مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

(2)في فقه اللغة العربية

 

فقه اللغة مراحله وتطوره.
مر فقه اللغة بمراحل من الجمع والتأليف والتحرير، أسهمت في صياغة مطالبه، وضبط أبوابه، وتحرير مسائله، إلى أن استوى فنا قائما منمازا عن غيره من فروع المعرفة اللغوية.  
ويمكن عند النظر تقسيم المراحل التي مر بها هذا العلم إلى أربعة، يسلم بعضها إلى بعض.
الأولى: مرحلة الجمع والتدوين.
وهي مرحلة تبتدئ من نشأة التأليف في العربية إلى منتصف القرن الرابع الهجري، وتمتاز بانتشار مباحث هذا العلم، وتداخل مسائله مع النحو والصرف والبلاغة والأدب. 
وقد بدأ هذا الفرع في التراث العربي  تحت اسم “اللغة”، فكان العلماء يفرقون بين ما يسمونه “العربية” وما يسمونه “اللغة”. فكانوا يقولون مثلا: كان فلان متقدما في العربية، متبحرا في اللغة، أو كان الخليل إماما في العربية واللغة. 
ويقصدون بالعربية “النحو” وباللغة “فقه اللغة”، وكان الغالب على موضوع اللغة، المتن اللغوي الذي يراد به مفردات اللغة، وما يختلف عليها من ظواهر، وما تدل عليه من المعاني.
ويدخل في ذلك استعمال الكلمات في حقول معينة مما تشتمل عليه البيئة العربية الصحراوية، سواء أكانت هذه الحقول ظواهر طبيعية، كالأنواء والسحاب والغيث والمطر، أو نباتية، كالنبات والنخيل والشجر، أم حيوانية كالإبل والشاء والخيل وهلم جرا. 
وربما دخل تحت ذلك “الغريب” كما في “غريب اللغة” لابن قتيبة، و”نظام الغريب” لعلي بن عيسى الربعي، ونحوها.
بل ربما دخل الترادف والتضاد، والمشترك اللفظي، والفروق وأنواع المعاجم تحت هذا الاسم ولم يطلق على هذه الدراسة اسم “فقه اللغة” إلا في القرن الرابع الهجري، ولعل أول تسجيل لهذه التسمية كان في  عنوان كتاب أحمد بن فارس “الصاحبي في فقه اللغة”.1
وقد كان الدافع القوي الذي دفع إلى البحث في الدرس اللغوي والعناية بالألفاظ اللغوية في هذه المرحلة، هو انتشار اللحن نتيجة لاختلاط العرب بغيرهم من الأمم، حيث لم يعد اللحن يقتصر على عدم القدرة على ضبط أواخر الكلمات بل تعداه إلى استعمال الألفاظ وتحريفها في الاستعمال عن مواضعها التي تعارفت العرب عليها، أو عدم القدرة من قبل المستعربين على حفظ هذه الألفاظ وضبطها والنطق بها على هيئاتها الصحيحة الصوتية والصرفية مما هدد بضياع كثير من ألفاظ اللغة، وهذا ما جعل أهل العلم يسارعون إلى تدوينها وضبطها والبحث عن معانيها الدقيقة، لتعين فيما بعد على تفهم معاني القرآن الكريم والحديث والشعر.
وقد عبر عن هذه الحيثية ابن خلدون بقوله: “لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين، وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي2. 
والعناية بدراسة ألفاظ اللغة وتحديد مدلولاتها وضبطها قديمة، وربما كانت أقدم من العناية بالاعراب، لأن نشأتها قد بدأت في الظهور منذ العناية بالنص القرآني وتفسير بعض ألفاظه، ولعلّ فيما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنه من المسائل المعروفة بمسائل نافع بن الأزرق دلالة على هذه العناية منذ وقت مبكر سواء صحّت نسبة جميعها أو بعضها.3
ومن طلائع هذه المرحلة، أبو الأسود الدؤلي، الذي له قصيدة في لحن العامة، وقد غلب على طبقة أبي الأسود وتلاميذه الاشتغال بالنحو ثم تلتهم طبقة أخرى كان فيها مثل أبي عمرو بن العلاء الذي عاصر عبد الله بن أبي إسحاق صاحب الشهرة الكبيرة في تاريخ النحو والقياس وكان «عبد الله يقدّم على أبي عمرو في النحو، وأبو عمرو يقدّم عليه في اللغة، وكان أبو عمرو سيد الناس وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب»4.
وأهم اللغويين الذين نجدهم في هذه الفترة هم تلامذة أبي عمرو وطبقتهم، وقد قام هؤلاء بأجل الأعمال اللغوية فقد اضطلعوا بعملية شاقة ومشروع كبير، تمثل في جمع اللغة وضبط مفرداتها وتصحيح ألفاظها والرحلة إلى البادية تحقيقا لهذا الغرض.
وبذلك فإن المرحلة الأولى في التأليف اللغوي قد تأثرت بما يهم اللغويين في ذلك الحين وهو عملية الجمع، ونلاحظ على آثارهم التي خلفوها عنايتها بجمع الألفاظ التي تدور حول موضوع معين دون أن يكون هناك اهتمام كبير بدراسة الفلسفة اللغوية لهذه الألفاظ، أو تعمق في دراسة الخصائص اللغوية المتنوعة المتصلة بها.
وأقدم المؤلفات في اللغة هي ما خلفه هؤلاء، فقد ترك الأصمعي (215 هـ) عددا كبيرا من الكتب ضاع عدد منها ووصل إلينا عدد لا بأس به، والنظرة في كتب الأصمعي تؤيد الملاحظة السابقة عن اتجاه المؤلفين إلى جمع الألفاظ التي تتصل بموضوع ما بعضها إلى جانب بعض، فله من الكتب خلق الانسان، والأنواء، المقصور والممدود، الصفات، الميسر والقداح، خلق الفرس، الابل، الشاء، الأخبية والبيوت، الأمثال، الأضداد، الألفاظ، اللغات، الاشتقاق … إلى آخره5
ويتضح من ذكر بعض مؤلفاته دراساته لبعض الظواهر العامة في اللغة كالاشتقاق والأضداد، وأن معظم كتبه معاجم متنوعة ترمي إلى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني. وكان معاصرا للأصمعي اللغوي الكبير أبو زيد الأنصاري (214 هـ) وكان من رواة اللغة الموثوق بهم، وقد ترك من الكتب: الإبل والشاء، المطر، خلق الانسان النبات والشجر واللغات والنوادر والجمع والتثنية، وتحقيق الهمزة والوحوش … إلى آخر ما صنف من كتب6 ، وقد بقي من كتبه عدد لا بأس به، ونفس ما قلناه عن الأصمعي وآثاره يمكن أن نحكم به على أبي زيد من ناحية توزع مباحثه اللغوية بين الاهتمام بالمعاجم المتنوعة للمعاني المختلفة وبين بعض الظواهر اللغوية، وقد قيل عنه إنه كان شديد العناية بجمع اللغات أي اللهجات، وقد ترك أبو عبيدة معمر بن المثنى (210 أو 211 هـ) عددا كبيرا من الكتب منها غريب القرآن ومعاني القرآن وكتاب الموالي وكتاب الضيفان والمنافرات والقبائل والعقارب والحيات والنوائح والخيل والابل والأضداد7.
وكذلك كان النضر بن شميل (204 هـ) وهو ممن أخذ عن الخليل وكان معاصرا لهذه الطبقة، يهتم بنفس ما اهتمت به طبقته من جمع الألفاظ، ويتناول بعض الظواهر اللغوية، وقد ذكر له من الكتب كتاب الصفات8. 
والناظر في كتاب الفهرست لابن النديم، يقف على نشاط كبير من التأليف اللغوي الذي كان في هذه المرحلة، وهو يعكس مقدار وعيهم بضبط هذه اللغة، وحفظ ألفاظها ودلالاتها. 
وهذه المسائل والموضوعات التي ألف فيها، نجدها في مصدرين مهمين:  
الأول: في مؤلفات النحو والصرف والمعجم والأدب، التي تطرقت أثناء معالجتها للمادة المعرفية إلى أبواب من البحث اللغوي، وأشاروا إلى مهمات من المباحث، كمسألة الوضع وأولية اللغة، وخصائص العربية، وسنن أهلها في الكلام، ومسألة الترادف والاشتراك ومسألة اللهجات العربية والقول في أصل اللغة والاشتقاق والفروق بين المعاني وضروب الاختلاف الكامنة بين الأساليب، إلى غير ذلك. 
 الثاني: مؤلفات في المسائل المفردة لا يجمعها نسق تأليفي محدد، كالتأليف في الاشتقاق والأضداد والوضع اللغوي، والمولد والمعرب والألغاز اللغوية والإتباع والفروق اللغوية ونحو ذلك.   
وهذه المباحث لم يكن ينتظمها باب جامع، ولا فن مفرد، وإنما هي مسائل متفرقة، ونبذ مختلفة، اشتملت عليها الكتب المصنفة، وتفرقت في التآليف. 
فلما نجم القرن الرابع، كانت هذه المباحث قد كثرت وتشعبت، وتهذبت مناحيها وكثرت مسائلها، بيد أنها لا ينتظمها علم ولا يجمعها كتاب مفرد. 
الثانية مرحلة التصنيف والتبويب. 
هذه المرحلة اتسمت بجمع المباحث المنتشرة، وضم المسائل المختلفة، وترتيبها ضمن كتاب جامع، ووضعها تحت عنوان يشملها هو فقه اللغة. 
وقد شارك علماء اللغة في هذه المرحلة، في إغناء الدرس اللغوي بمجموعة من المؤلفات، التي بقيت محافظة على طريقة التأليف الجزئي، لكن ظهر في هذا العصر مشروعان كبيران، حاولا أن يجمعا هذه المباحث، في نسق علمي منظم. 
الأول: مشروع ابن جني: 
ألف أبو الفتح عثمان بن جني (392 هـ) كتابه الخصائص واهتم فيه بأبحاث عديدة تتصل بالقضايا اللغوية العامة والخاصة فتناول أصل اللغة ونشأتها، وبحث ظواهر الاشتقاق والقياس، وتناول اختلاف اللهجات، وضمّن كتابه عديدا من البحوث القيمة بالإضافة إلى الدراسة الصوتية المتميزة التي وضعها في كتابه «سر صناعة الإعراب» وفي غيره.
وكان المشروع الذي قصده، ابن جني هو وضع أصول للنحو على غرار أصول الدين وأصول الفقه. فقال: وذلك أنا لم نر أحدا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه9.  
وإذا كانت أصول الفقه والدين، يراد بها الأدلة الكلية والقضايا الجامعة، التي تنبني عليها الأدلة التفصيلية، فإن أصول النحو عند ابن جني ناظرة إلى هذا المعنى، ويعني بها الأصول الكلية، والقضايا العامة، التي تنبني عليها جزئيات النحو وتفاصيله. 
الثاني: مشروع ابن فارس:
أما ابن فارس، (395 هـ) فقد ألف كتابه «الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها» وتناول فيه أيضا مباحث أصل اللغة ونشأتها كما تناول نظم العرب في مخاطباتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا، وقد ذكر أن مثل هذه الأبحاث من الأبحاث التي تهتم بالأصول، وهو يقصد ما كان يعنيه ونعنيه بفلسفة اللغة أو فقهها، وقد تضمن كتابه بعض المباحث الهامة في خصائص العربية، كالاشتقاق والقياس والترادف والمجاز والمشترك والنحت، واختلاف اللغات واللهجات.
ثم تلاه أبو منصور الثعالبي (439 هـ) فألف كتابا بعنوان «فقه اللغة وسر العربية»، بيد أنه لم يضمنه إلا بعض المباحث القليلة التي تتصل بهذا العلم، حيث تحدث في آخره عن بعض الألفاظ العربية التي نسبت إلى الرومية، وبعض الأسماء المشتركة في الوضع بين العرب والفرس، وبعض ما تفرد به الفرس من الأسماء مما اضطر العرب إلى تعريبه أو تركه، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها ولا تزال عربيتها مستعملة.
وكتاب الثعالبي يصب عنايته في الغالب على إصابة مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ العربية، والتفرقة بين ما وضع منها على العموم وما وضع على الخصوص، وذلك لتجنب اللحن اللغوي الذي ينشأ من تحريف استعمال الألفاظ عن مواضعها التي وضعتها العرب لها، فالعرب مثلا تضع الأبيض لكل ما فيه بياض، ثم تخص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الانسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح، فلا يجوز تحريف هذه الألفاظ باستعمال الأزهر للخيل مثلا، والتحريف في الاستعمال أشد من اللحن في الاعراب وأفحش.
والكتاب في جملته معجم للمعاني، يراعي اختلاف الدلالات والفروق الدقيقة بينها وينبه على مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ، ويبقى عمل الثعالبي مندرجا ضمن مشروع ابن فارس وآيلا إليه.
ولم يستوعب كل من ابن ابن جني وابن فارس موضوعات فقه اللغة، وإنما جمعا من ذلك أصولا مهمة، وبقيت مسائل ونظرات، سيتم إدراجها في المراحل اللاحقة. 
ويمكن التفريق بين عمل ابن جني وابن فارس من خلال ما يلي: 
قصد ابن جني بكتابه ضبط أصول النحو، بينما قصد ابن فارس جمع أصول اللغة. 
عمل ابن جني ألصق بالصناعة النحوية، وهو بذلك أخص من عمل ابن فارس. 
يشترك كل من الكتابين في معالجة الظاوهر اللغوية، وينفرد كل واحد بمسائل تخصه. 
تحليل ابن جني للظواهر اللغوية أعمق وأدق من تحليل ابن فارس. 
الهوامش: 
  الأصول لتمام حسان 240. 
2 المقدمة لابن خلدون ص 548.
3 مسائل نافع ابن الأزرق، يقصد بها أسئلة وجهها نافع إلى ابن عباس، حول مفردات قرآنية. 
4 المزهر للسيوطي ج 2 ص 398، 399.
5 الفهرست لابن النديم ص 82، وبروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 147 – 149.
6 الفهرست ص 81، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 145، 146.
7 الفهرست ص 79، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 142 – 144.
8 الفهرست لابن النديم ص 77.
9الخصائص لابن جني 1/2.

فقه اللغة مراحله وتطوره.
مر فقه اللغة بمراحل من الجمع والتأليف والتحرير، أسهمت في صياغة مطالبه، وضبط أبوابه، وتحرير مسائله، إلى أن استوى فنا قائما منمازا عن غيره من فروع المعرفة اللغوية.

 ويمكن عند النظر تقسيم المراحل التي مر بها هذا العلم إلى أربعة، يسلم بعضها إلى بعض.

الأولى: مرحلة الجمع والتدوين.

وهي مرحلة تبتدئ من نشأة التأليف في العربية إلى منتصف القرن الرابع الهجري، وتمتاز بانتشار مباحث هذا العلم، وتداخل مسائله مع النحو والصرف والبلاغة والأدب. 

وقد بدأ هذا الفرع في التراث العربي  تحت اسم “اللغة”، فكان العلماء يفرقون بين ما يسمونه “العربية” وما يسمونه “اللغة”. فكانوا يقولون مثلا: كان فلان متقدما في العربية، متبحرا في اللغة، أو كان الخليل إماما في العربية واللغة. ويقصدون بالعربية “النحو” وباللغة “فقه اللغة”، وكان الغالب على موضوع اللغة، المتن اللغوي الذي يراد به مفردات اللغة، وما يختلف عليها من ظواهر، وما تدل عليه من المعاني.

ويدخل في ذلك استعمال الكلمات في حقول معينة مما تشتمل عليه البيئة العربية الصحراوية، سواء أكانت هذه الحقول ظواهر طبيعية، كالأنواء والسحاب والغيث والمطر، أو نباتية، كالنبات والنخيل والشجر، أم حيوانية كالإبل والشاء والخيل وهلم جرا. وربما دخل تحت ذلك “الغريب” كما في “غريب اللغة” لابن قتيبة، و”نظام الغريب” لعلي بن عيسى الربعي، ونحوها.بل ربما دخل الترادف والتضاد، والمشترك اللفظي، والفروق وأنواع المعاجم تحت هذا الاسم ولم يطلق على هذه الدراسة اسم “فقه اللغة” إلا في القرن الرابع الهجري، ولعل أول تسجيل لهذه التسمية كان في  عنوان كتاب أحمد بن فارس “الصاحبي في فقه اللغة”.1

وقد كان الدافع القوي الذي دفع إلى البحث في الدرس اللغوي والعناية بالألفاظ اللغوية في هذه المرحلة، هو انتشار اللحن نتيجة لاختلاط العرب بغيرهم من الأمم، حيث لم يعد اللحن يقتصر على عدم القدرة على ضبط أواخر الكلمات بل تعداه إلى استعمال الألفاظ وتحريفها في الاستعمال عن مواضعها التي تعارفت العرب عليها، أو عدم القدرة من قبل المستعربين على حفظ هذه الألفاظ وضبطها والنطق بها على هيئاتها الصحيحة الصوتية والصرفية مما هدد بضياع كثير من ألفاظ اللغة، وهذا ما جعل أهل العلم يسارعون إلى تدوينها وضبطها والبحث عن معانيها الدقيقة، لتعين فيما بعد على تفهم معاني القرآن الكريم والحديث والشعر.

وقد عبر عن هذه الحيثية ابن خلدون بقوله: “لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين، وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي2. 

والعناية بدراسة ألفاظ اللغة وتحديد مدلولاتها وضبطها قديمة، وربما كانت أقدم من العناية بالاعراب، لأن نشأتها قد بدأت في الظهور منذ العناية بالنص القرآني وتفسير بعض ألفاظه، ولعلّ فيما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنه من المسائل المعروفة بمسائل نافع بن الأزرق دلالة على هذه العناية منذ وقت مبكر سواء صحّت نسبة جميعها أو بعضها.3

ومن طلائع هذه المرحلة، أبو الأسود الدؤلي، الذي له قصيدة في لحن العامة، وقد غلب على طبقة أبي الأسود وتلاميذه الاشتغال بالنحو ثم تلتهم طبقة أخرى كان فيها مثل أبي عمرو بن العلاء الذي عاصر عبد الله بن أبي إسحاق صاحب الشهرة الكبيرة في تاريخ النحو والقياس وكان «عبد الله يقدّم على أبي عمرو في النحو، وأبو عمرو يقدّم عليه في اللغة، وكان أبو عمرو سيد الناس وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب»4.

وأهم اللغويين الذين نجدهم في هذه الفترة هم تلامذة أبي عمرو وطبقتهم، وقد قام هؤلاء بأجل الأعمال اللغوية فقد اضطلعوا بعملية شاقة ومشروع كبير، تمثل في جمع اللغة وضبط مفرداتها وتصحيح ألفاظها والرحلة إلى البادية تحقيقا لهذا الغرض.وبذلك فإن المرحلة الأولى في التأليف اللغوي قد تأثرت بما يهم اللغويين في ذلك الحين وهو عملية الجمع، ونلاحظ على آثارهم التي خلفوها عنايتها بجمع الألفاظ التي تدور حول موضوع معين دون أن يكون هناك اهتمام كبير بدراسة الفلسفة اللغوية لهذه الألفاظ، أو تعمق في دراسة الخصائص اللغوية المتنوعة المتصلة بها.وأقدم المؤلفات في اللغة هي ما خلفه هؤلاء، فقد ترك الأصمعي (215 هـ) عددا كبيرا من الكتب ضاع عدد منها ووصل إلينا عدد لا بأس به، والنظرة في كتب الأصمعي تؤيد الملاحظة السابقة عن اتجاه المؤلفين إلى جمع الألفاظ التي تتصل بموضوع ما بعضها إلى جانب بعض، فله من الكتب خلق الانسان، والأنواء، المقصور والممدود، الصفات، الميسر والقداح، خلق الفرس، الابل، الشاء، الأخبية والبيوت، الأمثال، الأضداد، الألفاظ، اللغات، الاشتقاق … إلى آخره5ويتضح من ذكر بعض مؤلفاته دراساته لبعض الظواهر العامة في اللغة كالاشتقاق والأضداد، وأن معظم كتبه معاجم متنوعة ترمي إلى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني.

وكان معاصرا للأصمعي اللغوي الكبير أبو زيد الأنصاري (214 هـ) وكان من رواة اللغة الموثوق بهم، وقد ترك من الكتب: الإبل والشاء، المطر، خلق الانسان النبات والشجر واللغات والنوادر والجمع والتثنية، وتحقيق الهمزة والوحوش … إلى آخر ما صنف من كتب6 ، وقد بقي من كتبه عدد لا بأس به، ونفس ما قلناه عن الأصمعي وآثاره يمكن أن نحكم به على أبي زيد من ناحية توزع مباحثه اللغوية بين الاهتمام بالمعاجم المتنوعة للمعاني المختلفة وبين بعض الظواهر اللغوية، وقد قيل عنه إنه كان شديد العناية بجمع اللغات أي اللهجات، وقد ترك أبو عبيدة معمر بن المثنى (210 أو 211 هـ) عددا كبيرا من الكتب منها غريب القرآن ومعاني القرآن وكتاب الموالي وكتاب الضيفان والمنافرات والقبائل والعقارب والحيات والنوائح والخيل والابل والأضداد7.وكذلك كان النضر بن شميل (204 هـ) وهو ممن أخذ عن الخليل وكان معاصرا لهذه الطبقة، يهتم بنفس ما اهتمت به طبقته من جمع الألفاظ، ويتناول بعض الظواهر اللغوية، وقد ذكر له من الكتب كتاب الصفات8.

 والناظر في كتاب الفهرست لابن النديم، يقف على نشاط كبير من التأليف اللغوي الذي كان في هذه المرحلة، وهو يعكس مقدار وعيهم بضبط هذه اللغة، وحفظ ألفاظها ودلالاتها. وهذه المسائل والموضوعات التي ألف فيها، نجدها في مصدرين مهمين:  الأول: في مؤلفات النحو والصرف والمعجم والأدب، التي تطرقت أثناء معالجتها للمادة المعرفية إلى أبواب من البحث اللغوي، وأشاروا إلى مهمات من المباحث، كمسألة الوضع وأولية اللغة، وخصائص العربية، وسنن أهلها في الكلام، ومسألة الترادف والاشتراك ومسألة اللهجات العربية والقول في أصل اللغة والاشتقاق والفروق بين المعاني وضروب الاختلاف الكامنة بين الأساليب، إلى غير ذلك.  الثاني: مؤلفات في المسائل المفردة لا يجمعها نسق تأليفي محدد، كالتأليف في الاشتقاق والأضداد والوضع اللغوي، والمولد والمعرب والألغاز اللغوية والإتباع والفروق اللغوية ونحو ذلك.   وهذه المباحث لم يكن ينتظمها باب جامع، ولا فن مفرد، وإنما هي مسائل متفرقة، ونبذ مختلفة، اشتملت عليها الكتب المصنفة، وتفرقت في التآليف. فلما نجم القرن الرابع، كانت هذه المباحث قد كثرت وتشعبت، وتهذبت مناحيها وكثرت مسائلها، بيد أنها لا ينتظمها علم ولا يجمعها كتاب مفرد. 

الثانية: مرحلة التصنيف والتبويب.

 هذه المرحلة اتسمت بجمع المباحث المنتشرة، وضم المسائل المختلفة، وترتيبها ضمن كتاب جامع، ووضعها تحت عنوان يشملها هو فقه اللغة. وقد شارك علماء اللغة في هذه المرحلة، في إغناء الدرس اللغوي بمجموعة من المؤلفات، التي بقيت محافظة على طريقة التأليف الجزئي، لكن ظهر في هذا العصر مشروعان كبيران، حاولا أن يجمعا هذه المباحث، في نسق علمي منظم. الأول: مشروع ابن جني: ألف أبو الفتح عثمان بن جني (392 هـ) كتابه الخصائص واهتم فيه بأبحاث عديدة تتصل بالقضايا اللغوية العامة والخاصة فتناول أصل اللغة ونشأتها، وبحث ظواهر الاشتقاق والقياس، وتناول اختلاف اللهجات، وضمّن كتابه عديدا من البحوث القيمة بالإضافة إلى الدراسة الصوتية المتميزة التي وضعها في كتابه «سر صناعة الإعراب» وفي غيره.وكان المشروع الذي قصده، ابن جني هو وضع أصول للنحو على غرار أصول الدين وأصول الفقه. فقال: وذلك أنا لم نر أحدا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه9.  وإذا كانت أصول الفقه والدين، يراد بها الأدلة الكلية والقضايا الجامعة، التي تنبني عليها الأدلة التفصيلية، فإن أصول النحو عند ابن جني ناظرة إلى هذا المعنى، ويعني بها الأصول الكلية، والقضايا العامة، التي تنبني عليها جزئيات النحو وتفاصيله. 

الثاني: مشروع ابن فارس:

أما ابن فارس، (395 هـ) فقد ألف كتابه «الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها» وتناول فيه أيضا مباحث أصل اللغة ونشأتها كما تناول نظم العرب في مخاطباتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا، وقد ذكر أن مثل هذه الأبحاث من الأبحاث التي تهتم بالأصول، وهو يقصد ما كان يعنيه ونعنيه بفلسفة اللغة أو فقهها، وقد تضمن كتابه بعض المباحث الهامة في خصائص العربية، كالاشتقاق والقياس والترادف والمجاز والمشترك والنحت، واختلاف اللغات واللهجات.ثم تلاه أبو منصور الثعالبي (439 هـ) فألف كتابا بعنوان «فقه اللغة وسر العربية»، بيد أنه لم يضمنه إلا بعض المباحث القليلة التي تتصل بهذا العلم، حيث تحدث في آخره عن بعض الألفاظ العربية التي نسبت إلى الرومية، وبعض الأسماء المشتركة في الوضع بين العرب والفرس، وبعض ما تفرد به الفرس من الأسماء مما اضطر العرب إلى تعريبه أو تركه، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها ولا تزال عربيتها مستعملة.وكتاب الثعالبي يصب عنايته في الغالب على إصابة مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ العربية، والتفرقة بين ما وضع منها على العموم وما وضع على الخصوص، وذلك لتجنب اللحن اللغوي الذي ينشأ من تحريف استعمال الألفاظ عن مواضعها التي وضعتها العرب لها، فالعرب مثلا تضع الأبيض لكل ما فيه بياض، ثم تخص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الانسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح، فلا يجوز تحريف هذه الألفاظ باستعمال الأزهر للخيل مثلا، والتحريف في الاستعمال أشد من اللحن في الاعراب وأفحش.والكتاب في جملته معجم للمعاني، يراعي اختلاف الدلالات والفروق الدقيقة بينها وينبه على مواضع الاستعمال الصحيحة للألفاظ، ويبقى عمل الثعالبي مندرجا ضمن مشروع ابن فارس وآيلا إليه.ولم يستوعب كل من ابن ابن جني وابن فارس موضوعات فقه اللغة، وإنما جمعا من ذلك أصولا مهمة، وبقيت مسائل ونظرات، سيتم إدراجها في المراحل اللاحقة. ويمكن التفريق بين عمل ابن جني وابن فارس من خلال ما يلي: قصد ابن جني بكتابه ضبط أصول النحو، بينما قصد ابن فارس جمع أصول اللغة. 

عمل ابن جني ألصق بالصناعة النحوية، وهو بذلك أخص من عمل ابن فارس. يشترك كل من الكتابين في معالجة الظاوهر اللغوية، وينفرد كل واحد بمسائل تخصه. تحليل ابن جني للظواهر اللغوية أعمق وأدق من تحليل ابن فارس. 

الهوامش:  

 1- الأصول لتمام حسان 240. 

2 – المقدمة لابن خلدون ص 548.

3- مسائل نافع ابن الأزرق، يقصد بها أسئلة وجهها نافع إلى ابن عباس، حول مفردات قرآنية.

 4 – المزهر للسيوطي ج 2 ص 398، 399.5

5- الفهرست لابن النديم ص 82، وبروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 147 – 149.6

6- الفهرست ص 81، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 145، 146.7

7- الفهرست ص 79، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 2 ص 142 – 144.8 الفهرست لابن النديم ص 77.

9-الخصائص لابن جني 1/2.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نشكرك أيها الأستاذ الفاضل على على هذا العلم الذي حاضرتنا به في أسابيع الدراسة القليلة والتي كنا نود أن تكون أكثر من ذالك فلك من الله خير الجزاء ومزيدا من العطاء

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق