مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية (9)

الحكمة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول

    خص الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم وحبيبه العظيم بخصائص وفضائل جليلة، تدل على عظيم كرمه، وعميم فضله، كما تدل على سر حكمة الله تعالى، وهي اختيار زمن ولادته، فمن المعلوم أن الأوقات تشرف بشرف ما وقع فيها من الخير والفضل، يقول ابن الحاج: “وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به من العبادات التي تفعل فيها، لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني”،[1] فكيف لا يشرف وقت مولده صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الجود، ولولاه ما كان هذا الوجود؟

    سالت أقلام العلماء والفضلاء في سبر سر اختيار الله ليوم الاثنين و شهر ربيع الأول يوما لمولد سيد الكونين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى قد خلق سيدنا  آدم عليه السلام يوم الجمعة، وشرف هذا اليوم بساعة لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله تعالى شيئا إلا استجاب له، وهي الساعة التي ولد فيها نبيه آدم عليه السلام إكراما له، فلا بد أن هناك تكريم مخصوص من الله تعالى لحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو حبيب رب العالمين، وسيد الخلق أجمعين؟ من هذه الحكمة الربانية استخلص بعض العلماء هذا الاختصاص الرباني وهو: “إذا كانت تلك الساعة التي وجد فيها آدم عليه الصلاة والسلام لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها شيئا إلا أعطاه إياه، فلا شك أن من صادف الساعة التي ظهر فيها عليه الصلاة والسلام إلى الوجود وهو يسأل الله تعالى شيئا أنه قد نجح سعيه وظفر بمراده، إذ أن المعنى الذي فضل الله تعالى به تلك الساعة في يوم الجمعة هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (آدم ومن دونه تحت لوائي).”[2]

    فإذا كان التكريم الإلهي لنبيه آدم عليه السلام كل يوم جمعة بأن خصه باستجابة الدعاء، وهو تكريم أسبوعي، فإن الله تعالى أكرم حبيبه صلى الله عليه وسلم كل يوم في الساعة التي ولد فيها نبينا الكريم بالتنزلات الرحمانية والفيوضات الربانية، وهو تكريم يومي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).[3]

    أما عن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، فقد أجاب الشيخ عبد الرحمن بن عبد المنعم الخياط على هذا بقوله: “وإنما كان مولده في شهر ربيع على الصحيح، ولم يكن في المحرم ولا في رجب ولا رمضان ولا غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يشرف بالزمان، وإنما الزمان يشرف به، كأماكن كثيرة، فلو ولد في شهر من الشهور المذكورة لتوهم أنه يتشرف بها، فجعل الله تعالى مولده عليه الصلاة والسلام في غيرها، ليظهر عنايته به وكرامته عليه”.[4]

    وقد فصل الشيخ ابن الحاج في الحديث عن الحكمة من اختيار يوم الاثنين وشهر ربيع الأول كزمن خاص بمولد النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأيام ولا الشهور بقوله: “فإن قيل: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده الكريم بشهر ربيع الأول وبيوم الاثنين منه على الصحيح والمشهور عند أكثر العلماء، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر، واختص بفضائل عديدة، ولا في الأشهر الحرم التي جعل الله لها الحرمة يوم خلق السماوات والأرض، ولا في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم الجمعة ولا في ليلتها؟ فالجواب من أربعة أوجه: 

    الوجه الأول: ما ورد في الحديث من أن الله تعالى خلق الشجر يوم الاثنين…، وفي ذلك تنبيه عظيم، وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يتغذى بها بنو آدم ويحيون ويتداوون، وتنشرح صدورهم لرؤيتها، وتطيب بها نفوسهم، وتسكن بها خواطرهم عند رؤيتها، لاطمئنان نفوسهم بتحصيل ما يبقي حياتهم على ما جرت به العادة من حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، فوجوده صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر، في هذا اليوم قرة عين بسبب ما وجد من الخير العظيم والبركة الشاملة لأمته صلوات الله عليه وسلامه.

    الوجه الثاني: أن ظهوره عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع فيه إشارة ظاهرة لمن تفطن إليها بالنسبة إلى اشتقاق لفظة ربيع، إذ أن فيه تفاؤلا حسنا ببشارته لأمته عليه الصلاة والسلام، والتفاؤل له أصل أشار إليه عليه الصلاة والسلام، وقد قال الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن الصقلي رحمه الله: لكل إنسان من اسمه نصيب، هذا في الأشخاص وكذلك في غيرها، وإذا كان كذلك، ففصل الربيع فيه تنشق الأرض عما في باطنها من نعم المولى سبحانه وتعالى، وأرزاقه التي بها قوام العباد وحياتهم ومعايشهم وصلاح أحوالهم، فينفلق الحب والنوى وأنواع النبات والأقوات المقدرة فيها، فيبتهج الناظر عند رؤيتها، وتبشره بلسان حالها بقدوم ربيعها، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى الاستبشار بابتداء نعم المولى سبحانه وتعالى. ألا ترى أنك إذا دخلت بستانا في مثل هذه الأيام تنظر إليه كأنه يضحك لك، وتجد زهره كأن لسان حاله يخبرك بما لك من الأرزاق المدخرة والفواكه، وكذلك الأرض إذا ابتهج نوارها كأنه يحدثك بلسان حاله كذلك أيضا. فمولده عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع فيه من الإشارات ما تقدم ذكر بعضه، وذلك إشارة ظاهرة من المولى سبحانه وتعالى إلى التنويه بعظيم قدر هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه رحمة للعالمين، وبشرى للمؤمنين، وحماية لهم من المهالك والمخاوف في الدين، وحماية للكافرين بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لأجله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال/33]…

    الوجه الثالث: ما في شريعته عليه الصلاة والسلام من شبه الحال، ألا ترى أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها، إذ ليس فيه برد مزعج ولا حر مقلق وليس في ليله ونهاره طول خارق، بل كله معتدل، وفصله سالم من العلل والأمراض والعوارض التي يتوقعها الناس في أبدانهم في زمان الخريف، بل الناس تنتعش فيه قواهم، وتصلح أمزجتهم، وتنشرح صدورهم، لأن الأبدان يدركها فيه من أمداد القوة ما يدرك النبات حين خروجه، إذ منها خلقوا، فيطيب ليلهم للقيام، ونهارهم للصيام، لما تقدم من اعتداله في الطول والقصر والحر والبرد، فكان في ذلك شبه الحال بالشريعة السمحة التي جاء بها صلوات الله عليه وسلامه من رفع الإصر والأغلال التي كانت على من كان قبلنا، وقد نطق القرآن بذلك حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف/157].

    الوجه الرابع: أنه قد شاء الحكيم سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام تتشرف به الأزمنة والأماكن، لا هو يتشرف بها، بل يحصل للزمان والمكان الذي يباشره عليه الصلاة والسلام الفضيلة العظمى والمزية على ما سواه من جنسه، إلا ما استثنى من ذلك لأجل زيادة الأعمال فيها وغير ذلك. فلو ولد صلى الله عليه وسلم في الأوقات المتقدم ذكرها لكان ظاهره يوهم أنه يتشرف بها، فجعل الحكيم جل جلاله مولده صلى الله عليه وسلم في غيرها ليظهر عظيم عنايته سبحانه وتعالى به وكرامته عليه. وقد تقدم ما في قوله عليه الصلاة والسلام للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك يوم ولدت فيه)، ولما أن صرح صلى الله عليه وسلم بقوله في يوم الاثنين: ذلك يوم ولدت فيه، علم بذلك ما اختص به يوم الاثنين من الفضائل، وكذلك الشهر الذي ظهر فيه صلى الله عليه وسلم”.[5]

العبر والعظات المستخلصة

أ‌- تعظيم يوم مولده صلى الله عليه وسلم

    من الأمور المبنية على المحبة والتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم: تعظيم يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فكما ذكرنا أن اليوم الذي ولد فيه سيد الكونين، وحبيب رب العالمين، قد خصّه الله تعالى بمزيد من التكريم والتشريف، فوجب تعظيمه وتقديره وإنزاله منزلة تليق به، من إطعام الطعام، وإظهار الفرح والسرور، والتوسيع على الأهل والأحبة، ودراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة والتسليم عليه، وجميع أعمال البر والخير تقديرا لهذه النعمة الكبيرة، والمكرمة العظيمة، يقول ابن الحاج: “فانظر رحمنا الله وإياك إلى ما خص الله تعالى به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم، لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه، فعلى هذا فينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به، وذلك بالاتباع له صلى الله عليه وسلم في كونه عليه الصلاة والسلام كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات، ألا ترى إلى قول البخاري رحمه الله تعالى: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله عليه الصلاة والسلام على قدر استطاعتنا”.[6]

ب‌- اغتنام ساعة مولد النبي صلى الله عليه وسلم

    ومن جملة الأمور المبنية على الحكمة من اختيار الله تعالى للساعة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، التماس الدعاء والمناجاة، وبخاصة في ساعة الثلث الأخير من الليل التي هي محط الاختصاص الرباني والخير المحمدي، بغية مناجاة الحق، والتنعم بسكون الليل، الذي هو مطية المحبين، وساعة المحبين، ومأوى الراغبين، فإذا كان الله تعالى خص يوم مولد سيدنا آدم عليه السلام بساعة لا يوافقها العبد المؤمن إلا استجاب الله له، فما بالنا بالساعة التي ولد فيها سيد الوجود، وحبيب رب العالمين؟

ج- تجليات الرحمة المحمدية

    ومن جملة ما نستفيد من هذا الجانب المشرق من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، الرحمة الواسعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم الجمعة الذي هو مولد سيدنا آدم عليه السلام، قد خصّه الله تعالى بجملة من التكاليف منها صلاة الجمعة، فإن مولده صلى الله عليه وسلم لم يخصه بشيء تخفيفا ورحمة بهذه الأمة المحمدية، فهو صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة، والنعمة المعطاة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء/107]، يقول عبد الرحمن بن عبد المنعم الخياط: “ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين يوم مولده عليه الصلاة والسلام من التكليف بالعبادات ما جعل في يوم الجمعة الذي خلق الله فيه آدم عليه الصلاة والسلام من الجمعة والخطبة وغير ذلك إكراما لنبيه عليه الصلاة والسلام بالتخفيف عن أمته، بسبب عناية وجوده، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء/107]، ومن جملة ذلك عدم التكليف”.[7]

 الهوامش

[1] المدخل، لابن الحاج، 2/ 3.

[2] المصدر السابق، 2/ 29-30.

[3] صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، وقال الله عز وجل: ﴿كانوا قليلا من الليل ما يهجعون﴾ أي ما ينامون، ﴿وبالأسحار هم يستغفرون﴾، رقم 1145.

[4] مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لعبد الرحمن بن عبد المنعم الخياط، تحقيق ودراسة: أحمد حسين النمكي، دار الآفاق العربية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1422هـ/2002م، ص: 80.

[5] المدخل، لابن الحاج، 2/ 29.

[6] المصدر السابق، 2/ 3.

[7] مولد النبي صلى الله عليه وسلم، الخياط، ص: 81.

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق