مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة ” إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّ”

بسم الله  الرحمن الرحيم   كثيرا ما نأسى على عدم استجابة من نحب إلى ما نحب، يفطر قلوبنا إعراضه، ويمزق أوصالنا استهتاره، وتتملك نفوسنا الحسرات، وتسمع لها أنين الزفرات؛ بخعا على رؤية من نهوى يتخبط في ظلمات التيه، موغلا في غياهب الشرود، ومترديا في متاهات الانتكاس، ، متمردا على ما ينادى به عليه، غير حافل بتوالي النداءات المحذرة، في غفلة وصمم لا ينقضي عجبك منهما، وأنت الشفيق الرحيم به وبحاله، لو أمكنك أن تسقيه الهداية في شربة ماء أو جرعة دواء لفعلت، لكن ليس في الإمكان لأبدع مما كان، فلو كان أمر الهداية موكولا للبشر لحبا سيد الخلق بها أحب الناس إليه؛ عمه أبو طالب؛ أقربهم إلى قلبه، فمعلوم من كتب السير والتراجم مدى مناصرته له ولدعوته، يذوذ عنه أذى قريش، ويصرف عنه كيدها، وما تجرأ عليه سفهاء قومه إلا بعد أن ووري الثرى، لكن لم يشرح الله صدره للإسلام، مع شدة حرص النبي صلى الله عليه على إسلامه، عساه أن يكافئه على بعض صنائعه، ولكن مشيئة الله غالبة، وفي مقابل ذلك آمن وحشي؛ قاتل حمزة رضي الله عنه،  وكان النبي صلى الله عليه وسلم يود لو يمكن منه فيقتص لقاتل أخيه من الرضاعة، لكنه أسلم، في خبر طويل يحكي حاله بعد قتله حمزة ولجوئه إلى الطائف، ثم ما كان من مقدمه إلى المدينة متخفيا لإعلان إسلامه بين يدي رسول الله، فقبل منه إسلامه لكن ساءه منه تصرفه، فلما أخبره خبره قال له: "غيِّب وجهك عني"، فكان صلى الله عليه وسلم ينقبض عند رؤيته، ولا يظهر له البشر، ويصرف بصره عنه كلما وقع عليه، وكان وحشي يجد لذلك أعظم موجدة، ويأرقه غاية الأرق، كيف يسعى لأذية النبي صلى الله عليه في أقرب الناس إليه؟ وما خفف عنه ما يجد إلا بعد إسهامه في قتل مسيلمة[1]، فأمر الهداية أو الخذلان قضية غيبية، لا يسع العبد إلا تفويض أمرهما لباري البرية، فلا الحرص بمجد، ولا الإهمال بمبعد ولذلك يقول ربنا: "إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّ" [النحل: 37] والحرص: "فرط الإرادة الملحة في تحصيل المراد؛ بالسعي في أسبابه"[2]. قال ابن عطية: "الحرص أبلغ الإرادة في الشيء، ... أي: إن حرصك لا ينفع، فإنها أمور محتومة"[3] وهي لعمري كذلك وإن المتأمل في الخلق وأعمالهم لا ينقضي عجبه من التدبير الإلهي لأمر خليقته، وليس هذا في شأن الهداية فحسب، بل في سائر ما يتقلب فيه العبد، كيف ينتشل هذا من الضيعة بعد اليأس من نجاته، وكيف يخذل هذا بعد توافر حظوظ فلاحه، وكيف أن تمالؤ الناس على إيصال  نفع للغير لم يقضه الله لا يكون، وأن سعيهم لإلحاق أذى بشخص أو منعه منه لا يتحقق إلا بتدبير العلي القدير. وإنما خصت الهداية بالذكر لأنها أعظم منحة ربانية، و أجل وأسمى أعطية  علوية. وقد اختلفت الرواية في قراءة "يهدي" في الآية، ، فمن قرأ يهدي بفتح الياء وكسر الدال بالبناء للمعلوم أوَّلها بفعل الاهتداء، أي: أنه لا يهتدي من أضله الله، ومن قرأها بضم الياء وفتح الدال على البناء للمجهول أوَّلها على أنه لا هادي لمن أضله الله، فالأولى قصرت أمر الهداية عليه سبحانه وحده، والثانية أشركت معه فيها غيره تنزلا، ثم نفت حصول ذلك، هذا جماع ما ذكره المفسرون في الآية، وقد واحتج بها وبما قبلها القائلون بالقدر، ومعلوم بطلان مذهبهم، وتهافت حججهم، أسوق هنا كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري لتقرير هذا المعنى؛ إذ كل من طالعت قوله فيها هو عالة عليه فيها، قال رحمه الله،  «يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن تحرصْ يا محمدُ على هُدَى هؤلاء المشركين إلى الإيمانِ باللهِ واتباعِ الحقِّ "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ". اخْتَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ الكوفيين: "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي" "مَنْ يُضِلُّ" بفتحِ الياءِ مِن "يَهْدِي"، وضمِّها من "يُضِلُّ". وقد اخْتَلَف في معنى ذلك قارِئوه كذلك؛ فكان بعضُ نَحْويى الكوفةِ يَزْعُمُ أن معناه: فإن الله مَن أَضَلَّه لا يَهْتَدِى. وقال: العربُ تقولُ: قد هَدَى الرجلُ. يريدون: قد اهْتَدَى. وهَدَى واهْتَدَى بمعنًى واحدٍ. وكان آخرون منهم يَزْعُمون أن معناه: فإن الله لا يهدِى مَن أَضلَّه. بمعنى أن مَن أَضلَّه اللهُ، فإن الله لا يَهْديه. وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والشامِ والبصرةِ: "فَإِنَّ الله لا يُهْدَى" بضمِّ الياءِ مِن "يُهْدَى" ومِن "يُضِلُّ" وفتحِ الدالِ مِن "يُهدَى". بمعنى: مَن أَضلَّه اللهُ فلا هاديَ له. وهذه القراءةُ أولى القراءتين عندى بالصوابِ؛ لأن يَهْدِى بمعنى يَهْتَدِى قليلٌ في كلامِ العربِ غيرُ مُسْتَفيضٍ، وأنه لا فائدةَ في قولِ قائلِ: مَن أَضلَّه اللهُ فلا يَهْدِيه. لأن ذلك مما لا يَجْهَلُه كثيرُ أَحَدٍ، وإذ كان ذلك كذلك، فالقراءةُ بما كان مستفيضًا في كلامِ العربِ من اللغةِ بما فيه الفائدةُ العظيمةُ، أَوْلَى وأحرَى"[4] و من الآيات الواردة على هذا النسق، المؤكدة لهذه الحقيقة قوله تعالى: "وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" [المائدة: 41] و منها قول نوح لقومه: "وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ" [هود: 34] وقال سبحانه وتعالى: "مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ"  [الأعراف:186] وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" [يونس: 96-97]. "وفي الآية لطيفتان: الأولى: التعريض بالثناء على النبيء صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم. مطهرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية. واللطيفة الثانية: الإيماء إلى أن غالب أمة الدعوة المحمدية سيكونون مهتدين وأن الضلال منهم فئة قليلة، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيأت لهم البقاء في الضلال. [1] " خبر وحشي أوردته المصادر مطولا؛ منها ما أخرجه البخاري في مواطن في كتابه أسوق منه طرفا للاستشهاد وذلك قوله: " ...فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ – يعني من أحد- رَجَعْتُ مَعَهُمْ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لاَ يَهِيجُ الرُّسُلَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:  آنْتَ وَحْشِيٌّ  قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:  أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ  قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، قَالَ:  فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟  قَالَ: فَخَرَجْتُ ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثلْمَةِ جِدَارٍ ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الفَضْلِ – أحد رواة الحديث-: فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: " فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ، قَتَلَهُ العَبْدُ الأَسْوَدُ ".كتاب المغازي، باب قتل حمزة بن عبد المطلب، 3844.     [2] التحرير والتنوير، 14/151. [3] المحرر الوجيز، 3/392 [4] جامع البيان، 14/ 217  وما بعدها.
Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق