ووظائف ومناقب وغيرها، مع التعريف بالشيوخ الذين أخذ عنهم، والترجمة لهم، وذكر أحوالهم وأنظامهم ومؤلفاتهم، وعرض نصوص الإجازات التي صدرت لهم أو منهم”(5). وهذه العناصر جميعها أو جلها حاضرة في هذا الكتاب.

وأمام هذه الافتراضات كان من الضروري تحديد هوية الكتاب هل هو ترجمة “منقبية فردية” أو وهو ترجمة “منقبية جماعية” أوهو كتاب “تصوف” أو هو “فهرسة”؟

للإجابة عن هذا الإشكال التجأنا إلى “القصد” الواعي و”الغاية” المفصح عنها من التأليف، وهو ما وجدناه في قول المؤلف: “لَطَالَمَا تشوَّقَتْ نفسي لتأليفِ هذا الكتاب، وللتعريف فيه بسيِّدنا الجَدِّ بعون الملك الوهَّاب”(6). وفي الباب الرابع يقول: “التعريف بالشيخ مولانا العربي، t، الموضوع من أجله هذا التأليف، والمبتدع فيه هذا التصنيف”(7). وحضور هذا العنصر هو الذي جعلنا نصنف كتاب “الفتح الوهبي” ضمن الترجمة المنقبية الفردية، أما باقي التصنيفات الأخرى فهي تدخل عند المؤلف في مكونات هذه الترجمة. فماذا نعني بالمنقبة؟

نشأت المنقبة وترعرعت في فضاء ثقافي عربي إسلامي بعد أن أخذت حمولتها الدلالية من الخصال الجميلة(8) والأخلاق الحسنة(9) ونفاذ الرأي(10) وما ترتب عن ذلك من سلوكات اجتماعية جسدت هذه الدلالات وعبرت عنها، فصارت شكلا سرديا يحكي عن حياة أشخاص مخصوصين بالقدسية(11)، يذكر سيرهم وخصالهم الحميدة قصد الاقتداء بهم، ومضمونها يجري على أحوال الممكن وأحوال خرق العادة التي لم يألفها الناس(12). وأسلوبها أسلوب تجميل القول والوصف والنعت للدفع به نحو منطقة الاستحسان والقبول والرفعة والنمذجة(13). فهل التزم الكاتب بهذه المكونات والخصائص؟

  • مكونات الكتاب:

بعودتنا إلى كتاب الفتح نجد أن المؤلف لم يكتف بهذه العناصر، بل وسع من دائرة أدب المناقب بانفتاحه على أجناس معرفية أخرى. وهو ما سنتعرف عليه من خلال سرد أهم مكونات الكتاب:

*التراجم: بنى المؤلف كتابه على شخصيات بلغ عددها سبَع عشرة شخصية، اختارها المؤلف تبعا لقصده، فهي فئة تشترك جميعها في العلم والصلاح، وتتقاطع في النسب الشرقاوي أوفي الوظائف التي قامت بها خدمة للزاوية الشرقاوية. وهذا يعني أن صاحب الكتاب لم يكن غافلا عن الحيثيات التي فرضت عليه أن يختار هذه الشخصيات، من حيث نسبة هؤلاء الشيوخ إلى الزاوية الشرقاوية، سواء أكانت هذه الفئة من أبنائها وتلامذتها، أم من زوارها وروادها، أم أطرها وأساتذة شيوخها. أما الترتيب التي جاءت عليه، فهو خضع للمعيار الزمني المتمثل في سنة الوفاة. ومهما يكن قصد المؤلف فإننا وجدنا أربع درجات من الترجمة، وهي:

– الترجمة الرئيسة، وهي التي حددها في العنوان ومدخل الكتاب والمتمثلة في جده الشيخ العربي، والتي خصص لها الباب الرابع والخامس والسادس.

– الترجمة الثانوية، وظهرت في الباب الثالث المتمثلة في الحديث عن الشيخ محمد الشرقي مؤسس زاوية أبي الجعد.

– الترجمة الفرعية، وظهرت عندما ترجم المؤلف لأبناء وأحفاد الشيخ الشرقي.

– الترجمة العرضية، وظهرت بالخصوص عندما ترجم محمد العربي لشيوخه ولزوار الزاوية من العلماء والصلحاء.

*الإجازات: هي نصوص ظفر بها الشيخ العربي من أشياخ مغاربة ومشارقة، نقلها بنصوصها الكاملة، مما جعلها تستوعب مساحات في كتاب الفتح الوهبي(14). وعن القصد من ذلك يقول المؤلف: “وَقَدْ تَشَوَّفَتْ نَفْسِي لنقلِ إجازتِهم بِرُمَّتِهَا حَسَبَمَا وجدتُ مُقَيَّدا بخطوطِ أيْدِيهم تَبَرُّكاً بِهَا، وحِفْظاً لَهَا، واعْتِنَاءً بالسَّنَدِ المَشْرِقي إلى الأبَد”(15).

وبتمعننا في المضامين والعبارات، والألفاظ والمصطلحات لهذه الإجازات استنتجنا منها ما يلي:

– طبيعة العلوم التي أخذها المؤلف عن شيوخ العلم، ومكانتهم العلمية.

– العلاقات الأخوية التي تربط الشيخ العربي بباقي علماء المشرق، فعبارات من قبيل حبيبنا، صديقنا، الأخ العزيز، تشير إلى الصلات الأخوية الحميمة التي كانت تجمع علماء المغرب بنظيرهم من المشرق.

– المكانة العلمية المرموقة التي حظي بها الشيخ، علامة، فهامة، …

– البعد الفكري والبلاغي لهذه الإجازات. فبذكر هذا الصنف من النصوص تكتمل مراحل العملية التعليمية عند الشيوخ العلماء.

– الحرص على لقاء شيوخ العلم والجلوس إليهم والأخذ عنهم ورسم الفوائد التي تؤخذ بين أيديهم(16).

– التواصل الثقافي بين جهات العالم الإسلامي ورجالاته، فحلقة الدرس وإن توحد العلم الذي يلقن فيها تختلف باختلاف مناهج الشيوخ في الموقف العلمي والمذهبي وفي طريقة التدريس والمصنفات المعتمدة فيه(17).

– عدم الاكتفاء برجال العلم، بل أيضا رجال الصلاح والبركة.

– اكتساب الشيخ العربي كيفية التدريس عند هذا الشيخ أو ذاك وطريقته ومنهجه في المعالجة والكتب والمصنفات المستعملة، وغير ذلك(18)، لتوظيفها عند العودة إلى زاويته، وممارسته لمهامه.

*الكرامات: قضية كرامات الأولياء والصالحين من أكثر القضايا التي نالت قسطا وافرا من الجدل في التاريخ الإسلامي، وقد تبين من خلال الفتح الوهبي بأن المؤلف على علم بما أثارته هذه القضية من جدل، لذلك نجده يخصص المقدمة لمناقشة الكرامة ومقارنتها بالمعجزة، وتمييزها عن السحر والشعوذة وباقي الخوارق، ممهدا بذلك الطريق، لسرد كرامات شيوخ الزاوية عموما، والشيخ العربي خصوصا.

وحرصا على وثوقية أخبارها، فقد اهتم الكاتب في سردها على تقنية البناء الإسنادي المتسم بالرواية الشفهية من رجال مقربين، وموثوق في صحة أخبارهم (مسن، متدين، خير…) وذلك لما للسند من أهمية بالغة.

الشعــــر: بلغ عدد الأبيات الشعرية الواردة في المتن سواء أكانت من نظم المؤلف أم من نظم غيره، ما يقرب من اثنين وعشرين وتسع مائة (922) مقسمة بين الأبيات الشعرية الفصحى والأبيات العامية.

– الشعر الفصيح، وهو في عمومه لم يخرج عن الإطار المتداول لكتب المناقب، من مديح نبوي، ومدح الشيوخ والأولياء، وتوسلات وسلوكات ومعاملات، كما أن أصحابها أغلبهم من كبار الشعراء والمتصوفة المشهورين، بل حتى الشعر المجهول صاحبه، فهو متداول على ألسنة الناس مضمونه، وتبقى بحوره من الأوزان التي اعتاد الشعراءُ النظمَ عليها.

– الشعر العامي، وأغلبه من نظم رجال الزاوية الشرقاوية، بل حتى الأبيات المنظومة من غير شيوخها فهي تدخل ضمن تراث الزاوية، على اعتبار أنها حاورت شيوخ الزاوية، وأجابوا عليها بنفس المضمون، والتقفية والوزن. وقد تناول هذا النوع أغراض الزهد والتصوف والحكمة والمحبة والمدح والهجاء. وترجع أهميته في إبراز التراث الأدبي للزاوية الشرقاوية.

  • ثوابت الترجمة المنقبية:

يعد الاسم والنسب، والأصل والكنية، والولادة وظروف النشأة، وتاريخ الوفاة والطريقة الصوفية والأتباع والمريدين من العناصر الضرورية في بناء الترجمة المنقبية، إذ لا يكتمل إطار وهيكل هذه الترجمة إلا بذكر هذه العناصر، لذلك نجد المؤلف يولي اهتماما خاصا بهذه العناصر، فعند ترجمة جده،

– يذكر الاسم والنسب: “مَولانا العَرْبي بْنُ مولانا المُعْطَى بْنِ مولانا الصَّالح بنِ مولانا مُحمدٍ المعْطى بنِ مولانا عبدِ الخالقِ بْنِ مولانا عبدِ القادرِ بنِ مولانا مَحمدٍ الشرقي واسطةُ العِقْد…، وباقي السَّلَفِ الصالح إلى سيدِنا عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ t”(19).

– يقف عند الكنية: “هو الشيخُ الإمامُ أبو المواهبِ”(20).

– يسرد ظروف النشأة: “نَشَأَ، t، من صغرِه كثيرَ الحياءِ، مُحافظا على دينِه، مُتَّبِعاً لسُنَّةِ نبيِّه، صَدُوقَ اللسان، نَيِّرَ الجِنان، كثيرَ العمل، تاركا ما يعنيه، قليلَ الأمل، كثيرَ البرور،…”(21). ويعرف بالأصل: “اِعْلَمْ أصْلَحَكَ اللهُ، أنَّ أصلَ هؤلاءِ الساداتِ وأجدادَهم أتَوْا من المشرقِ”(22).

– يذكر تاريخ الوفاة: “تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ الله، يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ جُمَادَى الأُولَى عامَ أرْبَعَةٍ وثَلاثِينَ ومائَتَيْنِ وَألْف”(23)، ويحدد موضع الدفن: “وَدُفِنَ بِبَيْتِهِ بدارِ والِدِه”(24)،

– يصف الإجراءات المتخذة لحماية القبر: “وَقَدْ بَنَى عَلَيْهِ ولَدُه البركةُ سيدي بنداودَ قُبَّةً حَفِيلَةً سنية، وصَرَفَ عَلَيْهَا أمْوالا جَلِيلَة، جَزاهُ اللهُ خَيْرا، وباركَ لنَا فِيه، وأطالَ لَنَا عُمره”(25)، فتأطير الشخصية زمانيا ومكانيا يكون بغرض زيارتها وتخليدها بعد الممات.

– يعرض أسانيد الطريقة الصوفية، إذ تشكل مسألة الطريقة وعرض أسانيدها قاعدة أساسية في النظام الصوفي، فلا يعد الصوفي صوفيا ومعترفا به إلا إذا كانت له طريقة يتبناها.

– يذكر الأتباع والمريدين، نظرا لما للتلمذة الصوفية من أهمية في السيرة المنقبية، وما تحمله من شحنة معنوية، تزيد من مكانة ورفعة الشخصية الصوفية، لتحمل مسؤلية استمرار الزاوية الشرقاوية.

  • سمات وخصائص المنقبة:

لم يكتف المؤلف بعرض المكونات فحسب، بل أسند لهذه المكونات سمات وخصائص، جاعلا من كتاب الفتح الوهبي نموذجا يحتذى به في الكتابة المنقبية الصوفية، ولعل أبرزها:

التحليــة: عمل المؤلف على تحلية جده، بأوصاف ونعوت وتشابيه تليق بمقامه، وترفع من قدره، وتزيد في شهرته، وتجعل المتلقي يشعر بهيبته، ويحترم مكانته، داخل الوسط الاجتماعي والديني، فقد استهل ترجمة الشيخ العربي بقوله: “اِعْلَمْ أرْشدكَ اللهُ، أنَّهُ هو الشيخُ الكامل، العالمُ العامل، الخاضعُ لمولاه، الخاشعُ من جلالِ الله، صاحبُ التصرفِ التام، والفضلِ الشهيرِ العام. بحرُ المعارفِ والعوارف، وعنصر المجد التَّالدِ والطَّارف، نجمُ الهدايةِ للعباد، وكعبةُ القُصَّادِ والوُرَّاد، ومحط ركب الحاضر والباد، السيد الذي أسْمَاهُ اللهُ ورفَعَه، وأهْدَى به للإسلامِ كُلَّ مَنْفَعَةٍ. الهمامُ الذي تَسَرْبَل من برودِ السَّعَادة أسناها، وأنْهَل كل نفس مَشْرَبِيَّةٍ إليه من شَآبيبِ علمِه، وينابيعِ حِلْمِهِ، حتى بَلَغَتْ مُنَاهَا، صاحب الفَيْضِ الوَهْبِي، والغوث الذي طولَ زمانِه يُرْبِي، مولانا العربي(26).

الصفات الخُلقية والاقتداء: راهن المؤلف على الجانب الأخلاقي في شخصية العربي من أجل صياغة ترجمة نمطية تكون بمثابة قدوة يحتذى بها. ويشمل هذا الجانب الصفات والنعوت والتشابيه الأخلاقية من صدق ومروءة، وجود وسخاء، وورع وصبر، وزهد ووقار، وغيرها من الصفات الإيجابية الحميدة المرغوب فيها. ثم أضاف سمة نوعية لكتابه، وتتمثل في إقامة مماثلة ومشابهة بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والشيخ العربي. حين لجأ في الباب الرابع إلى سرد أخلاق الشيخ العربي، مشبها بها أخلاق الرسول الرسول صلى الله عليه وسلم، تزيد من تأكيد ما يتمتع به الشيخ من مميزات جعلت منه شخصية غير عادية، شخصية تجد في الرسول محمد صلى الله عليه النموذج الأعلى، والاقتداء الأمثل.

  • طبيعة الأدلة والحجج:

جعلت ثقافة المؤلف ينهج منهج التحليل العلمي المبني على قوة الدليل ووضوح الحجة، فإذا تكلم في أمر إلا ويجلب له البرهان سواء من الكتاب والسنة، أو من أقوال العلماء المتقدمين من أهل العلم والتصوف والأدب، والهدف من ذلك هو إقناع المتلقي والتواصل معه، وهذا ما عزز موقف محمد العربي تجاه عديد من القضايا التي أشار إليها أو ناقشها، ويمكن تحديد طبيعة هذه الاستدلالات فيما يلي:

الاستدلال بالقرآن الكريم: شكل القرآن الكريم منطلقا أساسا لبناء مواد الكتاب الفكرية والاعتقادية، رجع المؤلف إليه باستمرار لإعطاء المصداقية والمرجعية الدينية، فلا يخلو باب من أبواب الكتاب من ذكر لآيات قرآنية(27) ، يعزز بها الكاتب رأيه إزاء القضايا المعرفية، حيث بلغ عدد الآيات الواردة في المتن مائة وسبعين آية، جاء بعضها على لسانه، والبعض الآخر من المصادر التي نقل عنها. وتجدر الإشارة إلى أن الاستدلال بالقرآن الكريم أخذ شكلين: الأول: الاستشهاد بالآية بذكر نصها. والثاني: تضمين الآية أو معناها في ثنايا الكلام مثل قوله: “جعلها خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكور(28)، وقوله: “ولم يأت شيئا فريا”(29)، وقوله أيضا: “سبحانه ذو الفضل العظيم”(30).

الاستدلال بالسنة النبوية: مسألة إدخال الحديث النبوي الشريف ضرورة تقتضيها طبيعة الموضوع الذي يحتاج إلى إقامة الحجة والدليل والبرهان، وقد اتخذ الاستدلال به ثلاثة أشكال؛ فإما أن يستشهد المؤلف بنصه كاملا كقوله وهو يستشهد على وجود الكرامة من السنة: “فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار بصخرة”(31)، فذكر الحديث كاملا(32) ، أو يشير إليه بجزء من لفظه كقوله: “والأحاديث الشاهدة لعود الدين غريبا”(33) ، أو يشير إلى معناه(34). وينتمي معظم هذه الأحاديث إلى صنف الحديث الصحيح والحسن، رواها كبار المحدثين: كالبخاري، ومسلم، وابن ماجة، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، وأحمد، والحاكم، وابن أبي شيبة، وابن منيع، ومالك. ويوجد إلى جانبها عدد من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والغريبة التي اعتاد الصوفية على الاستشهاد بها في سياقات متعددة كحديث الأبدال الذي ركب من ألفاظ مختلفة وكلها ضعيفة(35). وعملية إدراج الأحاديث الضعيفة له دلالات في كتب المناقب.

الاستدلال بأقوال العلماء وبالأمثال والحكم: يستدل المؤلف أيضا بآراء من تقدمه من العلماء في عدة مسائل أثيرت حولها نقاشات. وهكذا نجده يستدل على مسائل فقهية بمواقف الحطاب عن القرافي(36)، ويورد نصا للسيوطي”(37). ونجده يستدل على مكانة الشيخ واشتهار مناقبه بمثل عربي يتمثل في “ابن جلا”(38) ، وهو مثل يضرب للرجل المشهور، والمتعالم، والشريف، والواضح. ويستدل على تقليل الشيخ العربي للمزاح وميله إلى الوقار بمجموعة من الأمثلة والحكم، كقوله: “مَنْ قَالَ مَا لَا يَعْنِي، سَمِعَ مَا لَا يَشْتَهِي”، و”المِزَاحُ يُورثُ الضَّغَائِنَ، و”لَوْ كَانَ الْمِزَاحُ فَحْلاً لَمْ يُنْتِجْ إلَّا شَرّاً”(39). ونجد الكاتب أيضا يستدل بأمثال من التراث المغربي كقوله: “مَنْ أرَادَ حَمُّ تَلِدْهُ لَهُ أُمُّهُ”(40) ، وهو مثل جلبه المؤلف للاستدلال على أن العلماء لا يمل حديثهم، وقوله: “يعملُ أهْلُ بادُوَا ما أرَادُوا”(41) ، وقد جلبه المؤلف للتدليل على التهور، والسرعة في اتخاذ القرار.

الاستدلال بالشعر: اهتم المؤلف بالشعر باعتباره من الحجج الأدبية لينوع بها استشهاداته، ويجعلها من دعائمه. فنجده يستدل على وجود الكرامة بأبيات شعرية، يقول: “وإنما أتَيْتُ بالكرامةِ مُتَنَوِّعَةً لِيُسْتَشْهَدَ بها على مِثْلها عند وُقُوعِها، وللهِ دَرُّ مَنْ قَالَ:

لَا تَسْتَرِبْ فِي كَرَامَاتٍ يُخَـصُّ بِهَـا /// مَنِ اتَّقـَى اللهَ فـِي سِــرٍّ وَإعْـلانِ”(42).

وَقالَ الضريرُ في بابِ إثْباتِ الكَرَاماتِ مِنْ مَنْظُومَتِه:

وَاللهُ يُبْـدِي اللُّطْفَ وَالْكَـرَامَــهْ /// للطَّائِعِـيـنَ أهْــلِ الاِسْتِـقـَامَــهْ”(43).

ويستدل على فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت شعري للبوصيري:

فَإِنَّ فَضْلَ رَسولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ /// حَدٌّ فَيُعْرِبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ(44)

وعلى فضل الأمة المحمدية ببيت زهير:

لَهُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الأنَامُ لِحُكْمِهِمْ /// إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ(45)

وأثناء عرضه لإحدى كرامات جده في المكاشفة، استشهد على ذلك بأبيات شعرية مطلعها:

قُلـُوبُ الْعَارِفِينَ  لَهَا  عُيُـونٌ /// تَـرَى مَا لا يَرَاهُ  النَّاظِــرُونَا(46)

  • الأساليب البلاغية:

يستثمر المؤلف عددا مهما من الإمكانات اللغوية، والطاقات البلاغية، لإيصال رسالته، لجميع فئات قرائه، ومن ذلك:

أسلوب السجع: نجد في الكتاب مجموعة من الجمل والفقرات مسجوعة جاءت في غاية من التنظيم والجمال، تعطي للأذن رنة موسيقية، تجعل المتلقي ينساق وراءه بكل تلقائية. ومن أمثلة ذلك قول المؤلف: “الحَمْدُ للهِ الَّذِي تَوَّجَهُمْ بِتِيجَانِ المَهَابةِ والتَّعْظيم، وخَلَعَ عَلَيْهِمْ خُلْعَ الرِّضا والرضوانِ والتَّكْريم، وأجْلَسَهُمْ على كراسي السِّيادة في مناصب التَّفْخِيم، وسَقَاهُمْ بالكأس الأوْفَى من الرحيق المختوم والتَّسْنِيم،…”(47).

– الأساليب الإنشائية: يوظفها المؤلف حين يريد مخاطبة المتلقي بلغة تعبيرية تأثيرية يدعوه فيها إلى النظر والتأمل والتدبر، فأثناء سرده للكرامات يستعمل عبارات تتضمن أفعال الكلام من قبيل أسلوبي الأمر والنداء، مثل قوله: فَانْظُرْ يا أخِي إلَى هذِه الكرامةِ العَظيمَة، والمنقبةِ الفَخيمَة..” (48). وقوله: “فانْظُرْ يا أخِي إلى ما أشرْتُ إليه..” (49)، وقوله: “فانْظُرْ، وفَّقَكَ اللهُ، إلى هذه الكرامةِ الباهرة، والإشارةِ الصادقة..” (50) ، وقوله أيضا: “تَأَمَّلْ، هَداك الله، هذه المنقبةَ الكريمة، و الكرامةَ العظيمة، واعْرفْ حَقَّ صاحبها”(51) ، وأسلوب التعجب مثل قوله: “فَيالَهَا مِنْ كَرَامَةٍ عَظِيمَةِ المِقْدَار! (52). وقد تخرج هذه الأساليب عن معناها لأغراض بلاغية من ذلك العبارات المتعلقة بالدعاء، منها قول محمد العربي: “اَللَّهُمَّ نَجِّنَا من البَلاء والغَلاء(53)، وقوله: “اَللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ يا مَوْلاي، أنْ تَمُنَّ عَلَيْنَا مِنْ جُودِكَ وَجُودِ هذا الوَلِيِّ ما تُعْتِقُ بِهِ رِقابَنَا مِنَ النَّار..” (54).

– أسلوب الحوار الجدلي: هذا الأسلوب عادة ما يسلكه المناطقة، أقامه المؤلف بينه وبين محاور مفترض، بغرض إقناعه، وإقناع القارئ بوجهة نظره، اتجاه القضايا التي يناقشها في كتابه، من ذلك: “فَإِنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ يُمْكِنُ ..؟ قُلْتُ: الجَوَابُ عَنْ ذلكَ…” (55)، وقوله أيضا: “فإنْ قُلْتَ: على ما يحمل ما وقعَ للشيخِ مولانا العَرْبي في الصَّلاتين …؟ قلتُ: الأليقُ بالجوابِ في ذلك، أنّه..” (56).

– التصويـر اللغوي: يكون عن طريق استخدام ألفاظ اللغة وأساليبها بعيدا عن التشبيه والاستعارة وسواهما مما يندرج ضمن التصوير بالمجاز(57)، ومثال ذلك: “وكانَ له، t، وصيفٌ يَبِيتُ بَيْنَ دفَّتَي المسجد فَيَدُقُّ عليه البابَ، فَيَفْتَحُهُ له، فيدخُل، ويصلِّي ما شاءَ اللهُ من النَّافِلة، فإذا طلعَ الفجرُ صَلَّاه، ثم صَلَّى الصُّبْحَ، ثم يَشْتَغِلُ بقراءةِ الحِزْبِ مع الطلبةِ واقفا والبُخُورُ مُتَصاعِد، إلى أنْ يَفْرُغَ منه، ثم يشتغلُ مع الطلبةِ بالمُذاكرةِ بأدبٍ وحسن بُشرى، فإذا طلعتِ الشمسُ اشْتَغَلَ بما لابُدَّ منهُ مِنْ أمُورِ الزُّوار، فيقضِي لكلِّ واحدٍ غَرَضَهُ، ويُمَكِّنُ كُلَّ مَنْ أتَاه لشيءٍ بمطلوبِه، حتَّى يَصْدُرَ النَّاسُ عنهُ مقضين المآرب، مستوفين الرغائب، فإذا كانَ وقتُ العِشاءِ وصَلَّى مع الناسِ تنفلَ بعدَها ثلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بالشَّفْعِ والوِتْرِ”(58). فهذا النص يرسم لنا صورة نابضة بالحركة، غنية بالأفعال، يخبرنا من خلاله المؤلف بنشاط جده اليومي في فقرة مركزة، وهي صورة كما نرى لا تقوم على التشبيه والاستعارة، ولا على شيء مما يشبه ذلك، وإنما تقوم على اللغة المعبرة في نظم عربي مبين(59).

– التصوير البلاغي: ترد بالكتاب مجموعة من الصور المجازية من تشبيه وكناية ومجاز واستعارة، وإيحاء وإيماء وإشارة، وهي صور ذات معاني غير مباشرة، تتطلب من القارئ بذل جهد إضافي لاستنباط البنية العميقة للعبارة، والنفاذ إلى حقيقتها، واستنباط معانيها، فعبارة، “لِمَ تَرَكْتَ سيدي العربي دخلَ عليَّ في صُورَةِ أسَدٍ وجَعَلَ يَتَهَدَّدُنِي…” (60)، تدل على شجاعة شيخ الزاوية في مواجهة السلطان المولى سليمان، وجملة “فلا تلعب القِمار معهم بالمملكة”(61)، توحي إلى مغامرة ومخاطرة السلطان المولى سليمان في حربه ضد البربر، وعبارة “أعْطَى الشيخُ، t، مُخَّ لَحْمٍ لِلصَّبِيَّةِ الشَّرِيفة”(62)، تومئ إلى رزانة وذكاء الطفلة التي تتناول الطعام مقارنة بالجالسين معها، وعبارة “وأمرَ الولدَ بِلعقِ ما بقيَ في القَصْعَةِ مِنَ الطَّعام”(63)، إشارة لحالِ هذا الوَلَدِ مِنْ أنَّهُ سَينالُ خَيْراً كَثيرا، ويحوزُ أجْرا كبيرا، وجملة “فأعطاه الشيخُ قميصَ صَبِيٍّ”(64) إيحاء بازدياد مولود ذكر، وجملة “ولد المعزة”(65) كناية إلى ابْنِ أَمَة سوداء البشرة، وقول المؤلف: “وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ قُفَّةَ خُبْزٍ وأجَالَ فِيهَا يَدَه”(66) كناية على الكرم والجود والعطاء، و”الجذب”(67)، و”الطيران في الهواء”(68)، و”المشي على الماء”(69)، صور مجازية تعبر عن مكانة الصوفي التي تحمله نحو السمو والارتقاء.

على سبيل الختم:

حاصل الأمر، إن كتاب “الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي” ترجمة لعلم من أعلام الزاوية الشرقاوية ذكر نسبه واسمه ولقبه وكنيته وأصله، واحتفل بمحطات مساره الشخصي في تحصيل العلم، واعتنى بسيرته في اكتساب الفضائل والقيم، ورصد درجته وطبقته ومرتبته في سلم المجتمع، وأحاط بأحداث المرحلة الزمنية، والاعتبارات الأخلاقية السلوكية، والانخراط في الأعمال الاجتماعية، والمشاركات السياسية، وتحملِ جسام الأمور، والاحتفاظ بالإنتاجات والآثار، من نصوص وأخبار، ورسائل وأشعار. وبأسلوب يتميز بجمالية القول والوصف، وبصيغ لغوية بسيطة تؤول إلى صور بلاغية جمالية وحجاجية لا يقتصر الإفادة فيها على واقعها الخبري أو على مضمونها الحرفي.

 وبهذه المكونات والخصائص والسمات أدركنا أن كتاب الفتح الوهبي خطاب منقبي له غاية بلاغية، سعى إلى تهييء شخصية الشيخ العربي الشرقي تهييئا روحيا يصل إلى درجة الاحترام؛ بل التقديس والتبجيل، لتحقيق تأثير سلوكي في أفراد المجتمع، وهو ما حاولنا توضحيه من خلال مجموعة من الدراسات التي قمنا بها لاحقا بعد تحقيق الكتاب ودراسته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

– الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي، العربي بنداود الشرقي، دراسة وتحقيق: محمد أفيلال، منشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى 2020م.

المراجع:

– الاتباع والابتداع في الشعر الأموي القصيدة المادحة أنموذجا، محمد أمين المؤدب، جامعة عبد المالك السعدي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، سلسلة الأطاريح الجامعية 3، الطبعة الأولى 1423 هـ/2002م.

– أساس البلاغة، محمود بن عمر الزمخشري، دار الفكر، بيروت، 1399هـ/1979م.

– تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة السابعة 1418ه/ 1998م.

– التصوف المغربي من عمق السياق إلى قوة الرمز، عبد الله بن عتو، ضمن الزوايا في المغرب، مجلة المناهل، السنة 29، عدد 80/81، محرم 1428هـ/ فبراير 2007م.

– تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، محمد بازي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 1431هـ/2010م.

– تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2001م.

– جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى 1987م.

– السفر في العالم العربي الإسلامي التواصل والحداثة: الرحلة الفهرسية نموذج للتواصل داخل العالم الإسلامي، رحلة أبي سالم العياشي نموذجا، عبد الله المرابط الترغي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم 108.

– كتب التراجم العامة وكتب المناقب خلال عصر المولى إسماعيل 1082هـ-1139هـ، القسم الأول، عبد الله المرابط الترغي، مجلة المناهل، العدد 51، 1996م.

– كتب التراجم العامة وكتب المناقب خلال عصر المولى إسماعيل 1082هـ-1139هـ، القسم الثاني، عبد الله المرابط الترغي، مجلة المناهل، العدد 56، 1997م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) الشيخ العربي: هو أبو عبد الله محمد العربي بن محمد المعطى العمري البجعدي التادلي الشرقي، أحد أبناء الزاوية الشرقاوية وخلفائها الذين تقلدوا رئاسة الزاوية والتدريس فيها. والمؤلف في حقه كتاب الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي. توفي عام 1234ه/18-1819م. ترجمته في: الفتح الوهبي في مناقب الشيخ العربي، العربي بنداود الشرقي، دراسة وتحقيق د. محمد أفيلال، منشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى 2020م، الكتاب كله،

– الفتح الوهبي، قسم الدراسة، ص: 62 وص: 81-98. والمراجع المذكورة.

(2) تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة السابعة 1418ه/ 1998م، ص: 42.

(3) كتب التراجم العامة وكتب المناقب خلال عصر المولى إسماعيل 1082هـ-1139هـ، القسم الأول، عبد الله المرابط الترغي، مجلة المناهل، العدد 51، 1996م. ص: 69.

(4) كتب التراجم العامة وكتب المناقب خلال عصر المولى إسماعيل 1082هـ-1139هـ، القسم الثاني، عبد الله المرابط الترغي، مجلة المناهل، العدد 56: السنة الثانية والعشرون، جمادى الأولى 1418هـ/شتنبر1997م، ص: 6.

(5) السفر في العالم العربي الإسلامي التواصل والحداثة: الرحلة الفهرسية نموذج للتواصل داخل العالم الإسلامي، رحلة أبي سالم العياشي نموذجا، للدكتور عبد الله المرابط الترغي، ص: 15.

(6) الفتح الوهبي، ص: 176.

(7) الفتح الوهبي، ص: 431.

(8) جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى 1987م: 1/375.

(9) تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2001م: 9/159.

(10) أساس البلاغة، محمود بن عمر الزمخشري، دار الفكر، بيروت، 1399هـ/1979م، ص: 649- 650.

(11) تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، محمد بازي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 1431هـ/2010م، ص: 141.

(12) كتب التراجم العامة وكتب المناقب خلال عصر المولى إسماعيل 1082هـ-1139هـ، القسم الثاني، ص: 5-6.

(13) التصوف المغربي من عمق السياق إلى قوة الرمز، عبد الله بن عتو، ضمن الزوايا في المغرب، مجلة المناهل، السنة 29، عدد 80/81، محرم 1428هـ/ فبراير 2007م: 1/297.

(14) الفتح الوهبي، الباب الخامس، من ص 465 إلى ص: 490.

(15) الفتح الوهبي، ص: 468.

(16) الرحلة الفهرسية، ص: 20.

(17) الرحلة الفهرسية، ص: 23-24.

(18) الرحلة الفهرسية، ص: 23.

(19) الفتح الوهبي، ص: 432.

(20) الفتح الوهبي، ص: 432.

(21) الفتح الوهبي، ص: 432.

(22) الفتح الوهبي، ص: 415.

(23) الفتح الوهبي، ص: 562.

(24) الفتح الوهبي، ص: 562.

(25) الفتح الوهبي، ص: 562.

(26) الفتح الوهبي، ص: 431.

(27) استدل مثلا على إثبات الكرامة بعدد من الآيات القرآنية أخذت مساحة مهمة من كتاب الفتح الوهبي، من ص: 196 إلى ص: 201.

(28) الفتح الوهبي، ص: 442-443.

(29) الفتح الوهبي، ص: 177.

(30) الفتح الوهبي، ص: 266.

(31) الفتح الوهبي، ص: 201.

(32) الفتح الوهبي، ص: 201-202.

(33) الفتح الوهبي، ص: 329.

(34) الفتح الوهبي، ص: 357، 532.

(35) ينظر الفتح الوهبي، ص: 183-184 مع الهامش رقم 1 من الصفحة 184.

(36) الفتح الوهبي، ص: 537.

(37) الفتح الوهبي، ص: 539.

(38) الفتح الوهبي، ص: 174.

(39) الفتح الوهبي، ص: 451-452.

(40) الفتح الوهبي، ص: 452.

(41) الفتح الوهبي، ص: 528.

(42) الفتح الوهبي، ص: 210.

(43) الفتح الوهبي، ص: 211.

(44) الفتح الوهبي، ص: 230.

(45) الفتح الوهبي، ص: 240.

(46) الفتح الوهبي، ص: 533.

(47) الفتح الوهبي، ص: 171.

(48) الفتح الوهبي، ص: 409.

(49) الفتح الوهبي، ص: 529.

(50) الفتح الوهبي، ص: 556.

(51) الفتح الوهبي، ص: 545.

(52) الفتح الوهبي، ص: 555.

(53) الفتح الوهبي، ص: 546.

(54) الفتح الوهبي، ص: 552.

(55) الفتح الوهبي، ص: 539.

(56) الفتح الوهبي، ص: 543-544.

(57) الاتباع والابتداع في الشعر الأموي القصيدة المادحة أنموذجا، محمد أمين المؤدب، جامعة عبد المالك السعدي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، سلسلة الأطاريح الجامعية 3، الطبعة الأولى 1423 هـ/2002م، ص: 442.

(58) الفتح الوهبي، ص 438.

(59) الاتباع والابتداع، ص: 442.

(60) الفتح الوهبي، ص: 544.

(61) الفتح الوهبي، ص: 528.

(62) الفتح الوهبي، ص: 532.

(63) الفتح الوهبي، ص: 532.

(64) الفتح الوهبي، ص: 534.

(65) الفتح الوهبي، ص: 561.

(66) الفتح الوهبي، ص: 524.

(67) الفتح الوهبي، ص: 253-257-293-295-348-352-367-373-375-377-378-389-401-412-413- 427- 507- 508.

(68) الفتح الوهبي، ص: 328-340-538.

(69) الفتح الوهبي، ص: 340-538.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق