
الحمد لله الذي خلق فسوى بقدرته، وقدر فهدى بمقتضى حكمته ورحمته، واصطفى بفضله أوقاتا وأمكنة وأجناسا على أوقات وأماكن وأجناس وأنواع، وأمد الأفضل والفاضل والمفضول بمدده، واختص لواسع علمه آدم وذريته خليفة على أرضه، وأمدهم بالإرادة ووسائل الإدراك السمع والبصر والأفئدة لعلهم يتقون، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه لعلهم يشكرون، وأتم نعمته عليهم بوحي السماء وخبر الأنبياء لعلهم يذكرون، وأسبل المنة بالرحمة المهداة خاتمة الأنبياء والرسل لعلهم يرشدون، والصلاة والسلام على المزكى في الأرض والسماء، والمطهر من كل الأدواء، وعلى الآل والصحب والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فإن الله هو الغني ونحن الفقراء ﴿ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين﴾ فما شرعه ربنا في كتبه، وما نرى من مواسم الخير كلها: رمضان والجمع والأعياد، والحج والعمر، وسواها من شعائر الدين وأحكامه إنما هو لتزكية الإنسان، وبناء شخصيته، التي لا يستطيع بناءها على الوجه الأمثل، والمنهج الأرضى إلا بارئُها ومولاها، وما سوى ذلك من نظريات قلقة، وأطروحات مضطربة فتشويش على المنهج الرباني في بناء الإنسان وتزكيته ﴿ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسويك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك﴾ ذلك أن الكائن البشري من بين سائر الكائنات والموجودات مركب تركيبا عجيبا، ومصنوع صنعا غريبا، مؤهل لإعمار الدارين، وصالح للعالمين: الدنيا والآخرة؛ إذ عالم الأحياء على أنواع ثلاثة: نوع لدار الدنيا خاصة وهي الحيوان، وآخر للدار الآخرة وذلك الملأ الأعلى، والثالث لهما معا وهو الإنسان، فهو واسطة بين جوهرين وضيع وهو الحيوان، ورفيع وهو الملائكة، فجمع الله فيه القوتين، وأمده سبحانه بالخصلتين ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون﴾
ومن هنا ندرك أن كل النظريات التي تركز على الجانب الوضيع في الإنسان، والشق المادي في البشر مهملة جزأه الرفيع، هي نظريات غير مكتملة، وتحليلات غير دقيقة، تزيغ بالكائن البشري عن غايته في الوجود، ومهمته على هذه الأرض، على أنها خطأ محض شكلا وموضوعا، وكذلك من أراده للآخرة دون الدنيا فقد أهمل شق العمارة والإعمار، والخلافة والاستخلاف، والأمانة والاستئمان
إنه كائن دنيوي وأخروي فينبغي أن تُراعى فيه المهمتان، وتُلحظ فيه الخصلتان، تماما كما قال آل قارون لقارون ﴿وابتغ فيما ءاتـيك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ وكما قال عبد الله بن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»
وذلك ما يعمل عليه الدين الحنيف في العبادات والمعاملات والسلوك والقيم: تعاليم شرعية تأخذ بالإنسان إلى التوازن والاتزان، والمزاوجة بين الدارين الدنيا والآخرة، تعاليم ترى فيه أنه كائن له قابلية واستعداد هائل ليكون ماديا محضا، كما له ذات الاستعداد في الاتجاه المقابل، فتأخذ به إلى الوسط بينهما دون إفراط أو تفريط؛ كيما تحد من قابليته للمادية المحضة التي تنعدم فيها القيم، وتضمحل فيها الأخلاق، وتهدم فيها الحدود، وتنكسر فيها الحواجز، فينطلق الإنسان المادي كالأسد في غابته لاضوابط أو زواجر له، وذلك ما يخبرنا به القرءان إذ يحدثنا عن نوازع الإنسان الخطيرة والفتاكة التي تعرض له في هذه الحياة من خلال مرضين اثنين وعلتين أساسيتين: مرض الشبهات ومرض الشهوات:
فالأول داء يعرض للقلوب فيعمرها شكوكا لانهاية لها: شكوك في الخلق وخالقه، في الوجود وغايته، في الإنسان ومهمته، في الوحي وتشريعه، في النبوات وتعاليمها، ولا يزال به المرض حتى يرتاب في التاريخ وأحداثه، والدول وثقافتها، والأمم وحضارتها، فيهوي به المرض حثيثا في مستنقع العدمية والإنكار، ويغرقه في الكآبة والأرق، والحيرة والاضطراب، والسوداوية والظلام، قال تعالى: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا﴾
أما الثاني فمرض الشهوة الذي يمرغ صاحبه في التراب، ويدفنه في أوحال المادة، من خلال الشره التام، واللهث المبالغ فيه حول المأكل والمشرب، المسكن والملبس، المركب والمنكح، المال والبنين، التملك والاستيلاء، وسواها من شهوات الحياة وملذاتها، التي لا تزال به حتى ترمي به في أحضان الموبقات والإدمان، المؤدي إلى تفكك أسري ومجتمعي، وفساد أخلاقي قيمي، وتوحش ثقافي حضاري، وفساد كوني بيئي، قال تعالى:﴿وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾ على أن الشهوات لابد منها لبقاء النوع الإنساني، وغاية إعمار الأرض والاستخلاف فيها، لكنما المعيب أن يصير ذلك مرضا فتاكا يعصف بأموال الناس وأعراضهم ودمائهم.
وقد أشار القرءان الكريم إلى شيء من هذه الأعراض فقال سبحانه: ﴿وكان الإنسان عجولا﴾ ﴿وكان الإنسان كفورا﴾، ﴿وكان الإنسان قتورا﴾، ﴿وكان الإنسان أكثر شيء جدلا﴾، ﴿إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين﴾ ﴿إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد﴾، فهو كما وصف القرءان قد يصير ختارا غدارا، مكارا ظلاما، كذابا خوانا، له قابلية للطغيان والفساد كما قال سبحانه: ﴿إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى﴾
إنه تشخيص قرءاني دقيق للأعراض التي يمكن تلخيصها في كلمة واحدة هي "الهوى" المفضية إلى الفساد والإفساد، مصداقا لقوله تعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن﴾ قال العلماء: «لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشَرَعَ الأمور على وفق ذلك ﴿لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن﴾ لفساد أهوائهم واختلافها»
إن الخير أصيل في الأنسان، أما الشر فدخيل عارض يعرض من خلال الشهوات والشبهات؛ ولذلك كان علاجه بالقرءان من خلال عنصرين هامين:
الأول: الإيمان القوي اليقيني، المضاد الحيوي لكل أعراض الشكوك في الوجود وموجده، والدين وغايته، والإنسان ومهمته، والكون ومكونه، والنبوات ورسالاتها، وفي حديث جبريل: ما الإيمان؟ قال: ﴿أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره﴾ أركان ستة لها علاقة وطيدة بالوجود والنظر فيه، ومن خلالها يعيش الإنسان الراحة النفسية، والهناء الفكري، والانتماء الوجودي، وتمام الرضى عن الذات والمجتمع والوجود، تماما كقول نبي الله عليه السلام: ﴿اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك﴾، وبه يصير منسجما مع الكون ومحيطه الساجد لله المسبح بحمده، قال تعالى: ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب﴾ حق عليه العذاب الفكري والنفسي، والعاطفي والمادي؛ لأنه نشاز عن الكون برمته، وشاذ عن الخلق وخالقه.
والثاني: العمل الصالح، وهو المضمار الفسيح، والعمل الواسع الذي يملأ فراغ الفرد والمجتمع في كل ما هو خير، شاملا كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، السياسية والقانونية، الصحية والتربوية، وسواها من المجالات التي ينبغي أن تعمر بالخير، وتملأ بالصلاح؛ وفي ذلك سعادة للفرد والمجتمع، ونماء للأمم والأوطان، وصناعة للحضارة؛ ليأتي الترغيب في الجنة والترهيب من النار حافزا قويا على امتثال كل خير، وزاجرا رقيبا على اجتناب كل شر
فهذا غاية ما يدعو إليه هذا الدين الحنيف، يقود الإنسان من خلال أحكامه برفق إلى تهذيب طباعه، وترشيد طاقته، وضبط نوازعه، وتنقية سلوكه من كل ما يكدر حياة الأفراد والمجتمعات من الضغائن والأحقاد، والظلم والاعتداء، والحسد والبغضاء، والتبذير والإسراف.. وسواها من القيم الفتاكة الملخصة في كلمتي: الفساد والإفساد، ثم يدعوه بكل يسر ولين إلى تنمية نوازع الخير المتأصلة فيه كالقصد والاقتصاد، والحب والإخاء، والصدق والوفاء، والأمن والأمان، والعدل والمساواة، وسواها من القيم النبيلة الملخصة في كلمتي: الصلاح والإصلاح
وبهذا التوازن الرهيب بين الدارين والمرحلتين والحياتين يعيش الإنسان في وئام تام بين المادة والروح، يين الإيمان والعمل الصالح، بين عالمي الدنيا والآخرة، مطمئن النفس مرتاح البال؛ غير سابح ضد تيار الكون برمته، ولا معاكس للخلق وخالقه:﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾.
إن الدين والتدين شفاء للأفراد والمجتمعات من كل أدوائها، وحماية للإنسان من نفسه وأخيه الإنسان، وإمداد له بالطاقة الإيجابية، وانسجام له مع الكون بمجراته وشموسه وكواكبه وسائر خلقه، وتمتين لصلات التآخي والتراحم والتضامن، وتقوية للمجتمعات على العمل الصالح والإنتاج المثمر، فليحرص المسلم على فهم دينه فهما دقيقا عميقا من خلال الاتصال الدائب بكتاب ربه وسنة نبيه، وليقبل بكل محبة وصدق واقتناع على تعاليم دينه، من صلاة وصيام وحج وزكاة، وجمع وأعياد، وغيرها من الشعائر والأحكام فإنها خير كلها وصلاح، وبركة كلها وفلاح، وبها نتجنب الضياع والنشاز عن الكون، ومن خلالها نعيش الانسجام والتوازن فنحيا الحياة الطيبة في العالَمَين، قال تعالى: ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾.