مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

وضع المظهر موضع المضمر من خلال فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب للإمام العلامة شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبيّ (ت:743هـ) – الحلقة العاشرة –

كان الإمام الطيبي– رحمه الله تعالى – حريصا على تخليص عويص (الكشاف) وحل معضله، حفيا بفسر عويصه وتلخيص مبهمه، موفقا في حسر الخمار عما يستكنّ في كلام الله سبحانه وتعالى من معاقد لطيفة ومباحث شريفة، إلى دقائق مكنونة، ورقائق مخزونة، واتفق له ذلك بسبب ما أوتي من قوةٍ عارضة ودقة نظر وعمق فكر، ففهم عن الإمام الزمخشري – رحمهما الله تعالى – وفصّل ما كان من كلامه مجملا، وبين ما كان من تقريراته مشكلا.

ومن أنماط البلاغة التي تعرض لها الإمامان «وضع المظهر موضع المضمر»، أو (الإظهار في مقام الإضمار)، وعكسه، وهو «وضع المضمر موضع المظهر» أو (الإضمار في مقام الإظهار)، وهما من الفنون البلاغية الرفيعة، وأساليب الكلام البديعة، ومن أحوال المسند إليه، وإجراء الكلام على خلاف مقتضى الظاهر.

وأما الإظهار في مقام الإضمار فيُجرى الكلام على سمته لنكات ولطائف وأغراض بلاغية، ومنها (1) :

1- الغرض الأول: الإِشعار بكمال العناية بما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير، من أجل اختصاصه بحكم غريبٍ مثلاً.

2- الغرض الثاني: التهكّم باستخدام سم الإِشارة.

3- الغرض الثالث: إظهار بلاهة المقصود بالخطاب، وأنّه لا يفهم إلاَّ بالإِشارة الحسيّة، فلا يكفيه الضمير لمعرفة المراد.

4- الغرض الرابع: إظهار فطانة المتكلّم أو المخاطب، حتّى كأنّ الأمْرَ الفكريّ غير المحسوس هو بالنسبة إليه يشبه الأمور الحسيّة.

5- الغرض الخامس: زيادةُ تمكين ما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير.

6- الغرض السادس: الاستعطاف بإعلان الخضوع، بغية استدرار الرحمة والشفقة.

7-الغرض السابع: إدخال الروعة والمهابة في نفس المخاطب.

8-الغرض الثامن: التعجيب واستثارة الإِنكار.

ويرى الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى – أن وضع المظهر موضع المضمر قريب من الالتفات ويحوم حول حماه، وفي معرض تفسير قوله تعالى: «{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] يقول الزمخشري -– رحمه الله تعالى -: «ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيماً لشأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من اللَّه بمكان»، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -:« وفي قوله: ((إلى طريقة الالتفات)) إشعارٌ بأن هذا الأسلوب- وهو وضع المظهر موضع المضمر- من وادي الالتفات، وليس بالالتفات حقيقةً، كما دل وضع الرسول مكان ضميره على فخامة شفاعة الرسول؛ دل وضع اسم الله الجامع في قوله: (لَوَجَدُوا اللَّهَ) موضع ضميره، بحسب تجليه في هذا المقام على فخامة قبولها من جانب الله تعالى، قال في قوله تعالى: (ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان: 71] أي: ((فإنه تائبٌ إلى الله تعالى الذي يعرف حق التائبين، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين))»[]

وهذا الأسلوب – أي وضع الظاهر موضع المضمر – شائع في القرآن الكريم، مختلفةٌ أغراضه، متنوعة أساليبه وطرائقه؛ إذ يأتي بنفس اللفظ غالبا، ويأتي من غير لفظه السابق:

- كقوله تعالى: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة: 211]، فـ(نِعْمَةَ اللَّهِ): آياته وهي أجل نعمة من الله، كما قال الزمخشري، قال الإمام الطيبي: «يريد أن ذكر نعمة الله هاهنا من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، للإشعار بتعظيم الآيات وتعليل قبح فعلهم بكفران تلك النعمة العظمى، وهو تبديلهم إياها»[3/328]

- وقوله تعالى: (...وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76]، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «وفي وضع المظهر- وهو الشيطان- موضع المضمر من غير لفظه السابق وهو الطاغوت، وتعليل المقاتلة معه بقوله: (إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا): مزيد تهييجٍ وتشجيع»[5/67].

- وقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة: 105]، قال الزمخشري: «والخير: الوحي وكذلك الرحمة»، قال الطيبي: « فعلى هذا قد أقيم المظهر، وهو الرحمة، مقام المضمر، وهو ضمير الوحي من غير لفظه السابق؛ ليؤذن بأن الوحي هو عين الرحمة، كما أن إرساله صلى الله عليه وسلم محض الرحمة لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107] وكذلك لفظة "الله" في قوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 105] أقيم مقام ضمير "ربكم" لينبه به على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض ملائم للألوهية، كما أن إنزال الخير على العموم مناسب للربوبية»[3/30].

نماذج وأمثلة:

- قوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236] ، قال الطيبي: « وقلت: المحسنين من وضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية، أي: حقاً عليكم، بدليل قوله: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي: من شأنكم أيها المخاطبون وجوب شرعية المتعة لكونكم محسنين»[3/439].

- قوله: (اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)[البقرة: 19]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وإحاطة اللَّه بالكافرين مجاز. والمعنى: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض لا محل لها»، قال الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى -: «والأوجه أن يقال: إن قوله: (بِالْكَافِرِينَ) من وضع المظهر موضع المضمر إشعارًا باستئهال أصحاب ذوي الصيب ذلك لكفرانهم نعم الله تعالى»[2/275]

- قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:38]، فقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) فيه وضع المظهر موضع المضمر، قال الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قلتُ: إتيان الهدى في الثانية من وضع المظهر موضع المضمر للعلية، فدل على أن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع. وبالنظر إلى أنه أضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وهذا موافق لقول المصنف. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) في مقابلة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) فالمقابل له حكم المقابل» [2/451]

- قوله: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[البقرة:59] فقوله (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل (فأنزلنا عليهم) من  وضع المظهر موضع المضمر، قال الطيبي: «(وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: في وضع المظهر موضع المضمر إشعار بالعلية، وهي أن إنزال الرجز عليهم كان بسبب ظلمهم، ولذلك علله بقوله: "لظلمهم" فقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة: 58] داخل في حيز الصلة، وسبب للظلم لا الإنزال، فيكون إنزال العذاب مسبباً عن الظلم المسبب عن الفسق، كما قيل: إن صغائر الذنوب تؤدي إلى كبائرها»[2/499].

- قوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89، 90]، قال الزمخشري: « (عَلَى الْكافِرِينَ) أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أنّ اللعنة لحقتهم لكفرهم. واللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوّليا. »[2/574]، قال الطيبي:« قوله: (دخولاً أولياً) أي: قصدياً؛ لأن لفظ الكافرين يعم اليهود وغيرهم من سائر المشركين، لكن اليهود داخلون في هذا العام دخولاً قصدياً؛ لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم، وهو من الكناية؛ لأن اللعنة إذا شملت الكافرين أجمع- وهؤلاء منهم-، فيلزم أن تلحقهم على البت والقطع، وهو أقوى مما إذا قيل: فلعنة الله عليهم» [2/575]

- قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 93]، قال الإمام الطيبي –رحمه الله تعالى -: «والمراد بكفرهم ذلك العصيان والتولي فوضعه موضع المضمر ليدل على أن ذلك العصيان والتولي هو كفر منهم وجحود بالآيات وكفران بتلك النعم، وأنه أدى إلى عبادة العجاجيل، وبأن يخاطبوا بقوله: (بِئْسَمَا يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) على سبيل التهكم والسخرية إلى غير ذلك، والله أعلم»[2/580].

- قوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة: 120]، قال الزمخشري: «ألا ترى إلى قوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)؟ أي: أقوالهم التي هي أهواء وبدع (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ) أي: من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة»، قال الطيبي: «وقلت: في كلام المصنف إشعار بأن أهواءهم مظهر وضع موضع المضمر من غير لفظه السابق، وذلك أن قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) حكاية حكاها الله تعالى عن قولهم، وأن قولهم هو: لن نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا، فيكون الأصل: ولئن اتبعتها، ليرجع الضمير إلى مقالتهم تلك، ثم في الدرجة الثانية: ولئن اتبعت أقوالهم، وإنما جمعها باعتبار القائلين بها، ولما لم يكن هذا القول عن هدى ورشد، بل عن ضلالة وزيغ، وضع موضعه أهواءهم في الدرجة الثالثة»[3/69].

- قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165]، قال الزمخشري: « (الَّذِينَ ظَلَمُوا): إشارة إلى متخذي الأنداد،أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله. على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة؛ لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا) [الأنعام: 27، 30]، وقولهم: لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه»، قال الطيبي:« قوله: (أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم) يريد أن في وضع المظهر موضع المضمر في قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) دلالة على أن ذلك الفعل، وهو اتخاذ الأنداد، ظلم عظيم؛ لأن أصل الكلام: ولو يرون إذ يرون»[3/184]

- قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (*) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة: 170، 171]، قال الطيبي:«إن العاطف في قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يستدعي معطوفاً عليه، ولا يحسن أن يعطف على جملة قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا) الآية، حسنة إذا عطف على قوله: (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) على سبيل البيان، فيكون المراد بالذين كفروا آباءهم، وضعاً للمظهر موضع المضمر للإشعار بعلية عدم الاهتداء وسلب العقول نعياً على المخاطبين وتسجيلاً على ضلالهم، وفي عطف الجملة الاسمية على الفعلية الإيذان بأن المراد بالمضارع في قوله: (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الاستمرار»[3/195]

- قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193]، قال الطيبي: «يعني: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فإن انتهوا عن الفتنة فلا تتعرضوا لهم، فإنكم إن تعرضتم لهم كنتم ظالمين فإذا كنتم ظالمين فلا عدوان إلا عليكم، فوضع الظالمين موضع المضمر إشعاراً بالعلية»[3/266].

- قوله:  (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)} [البقرة: 211]، قال الزمخشري في تفسيره: « (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدى أنبيائهم؛ وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام. و (نِعْمَةَ اللَّهِ) آياته، وهي أجل نعمةٍ من اللَّه؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة»، قال الطيبي: «قوله: (و (نِعْمَةَ اللَّهِ): آياته وهي أجل نعمة من الله) يريد أن ذكر نعمة الله هاهنا من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، للإشعار بتعظيم الآيات وتعليل قبح فعلهم بكفران تلك النعمة العظمى، وهو تبديلهم إياها»[3/328]

- قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب) [البقرة: 212]، قال الزمخشري: «قلت: لم قال: (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)؟ قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي؛ وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك»، قال الطيبي: «قوله: (ليريك أنه لا يسعد). خلاصة الجوابين: أن هذا الأسلوب من باب إقامة المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق للعلية، وفائدة التعليل: إما تعظيم من اتصف بالتقوى، أو تفخيم هذه الصفة، والجواب الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني، وهذه النكتة توقفك على أن تفسيره الثاني لقوله تعالى: (فَوْقَهُمْ) أولى، لأن المتقي كريم مكرم، وقال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [الدخان: 51]، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 23]»[3/333]

- قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 247]، قال الطيبي: «وقلت، والله أعلم: قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تكميل لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)، لأن المراد بالأول: إثبات المالكية والقدرة الكاملة على جميع الكائنات، وبالثاني: إثبات علمه الشامل على جميع المعلومات، وهما كالتذييل لما سبق، ومن ثمة عم الحكمين، ووضع المظهر، وهو لفظة "الله"، موضع المضمر، وكرره، فالمراد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) إثبات العلم الخاص، وهو العلم بمصالح العباد كما قال المصنف: "يريد أن الله تعالى هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم"، وبالزيادة في العلم والجسم: القدرة المخصوصة، والله أعلم بمراده من كلامه»[3/462].

- قوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269]، قال الزمخشري: «(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يريد الحكماء العُلام العُمّال. والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي: في معنى الإنفاق.»، قال الطيبي: «وفي قول المصنف: "الحكماء: العلام العمال" على المبالغة، بعد قوله: "والحكيم عند الله هو: العالم العامل"، تنبيه على أن قوله: (أُوْلُوا الأَلْبَابِ) مظهر وضع موضع المضمر، وأن العاقل الكامل المتناهي هو الذي بالغ واجتهد في الجمع بين العلم والعمل وأتقن فيهما ورسخ بهما قدمه، وأما قوله: "والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق" إشارة إلى بيان التوفيق والنظم بين الآي، وأن المنفق في سبيل الله هو العالم الرباني والحكيم المحق، ومن فقد ذلك فقد حرم أن يسمى حكيماً، وبيانه- والعلم عند الله-: أن الله عز شأنه لما بالغ في أمر الإنفاق حين شرع في بيانه بضرب الأمثال والرجوع إليه مرة بعد أخرى كما سبق، أتى بعد ذلك بما عسى أن يمنع المكلف من الإنفاق من تسويل الشيطان وإغوائه النفس الأمارة خوف الفقر والإعدام، وتزيينه المعاصي والفواحش، فقال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، وقابل الخصلتين بما يقابلهما من الحسنتين بقوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)، ثم كمله بما هو العمدة فيه وهو قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المشتملة على سعة الإفضال ووفور العلم ليكون تمهيداً لذكر ما هو أجل المواهب وأسنى المطالب، وهو الحكمة، ليكون حثاً على ما تضمنت الآي من معنى الإنفاق، فعند ذلك تنبه الطالب لأمر خطير فاضطر إلى السؤال بلسان الحال: ليت شعري، هل أحد يتصدى لهذه المنقبة الشريفة والمنزلة الرفيعة؟ فنودي من سرادقات الجلال: من خصه الله تعالى بالحكمة ووفقه للعلم والعمل، ثم ذيل ذلك بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) تعريضاً لمن لا يتعظ بهذا البيان الشافي، المعنى: لا يذكر ذلك إلا من عرف الحكمة ورسخت قدماه فيها، لا من لا يرفع لها رأساً، فإنه في عداد الأنعام بل هم أضل سبيلاً» [3/534].

- قوله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، ففيه – كما قال الطيبي – : « وضع المظهر، وهو (كَفَّارٍ) موضع ضمير (وَمَنْ عَادَ) إشعاراً بأن العائد إلى الاستحلال مبالغ في الكفر عامة، ولذلك أوثر صيغة "فعال"»[3/545]

- قوله: (... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، فقد تكرر لفظ الجلالة ثلاث مرات، قال البيضاوي على ما نقل الطيبي: « وكرر لفظة الله في الجمل الثلاث، يعني: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة: لتعظيم شأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية»، ثم قال الطيبي: «وقلت: إن الأول على ظاهره؛ لأنه مذكور بعد قوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: لا تفعلوا واتقوا الله واحذروا عقابه، والثاني: من وضع المظهر موضع المضمر للتفخيم، يعني: كيف لا يتقونه والحال أنه بجلالته وعظمته يعلمكم ولم يكل على الغير، ثم قال: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: من شأنه أن يعلم المعلومات كلها فيعلم تقواكم وفسقكم وشكركم لأداء نعمة التعليم، وكفرانكم فيجازيكم بها، فهذا تذييل للتهديد. »[3/562].

- قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، فيحتمل أن يكون المراد بالمشركين اليهود والنصارى، قال الطيبي:« فعلى هذا هو من وضع المظهر موضع المضمر، للإشعار بالعلية، وهذا أيضاً ينصر قول المصنف: إن المراد من قوله: (مُسْلِماً) أنه عليه السلام على ملة الإسلام، أي: التوحيد. »[4/138]

- قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، فقوله: (عن العالمين) بدل (عنه)، من باب وضع المظهر موضع المضمر، قال الزمخشري: « ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: (عَنِ الْعالَمِينَ) وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة؛ ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه ». قال الطيبي: « وتلخيصه: أنه تعالى وضع المظهر موضع المضمر وأتى به عاماً وخص بالذكر (الْعَالَمِينَ) ليتناول العام هذا المتمرد الخاص على سبيل الكناية الإيمائية،» [4/194].

- قوله:  (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 115]، قال الطيبي: «وفي وضع (الْمُتَّقِينَ) موضع المضمر إشعار بالعلية وإيذان بأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى»[4/226]

- قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] «وفي وضع المظهر- وهو الشيطان- موضع المضمر من غير لفظه السابق وهو الطاغوت، وتعليل المقاتلة معه بقوله: (إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا): مزيد تهييجٍ وتشجيع»[5/67]

- قوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80]، قال الطيبي –رحمه الله تعالى -: «هذا التعليل يفيده لفظ (الرَّسُولَ)؛ لأنه من وضع المظهر موضع الضمير للإشعار بعلية إيجاب الطاعة له» [5/80]

- قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [المائدة: 17]، قال الطيبي: «وإنما أقيم المظهر موضع المضمر في قوله: {أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} وإن لم يقل: يهلكه إرادة الدلالة أنه عبدٌ مطيع؛ لأن المسيح هو الصديق، وعطف عليه أمه لمزيد الدلالة على أنه عبد مخلوق؛ لأن الخالق لا أم له، ثم عطف عليه: {مَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} إرادة الدلالة على أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما، وكل ذلك تتميمات يزيد الكلام بها مبالغة»[5/316].

- قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56]، قال الزمخشري: «(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) من إقامة الظاهر مقام المضمر، ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاماً لكونهم حزب اللَّه. وأصل الحزب: القوم يجتمعون لأمر حزبهم، ويحتمل أن يريد بـ (حِزب اللَّه): الرسول والمؤمنين،»، قال الطيبي في بسط كلامه: «قوله: " {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} من إقامة المظهر موضع المضمر"، يعني: أقيم {حِزْبُ اللَّه} موضع المضمر من غيرلفظه السابق للإعلام بأنهم أعلام فيه، لما أن قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} متضمن لكونهم حزب الله مصرح به ليؤذن بأنهم مشاهير فيه، أو للإشعار بالعلية، والإعلام بأن كونهم غالبين لكونهم حزب الله، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]» [5/401].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)  ملخصا من: (1/503)، وانظر: عروس الأفراح (1/265)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق