مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويدراسات عامة

نظرات في رسالة الشيخ التامودّيزتي السوسي

ومن المتّفَق عليه عند كثير من الباحثين المهتمين بدراسة التصوف؛ كونُ المغاربة فيه أهل عَمل وسلوك أكثر مما هم أهل إشارات وحقائق، ومسلك العمل والتخلق هذا، قد ورَّث الخطاب الصوفي ميزة تتمثل في ارتباط النص الصوفي بالقرآن والسنة اللذين هما أصل العمل.

والمتأمل في تراجم المشتهرين بالتصوف في المغرب يلاحظ التكامل في الكتابة والممارسة الصوفية، حتى كأن صادق المدارسة لا يحصل حتى يشهد عليه خالص الممارسة، فلا يستغرب أن تكون تعريفات التصوف كلها ملوّحة بهذه الإشارة، قاضية بهذا المعنى. ومما جاء في تعريف التصوف عند الشيخ التاموديزتي الذي خصصنا له هذه المقالة قولُه: “إن التصوف هو العمل بأصح ما ورد”([1]).

فإذا صح هذا، تبين أن التصوف في بناء خطابه يتوسّل بالسلوك والعمل والتخلق بالقرآن والهدي النبوي، وكلما زاد توسله زادت شرعية الخطاب وجماليته، إلى أن يبلغ الصوفي بهذا التثوير العَملي آفاقا جديدة من الاجتهاد الديني الخالص.

إن هذه العلاقة المترابطة بين الاحتكام للنصوص الشرعية وبين الاجتهاد في تقويم العمل بالمجاهدة قد أكسب الممارسة الصوفية قوة في الاشتغال بالوحي، وقوةَ الاستدلال في الخطاب، “فالتدبر الصوفي للقرآن لا ينفك عن التطبيق العملي للآي، مما يؤدي إلى فتح في الفهم تنكشف به معان يتجدد بها العمل نفسه، وإن بقيت صوره متشابهة وعلى هيأة واحدة من حيث ظاهر سلوك الأفراد والجماعات”([2]).

وسوف نبرز من خلال رسالة الشيخ الحسن بن مبارك التاموديزتي (1316هـ) جانبا من آثار ارتباط الاستدلال بالوحي والمعاني الروحية الناتجة عن العمل.

وقبل ذلك نمهد بوقفات سريعة عن حياة الشيخ، يكون المقصودُ منها استصحابُ صورة واضحة عن أحواله العَملية وأخلاقه السلوكية التي تقلب فيها، ما يسمح بإدراك خصوصية عباراته.

المبحث الثاني: الشيخ لحسن بن مبارك التاموديزتي

يمكن الاستفادة من ترجمة الشيخ التاموديزتي -تحقيقا لأغراض هذه المقالة- بالتمييز في سيرته بين ثلاثة أطوار:

الأول: طور التحصيل العِلمي

الشيخ الحسن بن مبارك بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الله بن يوسف بن عمرو بن أحمد بن زكريا بن عبد الملك، التاموديزتي نسبة إلى مدشر تاموديزت بتغمي، تلقى القرآن على يد موسى بن محمد بـ (أفلا أنزي) وعن الاستاذ سيدي محمد التيغزراني بالمدرسة الأدوزية العتيقة. وأخذ العلوم عن العلامة الكبير سيدي العربي الأدوزي حتى توفي، فكان المبرّز بين تلاميذه، ثم جلس بين يدي ابنه العلامة محمد بن العربي الأدوزي حتى أجازه في سائر مروياته حوالي سنة 1290هـ([3]).

شارط بعد ذلك بمدرسة موزايت سنة 1292هـ، وكان مزاولا لقسمة الأملاك، ومشاركا في العلوم، يستحضر المسائل استحضارا غريبا.

قال أبو فارس الأدوزي وهو من أصحابه كما نقل صاحب المعسول: كان رحمه الله فقيها نحويا لغويا حيسوبيا فرضيا بلغ الغاية في هذه العلوم وله بها معرفة تامة. مهر فيها وله مشاركة في غيرها كالمنطق والتنجيم والحديث والتفسير، مع الدين المتين والورع التام، قوي في دينه ضعيف في بدنه.”([4])

الثاني: طور الدخول في طريق القوم

أخذ الطريقة الدرقاوية على يد الشيخ سيدي سعيد بن همو المعدري بعد أن استشعر في نفسه ضرورة تزكية باطنه بترك مزاولة قسمة الأملاك التي كان ينال منها أموالا ربما لا يطمئن لها خاطره، فيقع له من الوقائع ما يزعجه إلى ميدان التربية شيئا فشيئا حتى كان آخرها ما حكى المختار السوسي: “حين كان يبني جدارًا في داره، فخرج من داخل الدار يومًا، فإذا به يسمع إنسانًا يقول للبنائين وهو يتمنطق ليعين العَمَلَة: بسم الله عونك يا رب، لنضع حظنا في هذا الدار الظالمِ أهلُها، يقول ذلك مداعبة، ولإيقان غالب الناس في العلماء الذين يزاولون النوازل ويأخذون عنها أكثر مما يلزم، أنهم كلهم ظلمة، فصادف ذلك من سيدي الحسن ضيقًا في صدره، فوقع منه قول الرجل موقعًا عظيمًا. فخرج في الحين فأنزل البنائين من فوق الجدار، ووقف العمل، فكان من ذلك اليوم رجلاً آخر”([5]).

أخذ الطريقة بيد الصدق والعزم، وخاض في ميدان التزكية خوض اللهوف إلى النجاة، فكانت له إلى جانب مكانته العلمية منزلة في الطريق كبيرة؛ وعُرف بين المريدين بشفوفه وقوة إرادته وعلو همته، “مال إلى نفسه بالتصفية وإلى التبعات يؤديها، فرد كل ما توصل به من النوازل إلى آخر دانق، إلا من سامحوه وطابت أنفسهم بما وصل إليه منهم، وحرر أيضا عبيده كلهم فشمر ذيله وحرر قصده وشد مئزره فانقطع إلى شيخه سيدي سعيد بالمعدر”([6]).

الثالث: طور الاضطلاع بالإرشاد والتوجيه

لما توفي الشيخ سيدي سعيد أوهمُّو ولم يشر بالخلافة التربوية إلى أحد من مريديه، رشَّحَ كبارُ أصحابه الشيخَ لحسن بن مبارك لهذا الأمر، قال المختار السوسي: “فكان سيدي الحاج الحسن قطب الدائرة، ويعسوب الخلية. فبقي بذلك أمر الفقراء مجتمعًا، وشملهم منتظمًا إلى سنة 1302 هـ”([7])، ثم إن الشيخ بعد هذه السنة اتخذ لنفسه ولأصحابه طريقا خاصة من الجد ومنهجا فريدا في العزيمة والسلوك إلى الله تعالى، فكانوا مسترشدين بسمته مأتمرين بأمره ومنتفعين بحاله وقوله وعمله؛ فظهرت آثار ذلك عليهم كما قال تلميذه الشيخ عبد العزيز الأدوزي: “نفع الله به العباد وهدى به الخلق رجالا ونساءً، عبيدا وأحرارا، من أقا ناحية الشركَـ إلى حاحة إلى وادي نون، وما بين هذه البلاد من بلاد سوس وراس الوادي وإيلالن وولتيتة وغير ذلك”([8]).

وللشيخ التموديزتي حال في التربية قوي، وتأثير في النفوس كبير، فقد كان يسير على قدم التورع والمجاهدة، محاسبا نفسه وأصحابه على النقير والقطمير، حتى “كان عارفوه يتعجبون كيف يتأتى لمن معه أن يصبر على تلك الحال الشديدة، يقول سيدي ابراهيم بن المحجوب من أصحابه الساحليين : إن مَثَل سيدي الحاج الحسن في شدته وكثرة تضييقه على نفسه وملازمته للمناقشة والمحاسبة في كل الأقوال والفعال والأحوال وخطرات القلوب مَثَلُ من رَكَزَ عُكازه في الأرض فتسلقها حتى علاها، فإنه إن تمكن من الاستواء عليها وتيسر له الدوام على ذلك فإنه لا يمكن للآخرين أن يشاركوه في الاستواء عليها لأنه لا يستوي عليها إلا واحد “([9]).

وتآليف الشيخ التاموديزتي متنوعة، منها تأليف في بيع الثنيا، شرح النظم الجشتيمي في الفقه، شرح مترجم خليل للهوزالي إلى الشلحة، شرح كتاب الحوض في الفقه أو (شرح منظومة القواعد الخمس)، وشرح أزناچ في التصوف بالشلحة.

وله إلى جانب ذلك رسائل في التصوف إلى إخوانه وفقرائه وأصحابه تُبِين عن فهم عال لأذواق الصوفية وإشاراتهم، وتشي بعلو كعبه في إدراك مقاصد القوم في تربيتهم، فكانت هذه الرسائل تجمع بين التوجيه التربوي والإشارات العرفانية على شرط التصوف في مجاله التداولي المغربي، وجل هذه الرسائل تدور على صدق التوجه إلى الله ويجمعها ناظم الاستشهاد بآي الكتاب وأحاديث السنة المشرفة في سائر القضايا، وهو أمر يوحي ببالغ ورعه وشدة تمسكه بالشريعة حتى تجلى ذلك في رسائله التي هي المظهرُ القولي لسلوكه الصوفي والإشارةُ الدالة على تثوير النص الشرعي الذي نروم بيانه في هذه المقالة، وقد قال الأدوزي تلميذُه عبارة تعكس هذين الأمرين: “كأن التكليف لم ينزل إلا عليه”([10]).

المبحث الثالث: رسالة الشيخ إلى محمد بن عبد الرحمن الإكراري

أولا: خصائص رسالة التاموديزتي

إن اختيار الشيخ التاموديزتي نابع أولا من كونه عالما مشاركا في علوم مختلفة، وثانيا من كونه أخذ طريقة التصوف تجربة وعملا، وثالثا من اتخاذه طريقة في الورع والمحاسبة قل نظيرها في سوس، فامتاز بذلك عن معاصريه بما استحق به لقب “جنيدِ عصرِه”، ومن بين رسائله الصوفية النفيسة التي احتفظ بها التاريخ السوسي، هذا الجواب العجيب الذي أجاب به سيدي محمد بن عبد الرحمن الإكراري[11]، في بعض قضايا السير إلى الله تعالى.

والرسالة أنموذج حقيقي شاهد على ممارسة تثويرية للوحيين، واضح المعالم في الكشف عن فتوحات التربية الصوفية ومقاصدها، وقد حرص خلالها الشيخ التاموديزتي على إبقاء الصلة بين هذه القيم الروحية وشواهدها القرآنية، جاعلا من تلازم العمل الروحي والنص الشرعي أساس بناء الدرس الصوفي الجمالي الراقي، فجاءت الرسالة حافلة في المعنى راسخة في المبنى، يجول فيها الشيخ من قضية إلى أخرى في رباط قرآني وحيدثي عجيب، حتى قال المختار السوسي معلِّقاً عليها: “انتهى الجواب العجيب الذي هو وحده ترجمة للشيخ التاموديزتي، والحقّ أقول: ما كنت أظنه ممن يولعون بأمثال هذه العبارات التي تكون شائكة عند أرباب الفن، حتى رأيت له اليوم هذا”([12]).

وتتميز الرسالة أيضا بكونها تزاوج بين ما ينفع المريد في سيره وتوجه همته نحو الله تعالى وتأديبه، وبين الإلماح إلى حقائق التجلي والفتح والكشف والمعرفة والوصول والفناء والبقاء وغيرها من فتوحات أهل التصوف.

وسأبسط الآن بعض وجوه الاستدلال بالنص قرآنا وحديثا في هذه الرسالة، لاكتشاف التثوير الذي أشرت إليه في المطلب السابق.

ثانيا: الاستدلال بالنص بين جمال اللغة وسمو المعنى في رسالة الشيخ التاموديزتي

يقول الشيخ بعد أن افتتح رسالته بالتقوى: “هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، فكل ذي نعمة محسود، والكتمان قسمان: الظاهر يعرفه كل الناس، والباطن يكون بأثواب الذل، فما أمرّه وما أحلاه، ولا ثبات في الطريقة إلا بهما معًا”([13])، فاستدل بحديث الكتمان على حال الذل الذي يحصل به الثبات.

وقال: “آيتان في كتاب الله تعالى، أصمَّتا وأفْنَتَا كل واحد، وحققتا النسب لمن انتسب: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)([14])، (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمن اتَّقَى)([15])، ولكن يفرح العبيد بقرع الباب، وإن أقفله البواب، ويجعل تذلُّلَه عليه غاية الوصول، حتى إذا طلعت شمس الحبيب، وجد الباب عين البواب”([16]).

وقال مستدلا على مجاهدة النفس والغيبة عن العوالم: ” فإن صَدَق فلا يجد أعدى من نفسه التي بين جنبيه، كما قال عليه السلام، فإن استجاب لله حقًا صدق في محاربة عدوه، ونصب له المجانيق والرّعّادات، وعض بالناب، وخدش بالظُّفر، وكلّ ما أمكن، وأقام نفسه عالما كليًا تغيب عنه العوالم كلها بشغله، عملاً بقوله تعالى: (فَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)([17])، وقال: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)([18])، وقال: (فَشُدُّوا الوَثَاقَ)([19])، وقال: (حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)([20])، أي حتى تنقاد نفسه إلى سلوك الطريق مع مناقضة الهوى، فحينئذ يدبّ ثم يمشي ثم يهرول، ثم يطير، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)([21]).”

وأشار إلى ذم ترفع المريد على الشيوخ ولو بلغ رتبتهم فقال: “فمن وُلد –أعني ولادة معنوية- على فراش الصنعة، فلابد أن يلعب بها في أوله، وهو من علامة النسبة، ثم يتعشقها حتى يجدّ فيها، وحتى يكون فيها ماهرًا كآبائه، أو أمهر منهم ثم لا يترفع، (لا ترفعوني فوق ابن متى) الحديث، فشر الناس من يرضى أن ينبت نبْت خضراء الدِّمن، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم)[22]، (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ؛ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)[23]“([24]).

ثم تراه يستدل في الحض على طلب الأدب بالمجاهدة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: “(رأيتُ جبريل عليه السلام تحت العرش كالحلس البالي من خوف الله)[25]، أليس هذا هو الجهادُ الأكبر، وهم معصومون، فكل مقام له أدب يخصه، والأدب جهادٌ، وله باطن، وهو أكبر محله، ولا يعرفه إلا أهله، وهو المعتنى به عند الإخوان،”([26])، ثم قال عن الأدب: “وله ظاهر يسمعه كل الناس –ولعله يعرفه كل الناس- وهو نقطة من أثر أدب الباطن، بشرط طهوره على طريق الحكمة، ويعنون بموت النفس: تذليلها لهذين الأدبين، ولا تزال الدَّابة تستوحش من الحمل مدة عمرها، ولولا علمها بقهر ربها لما قبِلته يومًا، ولو أُهملت زمنًا لما ألفته إلا بشدة، فبقدر العلم يكون القرب. وبحسب القرب يزيد الأدب، ثم بالأدبِ يتزايد القربُ”([27]).

وأما عن تعبير الواصلين عن تلك المعاني ومراتب تحققهم بها فتجده يقول: “ولا يرضى بغير الوصول إلا الجهول، فهذا المقام يُشَمّ ويُذاق، قلما يزيده الكلام إلا غموضًا، والكشف عنه علامات جهله، وتكون من أهله إشارات إليه، والبصير من الناس في هذا المعنى، كناظر من الماء الصافي، إلى نجوم السماء يريد الإحاطة، قال تعالى: (فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِب إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)[28]، وضعيف البصر كناظر في ماء متغير، ومن غلب عليه الرَّين كناظر من حمأ مسنون، بحسب تعلق الهمَّة بعالم الإحساس وفراغها، هذا وما ذكرت من أن النوم سبات، فالموت أسبت منه فبالموت يظهر هذا المعنى، لا أنه ينعدم به، فلذا يحبه المحب، (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)”([29]).

وذكَر الصدق فقال: “والصدق سيف لا ينبو، (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)”([30])، وذكر وجهة العارف فقال: “فللعارف وجهتان: وجهة بشرية (إن نحن إلا بشر مثلكم)، ووجهة ربانية، (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء)”([31]).

وقال عن اليقظة وأهلها، وتوجُّهِ الغافلين للفاني: “فلا تظن عين القلب نائمة، ولو في لمحة، إلا أن يقظة قلوب الأنبياء عليهم السلام، ليست كيقظة أحد، فبتوجه عين الغافلين إلى الفاني يقظة ومنامًا سموا موتى، لموت معتمدهم، ومحل نظرهم (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً)”([32]).

إلى آخر ما بينه في هذه الرسالة التي أجاب بها سيدي محمد بن عبد الرحمن الاكراري، وهذه النقول كافية في التأكُّد من المنحى الجمالي الذي يميز الكتابة الصوفية عند الشيخ التاموديزتي، بفضل الاستحضار الإشاري لنصوص الوحي في البناء العام للرسالة، وهو أمر يضعنا في صلب الدعوى التي أشرت إليها من كون الخطاب الصوفي متصلا بالنص الشرعي تعلقا وتحققا.

خاتمة:

إنّ شيوع دعوى ترك الدليل في تآليف الفقه المالكي مثلا، والمنتشرة بسبب تهافت غير المختصين في ميداني الفقه والأصول، بقي مستمرا في التطاول، لا على المدونات وآحاد النصوص الفقهية هنا أو هناك، بل على المذهبية الفقهية بمجملها، مالكية كانت أو شافعية أو حنفية أو غيرها.

وهي نفس الدعوى التي طالت علم التصوف بدرجات، يمكن أن نذكر هنا بعضها، لارتباطها بالاستدلال بنصوص الوحي الذي نحن بصدد بيانه في هذه المقالة، فهناك:

أولا: دعوى عدم موافقة الدليل للمسألة موضوع البحث، أي منازعة الصوفي في دليله الذي يحتج به لإثبات مذهبه في مسألة من مسائله.

ثانيا: دعوى غياب الدليل الخاص لمسألة على حدة، أي انتزاع الشرعية أصالة عن هذه المسألة، سواء كانت ضمن الوسائل أو الغايات.

ثالثا: دعوى خلو التصوف جملةً من الدليل الشرعي. أي نزعُ المشروعية من مسلك التصوف كله وتصنيفُه ضمن دائرة الدخيل على الشريعة.

وهذه الدعوى في مستوياتها المختلفة، راجعة عند التمعّن إلى ضيق دائرة التعامل مع الدليل أو العمل به؛ إذ لما كان الصوفية معتنقين لأشد مسالك العمل والمجاهدة والتربية، آخذين بالعزائم الشرعية، فقد ورثهم هذا العمل بالكتاب والسنة ثمرات في الفهم والسلوك والتخلق، فيفهمون الدليل حيث عجز غيرهم عن فهمه، بل يجدونه حيث فقده هذا الغير. ولا أدل على ذلك هنا من أن الشيخ التاموديزتي يستدل لقضايا تفصيليلة في السلوك بالإشارات القرآنية والحديثية، في وقت يتوقف فيه من لم يخض تجربة روحية عند حدود الغفلة عن هذه الإشارات أو منازعتها أو إنكارها.

يتبين من خلال رسالة الشيخ التاموديزتي أن الكتابة الصوفية تفتح أفق التعامل مع النصوص الشرعية باستحضار الشاهد القرآني والحديثي؛ إن طلبا للتعلق بألفاظها ومبانيها وما تحمله من إشارات، أو طلبا للتحقق بقيمها ومعانيها وما ترشد إليه من هاديات، وذلك يعين على تثوير النص الشرعي بما يحققه من تدبر في المعاني، ومن أعظم مداخل هذا التثوير فتوحات العمل الروحي.

المصادر والمراجع المعتمدة:

  • تجليات الاعتقاد والانتقاد في التصوف المغربي، قراءة في تجربة العلامة أحمد سكيرج، عبد الصمد غازي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر ط/2012.
  • التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، يوسف بن يحيى التادلي ابن الزيات، تحقيق أحمد التوفيق، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1/2014.
  • سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء 2011، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1/2012.
  • سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، ط1/2012.
  • سوس العالمة للمختار السوسي، مطبعة فضالة، المحمدية، سنة 1960.
  • قضية التصوف، المنقذ من الضلال عبد الحليم محمود الطبعة الخامسة، دار المعارف، 2003.
  • القول الأصولي المالكي ومناهج الحجاج، إدريس غازي بن محمد، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1/2012
  • المخطوط الأمازيغي في المجال السوسي، شرح منظومة تزناكت للحسن التاموديزتي، دراسة وتحقيق وتعريب محمد الهاطي. منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، طبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2015.
  • المعسول في الإلغيين وأساتدتهم وتلامذتهم وأصدقائهم السُّوسي ين للمختار السُّوسي طبعة الؤلف بدون تاريخ. المغرب.
  • مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر، أعمال الندوة العلمية الدولي التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء 2012، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة الرباط طبعة 2013.
  • مناهج الاستمداد من الوحي، أعمال أعمال الندوة العلمية الدولي التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء 2008، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1/2008.
  • الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، طبعة دار ابن عفان الطبعة: الطبعة الأولى1997.

([1]) المعسول (08/19) .

([2]) القيم بين النظر والعمل: كونية الاجتهاد الصوفي، مقال د عبد الصمد غازي، ضمن كتاب سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، تقديم د أحمد عبادي، تنسيق عبد السلام طويل، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء سنة 2011. (ص: 396).

([3]) المعسول، (06/19).

([4]) المصدر نفسه، (22/19).

([5]) المصدر نفسه، (07/19).

([6]) المصدر نفسه (07/19).

([7]) المصدر نفسه (08/19).

([8]) المصدر نفسه (20/19).

([9]) المصدر نفسه، (19/9).

([10]) المصدر نفسه، (21/19).

([11]) محمد بن عبد الرحمن بن ابراهيم بن محمد الإكراري، العالم الصوفي، أخذ عن الشيخ مسعود المعدري والشيخ محمد بن العربي الأدوزي، وأخذ طريقة التصوف عن اليخ الإلغي الدرقاوي، توفي سنة 1359هـ. انظر ترجمته في المعسول (13/405).

([12]) المعسول (13/418).

([13]) المصدر نفسه، (13/411).

([14]) الحجرات، الآية 13.

([15]) النجم، الآية 32.

([16]) المصدر نفسه، (13/412).

([17]) التوبية، الآية 5.

([18]) الأنفال، الآية 57.

([19]) محمد، الآية 4.

([20]) التوبة، الآية 29.

([21]) ابراهيم، الآية 20.

[22])) التوبة، الآية 55.

[23])) المنافقون، الآية 4.

([24]) المعسول، (13/412).

([25]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب من اسمه عبد الرحمن، عن جابر رضي الله عنه. (5/64).

([26]) المعسول،  13/414

([27]) المصدر نفسه،  13/414

([28]) الملك، الآيتين 3 و 4.

([29]) البقرة، الآية 153

([30]) محمد، الآية 22.

([31]) آل عمران، الآية 73.

([32]) النور، الآية 38.

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق