مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

مَجالِسُ «المُزْهِر» : المجلس الثاني( تابع )

[  أَصْلُ اللغة مِنَ الأَصْوات ]:

       قَوْلُهُ:« وَذَهَبَ بَعْضُهُم»؛ إلخ. هَذا كَالفَضائِلِ لِقَوْلِهِ أَوَّلَ الكَلام لأنّهُما كَمُبْتَكِرَانِ شَيْئاً لا عَهْدَ لِأَحَدٍ بِهِ بِخِلافِهِ عَلى هَذا، فَإنّ غايةَ الأمْرِ أنّهُما نَطَقا الحروفَ المسْموعَةَ وَصَيَّراها دالَّةً عَلى المعاني.

    قَوْلُهُ:« وَشَحيج»؛ إلخ. في “اللسان”:« الشَّحيجُ وَ الشّجاحُ، بِالضَّمّ: صَوْتُ البَغْلِ، وبَعْضُ أصْواتِ الحمِيرِ. وَقالَ ابْنُ سِيدَه: هُوَ صَوْتُ البَغْل وَالحِمار.«

   قَوْلُهُ:« وَنَزيب»: نَزَبَ الظّبْيُ يَنْزِبُ، بِالكَسْرِ: نَزَباً كَضَرَبَ، وَنَزيباً كَأَمير، وَنُزاباً كَغُراب: صَوَّتَ. وَقيلَ: النَّزيبُ خاصٌّ بالذُّكورِ، وَذَلِكَ عِنْدَ السّفادِ، وَهُوَ الصّحيحُ الّذي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الجوْهَرِيّ؛ قالَهُ في” التاج”.

    قَوْلُهُ:« وَفُرِقَ»، أي كُشِفَ، وَهُوَ بِالتَّحْقيق مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهولِ، وَخُلاصَةُ هَذا أنّهُ مُتَوَقِّفٌ، وَهُوَ رَأي المحقّقينَ.

يقول عبد العالي سالم مكرم:« وابن جني بعد هذا التفكير المبدع، والدليل المقنع في اصطلاحية اللغة، وأنها ليست وحيا، راجع نفسه أخيرا بعد طول بحث، وكثرة تنقير، فرآى أن الذين يقولون بالتوقيف أقرب إلى الصواب من قوله، وأدنى إلى الحق من رأيه، فقال:‏

» وأعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي، مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري، وذلك أنني إذا تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة، والدِّقَّة، والإرهاف، والرِّقَّة، ما يملك عليَّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ؛ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا -رحمهم اللّه- ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم، فعرفت – بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده – صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه، ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به، وفُرِق لهم عنه، وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة، بأنها من عند اللّه تعالى، فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفاً من اللّه سبحانه، وأنها وحيٌ.

 ثم أَقول في ضد هذا‏:‏ إنه كما وقع لأصحابنا ولنا، وتَنَبَّهوا وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة؛ كذلك لا ننكر أن يكونَ اللّه تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا – وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا- مَنْ كان ألطفَ منا أذهاناً، وأسْرَعَ خَوَاطِرَ، وأجراً جناناً، فأقف بين الخلَّتين حسيراً، وأُكاثرهما فأَنْكَفئ مكثوراً، وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها قلنا به». هذا كله كلامُ ابن جني«.[ جلال الدين السيوطي وأثره في الدراسات اللغوية، ص:345].

[ احتجاج القائلين بالتوقيف]:

     واحتجّ القائلون بالتوقيف [وهو الأشعري بالمنقول من ثلاثة أوجه]:‏

       أولها – قوله تعالى‏:‏ ‏﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ‏﴾.‏ فالأسماء كلها معلّمة من عند اللّه بالنَّص، وكذا الأفعالُ والحروف، لعَدم القائل بالفَصْل [ الفرق]، ولأن الأفعال والحروف أيضاً أسماء؛ لأن الاسم ما كان علامةً، والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة [وعرفهم] لا منَ اللغة؛ ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذّر.

      وثانيها – أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قوماً في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفيّة في قوله تعالى‏:‏﴿إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ‏﴾.‏ وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية‏.‏

     وثالثها – قوله تعالى‏:‏﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ‏﴾. والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها، ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ، فالمراد هي اللغات‏.‏

     و رابعها – وهو عقليّ -: لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاَحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ [ ألفاظ] أو كتابةٍ، ويعودُ إليه الكلامُ، ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع؛ وهو محال، فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف‏«.

[ احتجاج القائلين بالاصطلاح]‏:

      واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين‏:

‏      أحدهما [ نقلي] : لو كانت اللغاتُ توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف، والتقدّمُ باطلٌ. وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفيةً فلا بدَّ من واسطة بين اللّه والبشر، وهو النبيُّ، لاسْتِحالة خطابِ اللّه تعالى مع كلِّ أحد.

 و بيانُ بُطْلاَن التَّقَدُّم قوله تعالى‏:‏ ‏﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ‏﴾،‏ وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة‏.‏

     والثاني: لو كانت اللغاتُ توقيفيةً، فذلك إما بأن يَخْلُق اللّه تعالى عِلماً ضروريّاً في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا؛ أو في غير العاقل أو بألاَّ يخلقَ علماً ضرورياً أصلاً؛ والأولُ باطلٌ؛ وإلاّ لكان العاقلُ عالماً باللّه بالضرورة؛ لأنه إذا كان عالماً بالضرورة بكَوْن اللّهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه باللّه ضروريّاً، ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ.

      و الثاني باطلٌ؛ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ.

       و الثالثُ باطل؛ لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضرورياً احتيج إلى توقيفٍ آخر، ولَزِم التسلسل‏.‏

و الجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف‏:‏ لِمَ لاَ يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها. و لا يقالُ‏:‏ التعليمُ إيجادُ العلم؛ فإنا لا نُسَلِّم ذلك، بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم، ولأجله يُقال: علَّمْتُه فلم يتعلَّم‏.‏

سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم، لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ للّه تعالى؛ فعلى هذا‏:‏ العلمُ الحاصل بها مُوجَد للّه‏.‏

سلَّمناه، لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو، والجمال للحَمْل، والثيران للحَرْث؛ فَلِمَ قلتُم‏:‏ إن المراد ليس ذلك؟ وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد.

 سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ، ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبل آدمَ وعلَّمها اللّه آدم.

 وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم، لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة و اعتقدوها كذلك‏.‏

وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة، وهي غيرُ مرادة بالاتفاق، والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر، نحو مخارج الحروف، أو القدرة عليها؛ فلم يثبت التَّرجيح‏.‏

وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر، بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة‏.‏

والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ‏:‏ لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة، لجوازِ أن يخلق اللّه فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا‏.‏

وعن الثانية‏:‏ لِمَ لا يجوز أن يخلق اللّه العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعاً وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني؛ وعلى هذا لا يكونُ العلم باللّه ضرورياً.

سلَّمناه؛ لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء؟

 قوله‏:‏ لَبَطَلَ التكليف قُلْنا‏:‏ بالمعرفة. أمَّا بسائر التكاليف فلا‏؛ انتهى».[ بتصرف عن “بغية المبصر في إيضاح المزهر”].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق