مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أَسْرارُ البَيانِ في القُرْآن(14) البيَانُ في مَعنَى (الجَمَل) في قولهِ تعَالى ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاطِ﴾

         و ذلكَ قولهُ تعالى في سُورةِ الأعْرافِ :﴿إنَّ الّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُم أَبْوابُ السَّماءِ  وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾. حَيثُ تَستَوقفُكَ  هَذهِ الحُجَّةُ البَالغَة الْـمُـفْحِمَةُ، المُغْرقَةُ في تَشدِيد الانْتِفَاءِ، وقَطعِ الأَمَل في دُخُول الجَنَّة على الكَافرينَ.

         هَذا الأُسلوبُ الَّذي تَجدُ له وجهاً في البَلاغَةِ فِيمَا سَمَّوْهُ بِـــــ(المَذْهَبِ الكَلامِيّ)، وهُو أُسْلُوبٌ بَلاغيٌّ من أَنواعِ البَديعِ المعنَويّ ، كالتَّوْرِيَةِ والطِّبَاق.وقدْ أُخِذ مُصطلحُهُ من عِلمِ الكَلام. وَيَكُونُ بِبِناءِ المَعْنى بنَاءً مَنطقيّاً للْإِفْحَامِ بِحُجَّةٍ دامِغَةٍ دَاحِضَةٍ،يَسْتَحِيلُ دَفْعُها. قالَ عَنْهُ (ضِياءُ الدّين بْنُ الأَثِير -تــ:637ه)،في (كِفَايَة الطّالبِ في نَقدِ كَلام الشَّاعِر والكاتِبِ): «هُوَ اشْتَمَالُ المَعْنَى عَلَى حُجَّةٍ بَالغَةٍ ، يَتَجنَّبُ العُقَلاءُ رَدَّهَا لِشدَّةِ تَمَكُّنها في الأنْفُس». ومنْ بَعدهِ، و بِبَـيانٍ أكثَر تَفصيلاً،قالَ(ابنُ حِجَّةَ الحَمَويّ-تـــ:837ه)،في(خِزانَة الأدَب): «الْـمَذهبُ الكَلامِيّ، نوعٌ كَبيرٌ نُسبَتْ تَسمِيَتهُ إلَى (الجَاحِظ). وهوَ في الاصْطِلاحِ، أنْ يَأتيَ البَليغُ علَى صحَّةِ دَعوَاهُ، وإبْطالِ دَعوَى خَصمِهِ بحُجَّةٍ قَاطعَةٍ عَقليّةٍ، تَصحُّ نِسبَتُها إلى عِلمِ الكَلَام، إذْ علمُ الكَلامِ عِبارَةٌ عنْ إثْبَات أُصُول الدِّينِ بالبَـرَاهينِ العَقْليّةِ القَاطعَةِ».

          وسَاقُوا لَهُ مِنَ الأمثِلةِ قولَهُ تعَالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾.وتمامُ بناءِ الحُجّة فيهِ أنْ يُقالَ: لَكنَّـهُما لَمْ تَفسُدَا،إذَنْ فَليْسَ فيهمَا آلِهَةٌ غَيرُ اللهِ .

         وَقدْ أُخْرِجَ المعنَى في آيَة (الأعْرافِ)، مَخرَجاً بَيَانِياً يَستلفِتُ النَّظَر. ذلكَ أنَّ المعنَى بُنِيَ علَى الشَّرْط؛ ممَّا يَخْلُقُ فِي الوَهْم فُسْحَةً لِلأَمَلِ، يَفْتَحُها ارْتباطُ المَشْرُوط بالشَّرْط ، فَتَتَعَلَّقُ النَّفْسُ بِهِ لبُرهَةٍ ،ويَتعلَّلُها شَيءٌ منْ رَجاءٍ، لكنْ بعْدَ التَّفكُّر يَفْجَأُهُم الحَقُّ، فَيَنقَطِعُ الأَمَلُ انْقِطاعاً شديداً ، ويَنْكَسِرُ انكساراً بليغاً .

           وذلكَ لأنَّ نفْيَ دُخُول الجَنَّة بهذَا الأسلُوب، أَقْسَى عَلَيْهِمْ وَأَشَدُّ وَطْأَةً مِنْ نَفْيهِ بَدَاءَةً بأَنْ يُقالَ : (لا تَدْخُلُونَ الجَنّة أبَداً). لأَنَّكَ بَعْدَ اسْتكمَال الآيةِ، تُدركُ أنّهُ يَستحيلُ دُخُولُ الجَمَل عَلى ضَخَامَتِهِ، في ثُقْب الإِبْرَةِ ، عَلَى شِدَّةِ ضَيْقِهِ. وَهَذَا كَأَنْ تَقُولُ لِمَنْ خَبَرْت كَذبهُ: (لا أُصَدِّقُكَ حَتَّى يَشيبَ الغُرَابُ).ومنهُ قوْلُ الشَّاعر:

   إذا شَابَ الغُرابُ أَتَيْتُ أهْلي*** وصارَ القارُ كاللَّبنِ الحليبِ

        وهكذا تَكْتَشفُ في الآية بِناءً مَنطقيّاً، مُحْكَمَ الحُجَّة مُرَتَّب الأدلّة: لا يَدْخُلُون الجنّة حَتّى يَلجَ الجَمَل في ثُقْب الإِبْرَة، والأَمْرُ البَارِزُ عَقْلاً وتَجْربَةً ، أَنَّ الجَمَلَ يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ في خُرْمِ الإِبْرَة ، إِذَنْ ، فَهَؤُلاءِ كَذَلكَ أَمْرُهُم في اسْتِحالَة دُخُولِ الجَنَّةِ؛ إِذِ اسْتِحَالَةُ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، يَلْزَمُ عَنْهُ اسْتِحَالَةُ حُدُوثِ المَشْرُوطِ. وهذَا ما قَرَّرهُ(الخَازنُ) في تَفسيرهِ(لُبَابُ التَّأوِيل) حيثُ قالَ: «فَجسمُ الجَمَل منْ أَعظَم الأجْسَام، وثُقبُ الإبْرَة منْ أَضْيقِ المنَافذِ، فكانَ وُلوجُ الجَمَل، معَ عِظَم جِسمهِ، في ثُقبِ الإبْرَة الضّيِّقِ،مُحالاً. فكذَلكَ دُخولُ الكُفّار الجَنّةَ، مُحالٌ. ولَـمّا وقَفَ اللهُ دُخُولهُم الجَنّة عَلى حُصُول هذَا الشَّرطِ، وكانَ وُقُوع الشَّرطِ مُحالاً ،ثبتَ أنّ الْـمَوقُوفَ علَى الْـمُحالِ مُحالٌ، فَوجبَ بهَذا الاعْتبَار، أنّ دُخُول الكفَّار الجَنّةَ مَأْيُوسٌ منهُ قَطعاً».

            فإذَا أردْتَ إظهَارَ هذَا المعْنَى في إيغَالهِ في الاسْتِحالَة، حيثُ اسْتَحالَ تحَقُّقُ الشّرطِ،فانْظُرْ إلَى قولهِ تعَالى علَى نَفسِ التَّركيبِ الشَّرطيّ، لكِنْ بِفُسحةِ أمَلٍ ناهضةٍ، لِجَوازِ تَحقُّق الشَّرطِ. وذلكَ قولهُ تعالَى ﴿لَنْ تَنَالُوا البِـرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. فالْـمَفهومُ منهُ، أَنَّ إدرَاكَ مَنزلةِ(البِرّ)،أمْرٌ مُمْكِنٌ تَحقُّقُه، لأنَّ الشَّرطَ، وهُوَ الإنْفَاقُ منَ المحْبُوبِ،غَيرُ مُمْتَنِعٍ،عَلَى صُعُوبَتِه.

           وكذلكَ انْظُرْ إلَى حديثِ النّبيّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، الّذي رواهُ(أبُو هُرَيرَة): « والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمنُوا ولا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَ لَا أدُلُّكُم عَلَى شَيْءٍ إذَا فعَلتُمُوهُ تَحَابَبْتُم، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكم».حيثُ تجدُ نَفسَ التَّركيب الشّرطيّ باسْتِعمَال(حَتّى).لكنَّهُ أفْسَحَ الأَمَل في دُخُول الجَنّة،لأنَّ شَرطَ الإيمَان يَتحقَّقُ بالتَّحَابُب، وهَذا يَتحقّقُ بإفْشَاء السَّلَام.ولكَ أنْ تَبني هذَا المعنَى بنَظمٍ مَعكوسٍ، فتقُول: (إذَا أفْشَيتُم السَّلامَ تَحابَبْتُم، وإذَا تَحابَبْتُم آمَنْتُم، وإذَا آمَنْتُم دَخَلتُم الجَنَّة).ففيهِ هذَا الشَّرطُ الْـمُؤَمِّلُ الْـمُحفِّزُ عَلى الظَّفَر والفَوْز.بَينَما آيَةُ (الأَعرافِ)،تَقومُ علَى ذلكَ الشَّرطِ الْـمُستحِيل الْـمُيْــــــئِـسِ، القَاطعِ لأيِّ رَجاءٍ وأمَلٍ. وإنَّمَا أَخرجَ الكَلامَ علَى ذلكَ النَّظمِ، إمْعاناً في النِّكَايَةِ، و إيغَالاً بهمْ في  الحَسْرَة والمسْكنَة.

            فإذَا أنْتَ اسْتقْصَيتَ النَّظَر ،وبَادَرتَ الأَمْر  بمَزيدِ تَدبُّرٍ،  وفَضلِ تَفكُّر،أَدركتَ  أَنَّ فِي الْآيَةِ الكريمةِ مَزِيدَ بَيَانٍ  ولَطيفَ مَعنىً، يَكْشفُ عَنْ جَلالِ  إِعْجَاز  كَلامِ اللهِ ، وعَن انْفساحِ المعَاني في كلمَاتِ هذهِ اللّغَة الشَّريفةِ اللّطيفَة. ذلكَ أنَّ كلمَةَ (الجَمَل) لهَا مَعَانٍ مُتَعَددَةٌ ذَكَرهَا اللُّغويّونَ في كُتُبهم .

           فهي النَّخْلُ ، وهيَ سَمَكَةٌ كَبيرةٌ عَظيمةٌ،قالَ عنهَا(المرتَضَى الزَّبِيديّ) في (تاج العَرُوس): «سَمَكةٌ بَحْرِيَّةٌ تُدْعَى الــجَمَلَ. وَقَالَ غيرُهجَمَلُ البَحْرِ: سَمَكَةٌ يُقال لَهَا: البالُ، عَظِيمةٌ جِدّاً». وهيَ أيضاً الحَبْلُ الغَليظُ السَّميكُ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْ حِبَالٍ تُجمَعُ وتُفْتَلُ، فتَصيرُ حبْلاً ضَخماً يُسْتَعْمَل في السُّفُن.

       وقدْ وردَتْ هذهِ الكَلِمَةُ بحَرَكاتٍ مُختَلفةٍ. قَالَ (ابْنُ مَنْظُور) في (لسان العرَب): «وحُكي عن (ابْن عَبّاس): (الجُمَّلُ) بالتَّثْقِيل والتَّخفِيف أيضاً . فأما (الجُمَل) بالتَّخفيفِ فهُوَ الحَبْلُ الغَليظُ ، وكذلك (الجُمَّل) مُشَدَّداً . قَالَ (ابْنُ جِنِّي) : وَهُوَ (الجُمَلُ) عَلى مِثال (نُغَر) ، و(الجُمْل) على مثال (قُفْل) ، و(الجُمُل) عَلى مِثال (طُنُب)  و(الجَمَل) عَلى مِثال (مَثَل). قال (ابْنُ بَرِّي) : وعَلَيْهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ : ﴿حَتَّى يَلجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاط﴾» .

          وعَلى هَذا يَكُونُ المعْنَى في الآيَة : (لا يَدْخُلُون الجنَّة حَتّى يَلجَ الحَبْلُ الغَليظُ السَّميكُ في ثُقْب الإبْرَة الضَّيّقِ). ويَبدُو أنَّ هذَا المعنَى أقْربُ إلى التَّصَوُّر منْ سَابِقِهِ ، بِقَرِينَةِ شَبَهٍ بَيْنَ الحَبْلِ والخَيْطِ الذي يَكُون في الإِبْرَة. وقَدْ ذَكَر (الزَّمَخْشَريّ) عندَ هذَا المعْنَى قولَ (ابْن عَبّاسٍ) رضي الله عَنهُ : «إِنَّ اللهَ أَحْسَنُ تَشْبيـهاً مِنْ أَنْ يُشَبّههُ بالجَمَل».ثمّ قال: « يعني: الحَبْلُ مُناسب للخيْطِ الَّذِي يُسْلَكُ في سَمِّ الإِبْرَة ، والبَعيرُ لا يُنَاسِبُه» .

         لَكنَّ الملاحَظَ أنّ تَوجيهَ مَعنى (الجَمَل ) إلى البَعِيرِ، يَكُونُ أَوْغَل في التَّعبِير عنِ الاسْتِحالَة ، وأبْعَدَ أثراً في تَصَوُّر المُحَال الْـمُعبَّـر بهِ عنْ نَفي دُخُول الجَنَّة عَلى هَؤُلاءِ . لذَلكَ ذَهَبَ أغْلَبُ المفسّرِينَ إلى هَذَا المعْنَى . قالَ الزَّمخشَريّ : «لأَنَّ سَمَّ الإِبْرَةِ مَثَلٌ فِي ضَيْقِ الْـمَـسْلَكِ ، يُقَالُ : أَضْيَقُ مِنْ خَرْتِ الإِبْرَةِ... والجَمَلُ مَثَلٌ في عِظَمِ الجِرْم».

        ومنَ المعلُومِ أنَّ العَرَب لمْ تَعرفْ، فيمَا هوَ أقْربُ لهَا منَ الحَيوَان، أَعظمَ خِلقَةً منَ الجمَل. قال (أبُو الحُسُن الوَاحديّ)  في تَفسيرهِ (التَّفسيرُ البَسِيط): «قالَ (ابنُ الأَنبَاريّ): وإنَّما خصَّ الجَملَ منْ بَينِ الحَيَوانِ بالذِّكْر، إذْ كانَ أكثَرَ شأنًا عندَ العَرَب منْ سائِرِ الدّوابّ، والعَربُ تُقدِّمهُ في القُوَّة علَى سَائرِهَا، منْ أجْلِ أنَّهُ يُوقَرُ بِحِمْلِهِ وهُو بَاركٌ فيَنْـهَضُ بهِ. ولمْ تَرَ العَربُ أَعظَمَ منْـهُ جِسْماً فيمَا رأتْ منَ الحَيَوَان».وقالَ(السَّمينُ الحَلَبيّ) في(الدُّرّ المصُون): «وهوَ تَشبيهٌ في غَايَة الحُسْنِ، وذلكَ أنَّ الجَمَلَ أعْظَمُ حَيَوَانٍ عندَ العَربِ وأكْبَرُهُ جُثّةً».

            وهذَا العِظَمُ في الجسْمِ ، وهذَا الخَلقُ العَجيبُ ،جعلَهُ منْ آيَات اللهِ الّتي تَستَثيرُ  الفِكْرَ  وَتَستَجْلبُ النَّظَر، مثْل الأرْضِ والسَّمَاء والجبَالِ. ألا تَرى إلى قَولهِ تعَالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ وإلَى السَّمَاء كَيفَ رُفعَتْ وإلَى الجِبَال كيفَ نُصِبَتْ وإلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾.

          وقدْ أَبدعَ الشَّاعِر في وَصفِ نُحُولهِ، في بَيتٍ أَلْـمَحَ فيهِ في خفَاءٍ لَطيفٍ إلى هَذهِ الآيَة، فَقالَ:

      وَلَوْ أَنَّ مَا بِـي مِنْ جَوىً وصَبَابَةٍ ** عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ كَافِرُ

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. والله لي الشرف اني قريت عند هذا الاستاذ في مرحلة الاعدادي
    بارك الله فيك استاذي ودمت متألقاً لك كل التقدير والاحترام

اترك رداً على محمد الخاضر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق