وحدة الإحياءدراسات محكمة

موقع المقاصد الشرعية في المنهجين الفهمي والتطبيقي عند الأصوليين

المقصود من خطاب الشارع فهم معانيه دون مجرد ألفاظه لتنزيل أفعال المكلفين حسب تلك المعاني، لكن هذا المقصود له اعتبار من جهة المعقول الذهني ومن جهة المعقول الخارجي، وذلك “أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمة، وهذا هو الاعتبار العقلي، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة أو غير لازمة وهو الاعتبار الخارجي”[1].

وهذان الاعتباران يتصوران في سائر العبادات والعادات، وإن كان انصراف المعنى لجهة المعقول الذهني أو المعقول الخارجي مجال نظر محتمل للخلاف[2] فإن المقصود هو اعتبارهما على أساس أن نعرض أحدهما على الآخر انطلاقا من خصوصيتهما، إذ المعقول الذهني يستوفي الشروط والأركان التي بها يعتبر الفعل صحيحا شرعا، كما أن المعقول الخارجي ينظر فيه إلى ما يلابس الفعل من الصفات الخارجية. فالوقوف على أحدهما قد يخلق خللا في التنزيل وخلافا زائدا لا يقف على مراعاة ما يترتب على ذلك الفعل من المحافظة على مقصود الشرع. وظني أن انبناء كل دليل شرعي على “مقدمتين إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي”[3] من شأنه الجمع بين مراعاة الجانب الذهني والخارجي من فعل المكلف وعدم إبقاء الضابط هو مجرد صدق الحقيقة الذهنية باستيضاء أركانها وشروطها بل لابد من إضافة الملابسات والاقترانات التي تحف به، وهذا ما حاول ابن القيم تجليته في اشتراطه على المفتي والحاكم من الفتوى والحكم أن يتمكنا من نوعين من الفهم “أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط حقيقة ما وقع بالقرائن الإمارات والعلامات حتى يحيط به علما، و النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”[4]، وهو ما يستخلص منه معيار للنظر في النص الشرعي يجمع بين شقين متلازمين فهمي وتطبيقي، إذ فهم الواجب في الواقع هو فهم للنص وتدبر فيه مبني على اعتبار للنقل والعقل، لأن الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر العقلي كما أن النظر العقلي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل. وفهم الواقع هو فهم لتخصصات الفعل الذي يراد تنزيل المعقول الذهني المتعلق به، وما دام هذا المعقول كليا فإنه لا يتعين حتى يتخصص ولا يتخصص حتى يتشخص ولا يتشخص حتى يمتاز عن غيره من التشخصات بأمور أخر مما يدفع للتمييز بين مرحلتين متكاملتين “مرحلة الفهم للحكم الشرعي فهما مجردا حتى يدرك المراد الإلهي فيما ينبغي أن يقع وما ينبغي أن لا يقع، بناء على ما فيه مصلحة للإنسان، ومرحلة التنزيل لذلك الحكم المدرك بالنظر إلى واقع السلوك ليصبح جاريا بحسبه في الإيجاب والإباحة والمنع حتى تتحقق المصلحة بالفعل وتنعم الحياة بالخير[5].

وإذا تأكد تلازم مرحلتي الفهم والتطبيق فإن منهجيهما يختلفان اختلافا يقتضيه الاختلاف في الطبيعة بين الفهم العقلي وبين التطبيق الواقعي، حيث إن الأول متلصق بالنص الشرعي يستنطقه ويسائله على اعتبار أن لكل فعل إنساني حكما شرعيا لازما كما أن الثاني مرتبط بالواقع من حيث هو خارج تتشخص فيه الأفعال وتتحقق الوقائع حسب سياقات تعرف بها كيفية مطابقة الأحكام الشرعية لمقتضيات الأحوال حتى تكون وفق المقصود لها من إثبات العبودية لله الأحد وما تثمره من رحمة للعالمين. وإن كان سياق البحث لا يسمح ببيان ما عرفه تاريخيا هذان المنهجان كل على حدة من نشوء وتطور وعناية من لدن الأصوليين فإنه تكفي الإشارة إلى أنهما ظهرا مع نزول الآيات في ارتباطها بأسبابها ومع البيان النبوي وتقريره للأحكام ثم تطورا جنبا إلى جنب مع الفكر الأصولي مع ملاحظة استغراق جهد الأصوليين في تقعيد المنهج الفهمي وضبط أصوله وفروعه قياسا مع قلة التوسع من لدنهم في المنهج التطبيقي الذي كانوا يتعرضون له عرضا في دراستهم للمنهج الفهمي.

أ. المنهج الفهمي؛ هو نسق من القواعد البيانية التفسيرية والتأويلية التي يستخلص بها الحكم الشرعي، ويستمد مضمونه من المنطق اللغوي والمنطق التشريعي، لأن النص الشرعي ليس نصا لغويا فحسب بل ما هو يمثل بالقصد الأول إرادة الشارع. وبهذا تجمعت في المنهج الفهمي قواعد علمية مشتقة من منطق اللغة ومن منطق التشريع، فشكلت منهجا فريدا في الفهم إذ كل “من المنهج اللغوي المحض والمنهج العقلي المحض، لا يتفق مع طبيعة التشريع بما هو نصوص ودلالات وإرادة وروح ومقاصد”[6]. أما المنطق اللغوي فهو المعيار الذي يتميز به صحيح المعنى من سقيمه المرتكز على معرفة “سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها”[7] وذلك أن النص الشرعي جيء بلسان العرب “على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، كل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ المشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمى بالاسم الواحد المعاني الكثيرة[8] وعلى هذا لا يصح العدول في فهم النص الشرعي عما كان للعرب في لسانهم من عرف مستمر جار في المعاني والألفاظ والأساليب.

واهتمام الأصوليين بالدلالات اللغوية على اختلاف تنوعها لم يكن مقصودا لذاته وإنما “لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه، وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية”[9] فالأصوليون يستثمرون النص الشرعي في كافة دلالاته الوضعية والعقلية من حيث المطابقة والتضمن والالتزام حتى يصلوا إلى مقصوده الذي به يهتمون وحوله يجتهدون.

أما المنطق التشريعي فهو المعيار الذي تقوم عليه معرفة أسرار الشريعة وروحها التي تسري في جميع جزئياتها على اعتبار أن التشريع “بما هو إرادة غايتها المصلحة وإن اتخذت من الأحكام تعبيرا عن تلك الإرادة ووسيلة مفضية إلى المصالح المعينة فإن منطق اللغة يجب أن يكيف على أساس ما يحدده الاجتهاد المتحري لتلك الإرادة وما تستهدفه من غرض”[10] فاللغة خادمة لقصد الشارع ابتداء أي القصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى ويكون ما عداه كأنه تفصيل له، وهو أن الشريعة وضعت لمصالح العباد في الدارين وذلك أن الشريعة “مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه…”[11] ولذلك كان المطلوب من المكلف أن يجري في أفعاله على مراعاة تلك المصالح وأن لا يقصد خلاف ما قصده الشارع لأن “قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع”[12] إذ أن “كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل”[13].

وموقع المقاصد الشرعية في المنهج الفهمي يبرز من خلال أثرها في المنطق اللغوي والمنطق التشريعي.

ففي المنطق اللغوي تكتسي أهمية بالغة في التمكين من إدراك روح النص ومعقوله للخروج عن مقتضيات الأحوال من الوقوف عند المعنى الحرفي، كذلك تبرز أهميتها في حل عديد من الإشكالات التأويلية التي يفترضها احتمال اللغة أو وجود تعارض في ظاهر النص، ولذا يعتبر الاستنباط الفقهي غير المراعي للمقاصد الشرعية فقها بلا روح وفقها جامدا.

ويبرز موقعها في المنطق التشريعي من خلال تأسيسه على فهم مقاصد الشريعة من حيث كونها أحكاما تنطوي على مقاصد ومقاصد تنطوي على أحكام، فكونها أحكاما تنطوي على مقاصد من انبنائها على اعتبار المصالح والتي تعتبر بدورها من حيث وضعها الشارع لا من حيث إدراك المكلف لها. كما أن كونها مقاصد تنطوي على أحكام من شأنه أن يعين على التقعيد والضبط لاختلاف المصالح حسب النسب والإضافات المتعلقة بفعل المكلف، فيتعين الترجيح بين المصالح والمصالح، والمصالح والمفاسد والمفاسد والمفاسد.

وزيادة في إيضاح موقع المقاصد الشرعية في المنهج الفهمي نذكر حاجة الفقيه إليها أثناء تعامله مع النص الشرعي كما نبه على ذلك الطاهر بن عاشور في أنحاء خمسة[14]:

الأول؛ فهم أقوال الشريعة واستفادة مدلولات تلك الأقوال بحسب الاستعمال اللغوي وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي.

الثاني؛ البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولها ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل دلالتها ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله وإذا ألفى له معارضا نظر في كيفية العمل بالدليلين معا أو رجحان أحدهما على الآخر.

الثالث؛ قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طريق مسالك العلة.

الرابع؛ إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة ولا له نظير يقاس عليه.

الخامس؛ تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعاتها فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة فيسمى هذا النوع بالتعبدي.

وقد حاول الطاهر بن عاشور تفصيل احتياج الفقيه للمقاصد في هذه الأنحاء الخمسة[15] لكنه لم يستوعب وأرى بأن احتياج الفقيه إليها احتياج أكثر وأوسع مما ذكره حيث إن المقاصد الشرعية ليست مجرد تعليل أصولي للأحكام الشرعية وإنما هي معالم لاختيارات حضارية ومجتمعية تتفاعل مع الممارسة التشريعية الفقهية، ومن ثم فإن كل مكلف بحاجة إليها وليس الفقيه وحده.

ب. المنهج التطبيقي؛ هو مجموع القواعد العملية الإجرائية التي يتوصل بها إلى تطبيق الحكم الشرعي في الواقع، ويستمد مضمونه من حيث إن فهم النص الشرعي يبقى تجريديا أو عاما ما لم يتنزل في واقع المكلف ويتشخص فيه “إذ تطبيق الأحكام يعني تكييف الواقع الإنساني في مختلف شعابه بحسب ما تقتضيه تلك الأحكام من فرض وإباحة ومنع حتى يتم التطابق بينهما تطابقا يحقق خير الإنسان”[16]، فالأحكام إذا ما بقيت حبيسة الذهن ولو في أعلى صورة لها من الصحة فإنها لا تغني شيئا لا في ميزان العبادة ولا في ميزان الخير والسعادة، فكان التطبيق يتعلق بالثمرات الواقعية والآثار العملية في حياة المكلفين فهو غاية التكليف وثمرته لأن حصول المصلحة يتوقف عليه.

وإذا كان الفهم سعيا عقليا مجردا فإن التطبيق سعي عملي مشخص لأنه تعامل عملي مع معطيات واقعية مشخصة بالزمان والمكان والتكييف، وهكذا فالمنهج التطبيقي يضبط كيفية التطبيق مع مراعاة المقاصد الشرعية المناسبة لذلك الفعل من حيث إن تطبيق الأحكام غايته تحقيق مصالح ودفع مفاسد.

ويمكن ملاحظة المنهج التطبيقي وموقع المقاصد الشرعية فيه في المسائل التالية:

1. الامتثال للأمر الإلهي

الأمر الإلهي مقصوده التطبيق والوقوع لأن “معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا”[17]، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع وكذلك النهي معلوم أنه مقتضى لنفي الفعل أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له وإيقاعه مخالف لمقصوده.

وإذا كان الأمر يقتضي التطبيق فإن المكلف يتحتم عليه لزوما أن تنحصر اعتبارات التزامه بالتطبيق في الخضوع لما يقتضيه الأمر، وقد صنف الشاطبي اعتبارات المكلف في التزامه إذا علم قصد المصلحة فيها على ثلاثة أحوال[18]: أحدهما؛ أن يقصد بها ما فهم من قصد الشارع في شرعها، ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد إذ ليست بعقلية، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد. فإذا اعتبر صار أمكن في التحقيق بالعبودية وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف.

الثاني؛ أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما أطلع عليه أو لم يطلع عليه، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد والقصد إليه في التعبد فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة، غافلا عن امتثال الأمر فيشبه من عملها من غير ورود أمر.

الثالث: أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبيا، إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر، وأيضا فإنه لما امتثل الأمر فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل، فصار مؤتمرا في تلبيته لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض. أما كونه أسلم فلأن العمل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد.

2. تحقيق مناط الحكم الشرعي

لقد عرف تحقيق المناط عند الأصوليين من سياق معرفة كيفية الجمع بين الأصل والفرع في القياس، فلما يكون الجمع بإلغاء الفارق فهو تنقيح المناط، ولما يكون باستخراج الجامع في الأصل فهو تخريج المناط. ولما يتم بيان وجود ذلك الجامع في الفرع فهو تحقيق المناط، ولذا نجد الآمدي  يعرفه بأنه “النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها”[19]؛ بمعنى كونه عملا لتعدية الحكم المعلل إلى صور  تثبت فيها علة ذلك الحكم. لكننا في تعريف الشاطبي له بأنه “أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله”[20] نلمس إرادة توسيع المفهوم والخروج به من الارتباط الصارم بالقياس الجزئي إلى القياس الكلي المعتمد على” مراعاة المقاصد الشرعية وذلك بالنظر في تطبيق الحكم على الجزئيات والحوادث الخارجية سواء أكان نفس الحكم ثابتا بنص أو إجماع أو قياس، لأن “الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل[21].فتحقيق المناط اجتهاد في فهم الواقع وتنزيل الأحكام فيه إذ “لو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة و إنما  تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد”[22]، هذا ما يبين أن اجتهاد تحقيق المناط والحكم الشرعي متلازمان في أي دليل شرعي باعتباره ينظر للمكلفين من جهة ما هم فاعلون، ولذا فالحكم مطلقا أو مقيدا لا يتنزل في محله إلا على ما تحقق أنه مناط ذلك الحكم على “الإطلاق أو التقييد”.

وتحقيق المناط في تعيين الحكم الشرعي في محله يتضمن تعيين المقصد الشرعي في محله لأن الأحكام لم تشرع لذاتها وإنما شرعت لمصالح معينة وكيفية تعيين المقصد الشرعي تتم بالتحقيق في أنواع الأفعال وأجناسها بالتمييز في التشخص والتعيين بين ما هو داخل في نوع الحكم أو في جنسه وذلك لكي لا تتضارب الجزئيات والكليات والتي من المفروض اعتبار بعضها مع بعض “إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجية، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة، قد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه وكون جزئي من جزئياته منعه مانع من جريات حقيقة الكلي فيه أمر خارج”[23].

أما فيما يخص فهم المصالح والمفاسد فإنه مبني على أن “المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه إنه مصلحة وإذا غلبت فيه جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة”[24].

والحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال أمرا ونهيا بحسب ما غلب فيها من المصلحة والمفسدة “فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على أقوم طريق وأهدى سبيل وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية من الدنيا فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه، وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوده الإمكان العادي في مثلها حسبما يشهد  له كل عقل سليم، فإن تبعها مصلحة أو لذة فليست المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر[25]، وهكذا تتضح أهمية تحقيق المناط في المنهج التطبيقي فلو وقعت الغفلة عنه لأجريت الأحكام على سائر الأفعال بحسب تشابهها الظاهري وحينئذ يوجه كثير منها إلى حيث لا ينبغي أن يوجه من الإباحة والمنع والإيجاب فيلحق ذلك الضرر بالأفراد والجماعات.

3. النظر في مآلات الأفعال

إذا كان اجتهاد تحقيق المناط في المنهج التطبيقي يعمل على وضع الحكم الشرعي بمقصده في محله الذي يناسبه، فإن هذه المناسبة لا تتم على أكمل وجه إلا إذا نظر في مآل الفعل حين إجراء حكمه عليه وذلك بمراعاة الظروف والملابسات التي تحيط بذلك الفعل، حيث إذا لم تراع هذه القرائن المحتفة به قد يحصل من تطبيق ذلك الحكم ضرر من حيث كان المقصود هو المصلحة، لأنه قد يكون العمل في الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة ومن هنا فإن “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة”[26]، وقد كان النظر في المآلات صعب المورد لأنه اجتهاد يتطلب فهما دقيقا بالواقع التطبيقي للأفعال إذ لا يكفي الوقوف عند ظاهر الأمر للحكم بمشروعية الفعل أو عدم مشروعيته في جميع الحالات وكل الظروف، لأن النظر في المآلات ينبني على أن الأفعال تشرع لما يترتب عليها من المصالح وتمنع لما تؤدي إليه من المفاسد.

فالمجتهد لكي يحكم بمشروعية فعل من الأفعال فعليه التوصل إلى معرفة المصلحة التي من أجلها شرع ذلك الفعل وأنه محقق للمصلحة التي قصد به تحقيقها، حتى إذا كانت بعض القرائن مانعة من تحصيل تلك المصلحة أو مفوتة لمصلحة أهم أو مؤدية إلى حدوث ضرر كبير منع ذلك الفعل، وكذلك لكي يحكم بعدم مشروعية فعل من الأفعال فعليه التوصل إلى معرفة المفسدة التي يؤدي إليها ذلك الفعل فيحكم بمنعه طالما كان المنع منه لا يؤدي إلى حدوث مفسدة تساوي أو تزيد، أما إذا كانت هناك بعض القرائن المؤدية إلى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد لا يمنع الفعل.

وأصالة النظر في المآلات تظهر في القواعد التطبيقية التي تنبني عليه وهي كما ذكرها الشاطبي[27]؛ قاعدة الذرائع، قاعدة الحيل، قاعدة مراعاة الخلاف، قاعدة الإقدام على جلب المصالح الضرورية أو الحاجية أو التكميلية وإن اكتنفتها أمور لا ترضي شرعا.

وإذا كان المجال لا يسمح بتفصيل بيان انبناء هذه القواعد كلها على أصل النظر في المآلات فإنه تكفي الإشارة إلى أن هذه القواعد تجعل منه معيارا واقعيا لا يترك فوات مصلحة  أهم أو يغفل حدوث مفسدة أعظم لكي لا يدخل على المكلفين الحرج والمشقة التي قصد الشارع رفعها، ويمكن ملاحظة ذلك ولو بشكل مختصر في قاعدة الذرائع، فقد عرفها القرافي بقوله: “سد الذرائع ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور”[28]، كما يعرفها الشاطبي بأنها” التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة”[29] فالذرائع وسائل، والمقاصد لا يتوصل إليها إلا بوسائلها ووسائلها تابعة لها معتبرة بها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، وإذا كانت الذريعة وسيلة فإنها كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح إذ “موارد الأحكام على قسمين مقاصد وهي المتضمنة للمصالح أو المفاسد في أنفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة[30]. والذريعة ينبغي سدها إذا كان الفعل الجائز لما فيه من المصلحة يؤدي غالبا إلى مفسدة تساوي مصلحة هذا الفعل أو تزيد إذ لا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد.

وهكذا نخلص إلى أن المقاصد الشرعية باعتبارها الغايات المصلحية التي جاءت الشريعة لتحقيقها في أفعال المكلفين بالجلب أو الدفع، لها موقع أصيل في المنهجين الفهمي والتطبيقي وذلك بجعلهما أكثر إنجازية فيما يتعلق بفهم النص وفهم الواقع والربط بينهما حتى لا يتناول أحدهما في غياب الآخر دون الإغراق في أحدهما مع التمييز بين نوع الأحكام التي يؤثر فيها الواقع والتي لا يؤثر فيها.

إن تآزر المنهج الفهمي والتطبيقي يكمن في التطبيق الصحيح لفهم النص على الواقع والترشيد القويم بالنص بعد فهم الواقع وتحليل مصادره التي تجيش فيه من جميع النواحي الممكنة لكي تتم محاولة النظر في المآلات والموازنة بين المصالح والمصالح والمفاسد عند وجود القرائن الداعية لذلك.

والإتقان في ضبط المنهجين من طرف علماء الأمة من شأنه أن يرفع كثيرا من الحرج في تطبيقات أحكام شرعية عديدة وأن يجعل عملية الاجتهاد عملية متجددة.

الهوامش

  1. الشاطبي، الموافقات، ضبط: عبد الله دراز، بيروت: دار المعرفة، د. ت. ط،  3/34.
  2. نفسه، 3/35.
  3. نفسه، 3/43.
  4. ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين، دار الجيل، د. ط، 1/87.
  5. عبد المجيد النجار، في المنهج التطبيقي للشريعة الإسلامية، جامعة الإمارات العربية المتحدة، ص9.
  6. فتحي الدريني، المناهج الأصولية، الشركة المتحدة للتوزيع، ط2، (1985م/1405ﻫ)، ص30.
  7. الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، دار الفكر، 1309ﻫ،  ص50.
  8. نفسه، ص52.
  9. الآمدي، الإحكام، تحقيق: سيد الجميلي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2 (1406ﻫ/1986م)، 1/24.
  10. المناهج الأصولية، م، س، ص28.
  11. أعلام الموقعين، م، س، 3/3.
  12. الموافقات، م، س، 2/231.
  13. نفسه، 2/233.
  14. الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، الشركة التونسية للتوزيع، د. ت، د. ط،ص15.
  15. نفسه، ص15-17.
  16. في المنهج التطبيقي، م، س، ص15.
  17. الموافقات، م، س، 3/122.
  18. نفسه، 2/273- 274.
  19. الإحكام في أصول الأحكام، م، س، 3/335.
  20. الموافقات، م، س، 4/90.
  21. نفسه، 4/92.
  22. نفسه، 4/93.
  23. نفسه، 3/13.
  24. نفسه، 2/26.
  25. نفسه، 2/27.
  26. نفسه، 4/194.
  27. نفسه، 4/198.
  28. القرافي، الفروق، دار المعرفة د. ت، د. ط، 3/32.
  29. الموافقات، م، س، 4/199.
  30. القرافي، الفروق، م، س، 2/33.
Science
الوسوم

د. عبد الرحمن العضراوي

• أستاذ مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال.
• رئيس مسلك الدراسات الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• رئيس مختبر مقاصد الوحي والحوار الحضاري، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال.
• عضو فاعل بعدة جمعيات مدنية ببني ملال.
• شارك في العديد من الندوات الفكرية والعلمية داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق