ثمرات التربية الصوفية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع.. ثمرة الصبر (8)

تعتبر منزلة الصبر من أشرف المقامات، وأزكى الثمرات التي تنتجها التربية الصوفية في قلب السالك لطريق أهل التصوف، وهي منزلة لا تدرك إلاّ بالذكر الكثير والمجاهدة الباطنية، وصحبة الصالحين، وتعد من أهم النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده الصالحين الذين استجابوا لقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة، 155-157].
ولما تحلو بالصبر الذي اكتسبوه بالتربية الباطنية، وبصحبتهم للصالحين حصلت لهم الطمأنينة القلبية، وتحلو بقيم وفضائل الرضا بقضاء الله وقدره، ولم يقنطوا من رحمة الله، وسلموا أمرهم إلى الله جلت قدرته، رفع بذلك الله درجتهم ومنزلتهم، وقال في حقهم: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة، الآية: 153]، وقال جلت قدرته: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل، الآية: 96]. قال الحافظ ابن حجر: (الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم ، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليه)[1]. وقال علي الدقاق، (فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛ لأنهم نالوا من الله تعالى معيته) [2].
وإدراك مقام الصبر هو بحد ذاته تقرب إلى الله تعالى، وزيادة للوعي الروحي والمدد الرباني، وهو من أبرز الأخلاق الوارد ذكرها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وهو صفة من صفات الأنبياء والرسل والنبي صلّى الله عليه وسلم هو النموذج الأمثل في التطبيق العملي لقيم وفضائل مقام الصبر، الذي صبر على أدى الكفار والمنافقين، وقال في حقه الله عز وجل (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) [سورة طه، الآية: 103]. وكل هذا الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وهداية الناس إلى الطريق المستقيم بسلوك منهج الرحمة والتسامح والعفو، مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء، الآية: 107].
وفي سياق آخر أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم بأن يصبر نفسه مع المؤمنين الذاكرين والمتوجهين لحضرة الله الممتلئة قلوبهم بذكر الله، قال جلت قدرته: )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَ قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [سورة الكهف، الآية: 28]. فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لخطاب الحق سبحانه وتعالى بعد أن أدرك أنّ الصبر سبيل للفلاح والحصول والظفر بمحبة الله وثوابه والفوز بجنته مصداقاً لقوله تعالى: (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [سورة الانسان، الآية: 12]، وقال جلت قدرته: (أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [سورة الفرقان، الآية: 175]، وقال عز من قال: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [سورة الرعد، الآية: 24].
ونستحضر في هذا المقام كذلك صبر سيدنا يونس عليه السلام الذي خرج من بطن الحوت، بحيث استجاب الله دعائه بعد صبره وعنائه ورغم ذلك ضل من المسبحين والمستغفرين، وقال في حقه جلت قدرته: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [سورة الصافات، الآية: 139-148]. وصبر سيدنا أيوب عليه السلام الشديد على المرض والبلاء وقال في حقه الله عز وجل: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [سورة ص، الآية: 44].
ماهية الصبر في اللغة والاصطلاح
قال الجوهري: (الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عندَ الجَزَعِ، وَقد صَبَرَ فلانٌ عِنْد المُصِيبَةِ يَصْبِرُ صَبْراً، وصَبَرْتُه أَنا: حَبَسْتُه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم) [سورة الكهف، الآية: 28]، أَي احْبِسْ نفْسَكَ مَعَهم) [3].
ومعنى الصبر اصطلاحاً: عرفه ابن القيم بقوله: (هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها) [4].
أدلة أهمية التحلي بالصبر في القرآن
يزخر القرآن الكريم بآيات بينات من الذكر الحكيم التي تحت على أهمية الصبر في سياقات متعددة، وذلك لعظم موقعه في الدين، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر نذكر ما يلي:
فضل الصبر على أدى الناس وأهمية العفو والتسامح، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [سورة فصلت، الآيتان 34 - 35]، وقال جلت قدرته: (إِنَّما يُوفَّى الصَّابِرون أجْرَهُمّ بِغيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر، الآية: 10].
فضل الصبر في حالة نقص الأموال والأنفس والتمرات، ومن ذلك ورد قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة، الآية: 155–157].
وقوله تعالى: (وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ) [سورة الحج، الآية: 35]. ومنه أيضاً قوله جلت قدرته: (قَالُوا۟ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَیۡنَـٰكُمۡۖ سَوَاۤءٌ عَلَیۡنَاۤ أَجَزِعۡنَاۤ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِیصࣲ) [سورة إبراهيم، الآية:21].
وفي سياق آخر أستحضر وصية لقمان لابنه بالصبر، فقال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأمور) [سورة لقمان، الآية: 17].
أهمية التواصي بالصبر بين الناس والحث على فضيلته وتنويهاً بعظيم قدره، وبياناً لجزيل ثوابه ومن ذلك قوله تعالى: (الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر، الآية: 1 – 3].
فضل الصبر والرضا بقضاء الله والاستسلام لإرادته ومن ذلك قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [سورة الطور، الآية: 48].
أهمية التعاون والترابط والتضامن بين أفراد المجتمع وأهمية التماسك في ما بينهم ونبد الخلافات، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة آل عمران، الآية: 200].
الاستعانة بالله ودعوته من أجل طلب رضاه وعفوه: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [سورة الأعراف، الآية: 126].
أهمية الاستعانة بالصلاة في حالة الشدة، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [سورة البقرة، الآية: 45]، وكذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة، الآية: 153].
فضل الصبر على أداء الصلاة وعلى القيام بها، وأدائها بحدودها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [سورة طه، الآية: 132].
أدلة أهمية التحلي بالصبر في السنة
يستمد مقام الصبر أدلته التفصيلية باعتباره عملا من أعمال القلوب، وشرطاً من شروط السير إلى حضرة، إلى شواهد عدة من السنة النبوية، ومن ذلك ما أخرجه أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن أبى مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضى الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) [5].
وعن هشامٍ عن الحسن، (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ) [6].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْراً لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) [7].
وعن أبي سعيد: أَنَّ نَاساً مِنَ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ شَيْئًا هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) [8].
مفهوم الصبر في الاصطلاح الصوفي
عرف علماء التربية الصوفية مصطلح الصبر بتعريفات ومفاهيم ذات أبعاد ودلالات معرفية وأخلاقية ناتجة من تجارب صوفية مليئة بمعاني روحية طاهرة ومن جملة هذه التعاريف نذكر ما يلي:
عرَّف ابن القيّم الصبر في كتابه مدارج السالكين بأنّه: حَبس النفسِ عن الجزعِ والتسخّط، وحَبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش) [9].
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: (الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة) [10].
وقال أبو العباس المرسي: (الصبر مشتق من الأصبار، وهو الغرض الذي يُرمى عليه بالسهام، فالصابر من نصب نفسه غرضا لسهام القضاء) [11].
وقال رُوَيم: (الصّبر: ترك الشكوى)، وقال غيره: (الصّبر: هو الاستعانة باللَّه) [12].
وقال الخواص رضى الله تعالى عنه: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسُّنَّة) [13].
وقال أبا محمد الجريري يقول: الصبر: (أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبر: هو السكون، مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة) [14].
أنواع الصبر وأقسامه
قسم ابن القيم: الصبر إلى ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأول: صبر الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبرّ، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) [سورة النحل، الآية: 127]. يعني: إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها) [15].
أما الإمام الغزالي رضى الله تعالى عنه، قسم الصبر باعتبار حكمه إلى: فرض ونفل، ومكروه ومحرم، فالصبر عن المحظورات فرض، وعلى المكاره نفل، والصبر على الأذى المحظور محظور ؛ كمن تقطع يده، أو يد ولده، وهو يصبر عليه ساكناً، والصبر المكروه، هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع) [16].
منزلة الصابرين عند الحق سبحانه وتعالى
ذكر الله سبحانه وتعالى ما أعده للصابرين من جزيل التواب والنعم ومن ذلك:
محبة الله للصابرين، ومن ذلك قوله تعالى: (واللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [سورة اَل عمران، الآية: 146].
الحصول على المعية الإلهية، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة، الآية: 152].
الفوز بالجنة، قال تعالى: (أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) [سورة الفرقان، الآية: 75].
الحصول على الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى بغير حساب، قال تعالى: (اِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة الزمر، الآية: 11].
الفوز بمرضات الله وثوابه ومن دلك قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة، الآية: 154-156].
مقامات الصبر عند الصوفية
قال بعض العارفين: أهل الصبر على ثلاثة مقامات:
أولها: ترك الشهوة: هذه درجة التائبين؛
وثانيها: الرضا بالمقدور: وهذه درجة الزاهدين؛
وثالثها: المحبة لما يصنع به مولاه: وهذه درجة الصديقين) [17].
نخلص في هذا المضمار بأنّ التربية الصوفية تثمر كذلك مقام الصبر في القلوب فلولا المجاهدة الباطنية وصحبة الصالحين لما تطهر القلب من العلل القلبية، ولما تحقق بمقام الصبر الذي يعد من أشرف المقامات وأجلها على الإطلاق، وهو من مرتكزات مواجهة الحياة المادية والروحية وخاصة الصبر على مواجهة هوى النفس والصمود من أجل كبح جماح النفس وميلها نحو ملذات الدنيا، أي أن تصبر على فراق المعاصي، وملذات الدنيا من أجل نيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
كما أن منزلة الصبر تعد من الخصال الفريدة التي تساهم في تقدم المجتمعات وسيرها نحو الأفضل، لأن بالصبر يشجع الانسان على تنمية قدراته والتحلي بالقوة والتحمل وتحمل صعاب الحياة في وقت الشدة، ومعرفة كيفية تسير متطلبات الحياة وإكراهات المجتمع ومحاولة إيجاد طرق تجاوزها.
------------------------
- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة- مصر (ط/ت). مغازيه وسراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم غزوة حمراء الأسد، ج: 1، ص: 157.
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: إسماعيل بن غازي مرحبا، راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي - علي بن محمد العمران، الناشر: دار عطاءات العلم الرياض، الطبعة: الرابعة، 1440 هـ - 2019م، الباب الخامس عشر: في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز، ص: 72.
- تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمّد مرتضى الحسيني الزَّبيدي، تحقيق: جماعة من المختصين، الناشر وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، (1385هـ -2001م). مادة صبر، ج: 12، ص: 272.
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم، الباب الثاني: في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه، ص: 16.
- صحيح مسلم، تحقيق: أحمد بن رفعت بن عثمان حلمي القره حصاري - محمد عزت بن عثمان الزعفران بوليوي - أبو نعمة الله محمد شكري بن حسن الأنقروي، الناشر: دار الطباعة العامرة – تركيا، عام النشر: 1334هـ. كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ج: 1، ص: 140. رقم الحديث: 223.
- شعب الإيمان، للبيهقي، المحقق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2000م. الجود والسخاء، ج: 7، ص: 426. رقم الحديث: 10838.
- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مع تضمينات: الذهبي في التلخيص والميزان والعراقي في أماليه والمناوي في فيض القدير وغيرهم، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1411– 1990، كتاب التفسير، وذكر الصحابة الذين جمعوا القرآن وحفظوه، ج: 2، ص: 449 رقم الحديث: 3552.
- الجامع الكبير، (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م. أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في الصبر، ج: 3، ص: 549. رقم الحديث: 2024.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996م، لابن القيم، ج: 2، ص: 155.
- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، لعبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي، تحقيق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1998م. باب المجاهدة والتوكل وحسن الخلق والشكر والصبر والرضا والصدق (فصل) وأما الصبر، ج: 2، ص: 328.
- لطائف المنن، للعارف بالله ابن عطاء الله السكندري، تحقيق: عبد الحليم محمود، الناشر: دار المعارف، سنة النشر: 2006، ص: 45.
- 12. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه، ص: 21.
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه، ص: 21.
- الرسالة القشيرية، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف ج: الناشر: دار المعارف، القاهرة، باب الشكر، ج: 1، ص: 324.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، فصل منزلة الصبر، فصل أنواع الصبر، ج: 2، ص: 156.
- إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الناشر: دار المعرفة – بيروت (ط/ت). الشطر الأول في الصبر، بيان مظان الحاجة إلى الصبر، وأن العبد لا يستغني عنه في حال من الأحوال: 4، ص: 69.
17. فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي القاهري، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة: الأولى، 1456هـ. حرف الصاد، فصل في المحلى بأل من هذا الحرف أي حرف الصاد، ج: 4، ص: 233.