مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

واقعنا في الميزان، محاولة لفهم المشكلة

يوسف  تجرونة

باحث في الفكر الإسلامي المعاصر

والدراسات القرآنية

جامعة محمد الخامس. الرباط ـ المغرب

يقول ربنا سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: ﴿إن هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا﴾، وقال عز من قائل: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾، وقال سبحانه: ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإن الله سميع عليم﴾.

إيمانا منا بأهمية هذا الموضوع وضرورته للرقي بأمتنا إلى الأحسن، وذلك أن أول الطريق إلى الحل هو الإحساس بالمشكلة، ثم إدراكها ثم معالجتها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره –كما يقال- فالتصور الصحيح هو المسار الصحيح لحل المشكلة.

– ما هي المشكلات التي تطرح نفسها في هذا الموضوع؟

– لماذا لم يتحقق وعد الله سبحانه بالتمكين : ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا﴾.

– مشكلة طغيان النفس وظهور الفساد في البر والبحر، لماذ؟ا

– مشكلة الافتراق بين القيم والواقع وبين النظرية والتطبيق وبين القول والعمل، لماذا؟

– مشكلة الغثائية والركود والانتكاسة الحضارية بدل الشهود والتمكين الحضاري، لماذا؟

– كيف يكون فهم التدين فقها وتنزيلا؟

– كيف يتم إصلاح الخلل الموجود في الإنسان؟

– كيف هي نظرة المسلم إلى دينه؟ وكيف يتعامل مع مصدر دينه؟

– كل هذه الإشكالات لا ندعي الإحاطة بها، وإنما هي استشارة وعي المسلم نحو إعادة النظر في مشكلاته بطريقة يلتمس فيها الحل.

 والله نسأل أن يوفقنا إلى الصواب ويهدينا إلى سبيل الرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل .

مدخل

إن الإحساس بالمعاناة والقلق في العالم الإسلامي لا يخفى على أحد ولا يختلف فيه اثنان، ويتجلى ذلك في مظاهر الحياة الفكرية منها والمادية، بما لا يدع مجالا لإغفال أو نفي الشعور به، لذلك جاء هذا العمل المتواضع محاولة للمضي قدما في دفع هذا الزخم نحو آفاق يكون فيها أكثر إضاءة وفاعلية ، فلا تزال مجهودات المسلم في فك مشكلته في عمومها أسيرة رؤى، كثيرا ما ساهمت في محدودية مردودها في الواقع. من هنا كانت الضرورة لإعمال العقل في مشكلاتنا على نور الوحي وفقه الواقع.

وهذا لا يعني الإحاطة بكامل أبعاد الأزمة والوصول إلى الحل الذي لا رجعة فيه، بل يستلزم ذلك القيام بعملية المراجعة المستمرة من خلال:

أ‌- العودة إلى الذات ( محاسبة النفس ): يتم هذا في مختلف المستويات وبعدة آليات

على مستوى الفرد: يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا اللإن الله خبير بما تعملون﴾، ويقول عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).

     إن أرقى أنواع الاتصال هو(الاتصال الذاتي)، الذي يكون فيه المرسل هو المستقبل نفسه، ففي هذه الحالة يكون وصول الرسالة أضمن وحدوث الأثر أبلغ، فهنا تكمن أهمية النقد الذاتي أو التغذية الراجعة:

    فالنفس أبلغ واعظ كما يقال:

              أقبل على النفس واستكمل فضائلها      فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

    على المستوى المؤسسات:

      لبناء عمل جماعي متكامل لابد من الوحدة البنيوية، والتي تمثله: وحدة الغاية “رضوان الله” وحدة الرسالة والرؤية.

      – العمل بالبنود الخمسة للمصفاة: القران والسنة. العقل والمنطق. المنهجية العلمية. قيم ومبادئ المجتمع. مراعاة الآثار والعواقب.

      –  توازن مجالات الحياة الثمانية المكونة لعجلة السعادة:

        1-الإيماني (الديني)                   5- الإجتماعي   

        2-الفكري                            6- البدني         

        3-الأسري                             7- العاطفي (النفسي)

        4-العملي (الوظيفي)                   8- المادي

      – التزام نظام الاحتساب:     1- لا شكوى لا التزام

                                    2- نعم شكوى لا التزام

                                    3 – نعم شكوى نعم التزام

                                    4- لا شكوى لا التزام (مربع العظماء)

      – تطبيق المنهج العلمي للعمل الجماعي.

      * على مستوى الأمة

      – ضرورة التخطيط والعمل المنهجي على ضوء الدراسات الاستراتيجية و المتخصصة، ومن هنا يتضح دور مكاتب الدراسات في كل المجالات و التي تعمل بمنهج التفكير الشمولي و التطبيق المرحلي، ولنا في ذلك أمثلة:

      1- وزير المالية (يوسف عليه السلام)، الذي خطط لتأمين معيشة رعيته وتصريف أمور الخزينة لمدة 15سنة. ﴿اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾.[1]

      2- دور محمد ماهاتير في نهضة ماليزيا، من خلال مشروع أسلمة المعرفة المجسد بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .

             فالمقصود بالتخطيط هو التأمل بوعي في المستقبل الذي ينبغي أن يمد فيه بالبصر للانتباه إلى مواضع الضعف والنقص والتقصير، بهدف القيام بعملية التقويم الصحيح، والنقد الجريء والمراجعة الأمينة، وبالتالي الارتقاء بمستوى الأداء وبلوغ الهدف.

      ب – التواصي بالحق

             إن كل شيء يأخذ قيمته من وظيفته، ووظيفة هذه الأمة هي الدعوة إلى الله، وبه كانت خيريتها، مصداقا لقوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾.[2]

         والدعوة إلى الله هي سيد الأعمال الصالحة كلها، ﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين﴾.[3]

              والتواصي بالحق خصلة من خصال أمة الإسلام الحاملة للواء الرسالة، والناهضة بالأمانة الكبرى في سبيل قيادة البشرية إلى طريق الإيمان والعمل الصالح، وذلك تحقيقا للشهادة على الناس، لقوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾.[4]

      وفي هذا الباب نجد الناس إلى ثلاث: مفرّط، مفرّط، وبينهما متوسط (معتدل).

      أما المفرّط فلا يعرف حقا، ولا ينكر باطلا، ولا يحق معروفا، ولا يبطل منكرا، فلا يكلف نفسه عناء الدعوة ويرى في صلاحه نجاة له ويتعذر بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾.[5] على الرغم من أن أبا بكر رضي الله عنه يقول في معنى الآية: إن اهتديتم إلى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ورغم تظافر الأدلة على الفرض العيني في الدعوة.

      ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ولتكن منكم  أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾.[6]

       فهذه الآية وحدها تدل على الوجوب العيني لحكم الدعوة. فالآية احتوت على أمر ﴿ولتكن منكم﴾: ليست للتبعيض وإنما هي للبيان على الأصح، بمعنى تقدير الآية: ( كونوا أمة هذا حالها: يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).

      وأولئك هم المفلحون: حصر الفلاح في ذلك الصنف، بمعني ما و إلا: ما لفلاح إلا في هؤلاء، أو إنما الفلاح في هؤلاء. واستفيد الحصر بتوسيط أداة الفصل(هم) بين معرفتين، أولئك والمفلحون.

      وما يدعم ذلك قوله تعالى: ﴿لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون﴾.[7]

      وكذلك قوله سبحانه :﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾.[8] وكل مسلم هو من أتباع النبي. ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾.[9]

      وكذلك قوله جل شأنه في أصحاب السبت: ﴿وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون﴾.[10]

      ففي هذه الآية ثلاثة أصناف: صنف أهل منكرات، وصنف صالحون مصلحون، وأمة منهم ساكتون عن المعاصي لا يغيرون منكرا، فأنجى الله صنفا واحدا ﴿الذين ينهون عن السوء﴾، وأهلك الآخرين وهم العصاة والساكتون عنهم، ﴿وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون﴾. وما يبين ذلك كالشمس في رابعة النهار، سورة يقول فيها الإمام محمد بن إدريس الشافعي: “لو ما أنزل الله على البشر إلا هذه لكفتهم”. يعني حجة، وهي سورة العصر: ﴿والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات و تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾.

      * والعصر: أقسم الله تعالى بمخلوق من مخلوقاته –العصر- للتنبيه إلى عظم المقسم عليه، وهو: (إن الإنسان لفي خسر): يقرر الله تعالى قاعدة عامة مؤكدة بتوكيدين -وفي المنطق-  مستغرقة لكل جنس الإنسان (بني آدم) أنه في خسرات، وفي آية: ﴿فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز﴾.[11]

      * إلاّ الذين: يستثني الله تعالى بأداة الاستثناء واسم الموصوف أصنافا يخرجون عن القاعدة العامة، وهم الذين يتصفون بصفات النجاة الأربعة كلها.

      *آمنوا وعملوا الصالحات: ما الإيمان؟ الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.

      ولا إيمان دون عمل، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وكما يقال: إذا حلت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء، فالعمل دليل على الإيمان، ومقياسه ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون).[12] وكذلك ﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾[13].

      فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، لذا فالإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان). والإيمان هو التصور والتصديق.  اعتقاد: تصوّر + تصديق.

      والتصور الذي يجب أن يكون في الاعتقاد هو التصور القرآني، أي المحكم من آياته القطعي ثبوت الدلالة، يقول تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾.[14]

      وللتصديق مراتب، الشك والظن واليقين،  ﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾.[15]

      فلا مجال للشك والارتياب مع الإيمان، بالإيمان ما وقر في القلب وعقد فيه يقينا.

      وكذلك ينبغي أن ننتبه إلى شروط قبول العمل الصالح، منها الإيمان. قال تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾.[16] وكذلك قوله تعالى في عمل الكافر: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب﴾.[17] وقوله: ﴿مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف﴾.[18] وقوله تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾.[19]

      * تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر: هم الذين توكّلوا على الله فقاموا بواجب الأمر والنهي، ولم يألوا جهدا، ثم علقوا نتيجة الهداية بأمر الله تعالى مصداقا لقوله تعالى: ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب﴾.[20]

      كما على المسلم أن يتواصى بالصبر، والصبر أنواع:

      – الصبر على الطاعة، والصبر على المعصية، والصبر على المصيبة، متأسيا بوصايا لقمان لابنه: ﴿وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾.[21]

      وكذلك قوله تعالى: ﴿وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾.[22]

      فهذه هي وجهة التوسط في هذا الواجب، يقوم المسلم بواجب الأمر والنهي، ويصبر في ذلك السبيل ويتوكل على الله، ويدع النتائج بيده تعالى، فلا إفراط ولا تفريط، فأما المفرطون هم الذين يكلّفون أنفسهم تغيير الأحوال، حتى إذا طال بهم الزمن، وجدّ بهم المسير كلّوا أو سئموا ولم يصبروا فتركوا الجهد إلى الأرض، لكن الله تعالى يقول: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾.[23]

                                                                                                                      يتبع…

       



      [1] – سورة يوسف الآية 55. 

      [2] – سورة آل عمران. الآية 110.

      [3] – سورة فصلت الآية 33.

      [4] – سورة البقرة، الآية 143.

      [5] – سورة المائدة، الآية 105.

      [6] – سورة آل عمران، الآية 104.

      [7] – سورة المائدة ، الآية 78.

      [8] – سورة يوسف، الآية 108.

      [9] – سورة الأنعام، الآية 153.

      [10] – سورة الأعراف، الآية 164.

      [11] – سورة آل عمران، الآية 185.

      [12] –  سورة التوبة 105.

      [13] – سورة النحل، الآية 32.

      [14] – سورة آل عمران، الآية 7.

      [15] – سورة البقرة، الآية 4 .

      [16] – سورة النحل، الآية 97.

      [17] – سورة النور، الآية 39.

      [18] – سورة ابراهيم الآية 18.

      [19] – سورة الفرقان الآية 23.

      [20] – سورة هود الآية 88.

      [21] – سورة لقمان، الآية 17.

      [22] – سورة البقرة، الآية 155، 156.

      [23] – سورة البقرة، الآية 143.

      ( انظر: قراءة في الواقع الإسلامي: محاولة لفهم المشكلة الإسلامية، إعداد: طالبات مسجد النور، غرداية، الجزائر. (بتصرف)).

      مقالات ذات صلة

      زر الذهاب إلى الأعلى
      إغلاق