مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

موازنة بين كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم وكتاب الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية

 تعد الموازنة من الدراسات التي يمكن بوساطتها استجلاء الغوامض والكشف عن الحقائق وإظهارها على أبين وجه، ولأهمية هذا الموضوع فقد عمدنا إلى إجراء موازنة بين كتابين مهمين هما: كتاب «الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم للدكتور صكر خلف الشعباني»، و«كتاب الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية لصاحبه أيمن عبد الرزاق الشوا».
 الموازنة بين أبواب الكتابين ومضامينهما:
قامت دراسة «خلف صكر الشعباني» التي تناولت الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم على تمهيد وثلاثة فصول شاملة ومتفاوتة الحجم، انفرد كل فصل من هذه الفصول بمسألة تخصه؛ فقد حاول الكاتب في التمهيد الذي جعله بعنوان «الجملة والكلام، رؤية نقدية في مفهوم الترادف والتباين» تقديم مفهوم الجملة العربية وبيان حدودها عن مفهوم الكلام وحدوده، والعلاقة بينهما اتفاقا وافتراقا حيث عرض فيه رؤى العلماء حيال الجملة والكلام وتقسيم الدارسين لها، لتأتي الفصول الثلاثة بعد ذلك متناولة بالتعاقب:

 تعد الموازنة من الدراسات التي يمكن بوساطتها استجلاء الغوامض والكشف عن الحقائق وإظهارها على أبين وجه، ولأهمية هذا الموضوع فقد عمدنا إلى إجراء موازنة بين كتابين مهمين هما: كتاب «الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم للدكتور صكر خلف الشعباني»، و«كتاب الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية لصاحبه أيمن عبد الرزاق الشوا».

الموازنة بين أبواب الكتابين ومضامينهما:

قامت دراسة «خلف صكر الشعباني» التي تناولت الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم على تمهيد وثلاثة فصول شاملة ومتفاوتة الحجم، انفرد كل فصل من هذه الفصول بمسألة تخصه؛ فقد حاول الكاتب في التمهيد الذي جعله بعنوان «الجملة والكلام، رؤية نقدية في مفهوم الترادف والتباين» تقديم مفهوم الجملة العربية وبيان حدودها عن مفهوم الكلام وحدوده، والعلاقة بينهما اتفاقا وافتراقا حيث عرض فيه رؤى العلماء حيال الجملة والكلام وتقسيم الدارسين لها، لتأتي الفصول الثلاثة بعد ذلك متناولة بالتعاقب:

أولها: «الجملة الاستئنافية مفهوما وأنواعا وحروفا وتمييزا ودلالات»، وثانيها:« الجمل الاستئنافية المجردة من الضمائم»، وقد ضم هذا القسم مبحثين: تناول في أوله:«ثوابت الجملة الاسمية» وفي ثانيه:«أهم عوارض الجملة الاسمية»، واعتنى القسم الثاني من الفصل الثاني  بالجمل الفعلية وهو كذلك ضم مبحثين، تناول الأول منهما: ثوابث الجملة الفعلية، وتناول الآخر أهم عوارض الجملة الفعلية، أما الفصل الثالث فقد عالج فيه الجمل الاستئنافية المصدرة بالضمائم وهي بدورها تنتظم في ثلاثة أقسام كبيرة وسَمَ أولها:  بضمائم الجمل الاسمية، وثانيها: بضمائم الجمل الفعلية، وهذان القسمان بدورهما ينقسمان إلى مبحثين رئيسين أولهما: الضمائم العاملة، وثانيهما: الضمائم غير العاملة، أما القسم الثالث فقد انفرد بالضمائم المشتركة وهذا القسم بدوره ضم الضمائم العاملة والضمائم الغير العاملة.

ثم جاء بعد هذه الفصول الثلاثة في الترتيب تلخيص لأهم النتائج التي انتهى إليها المؤلف، تلتها مجموعة ملاحق اختصت بالأنساق والموارد، تُبين ما تناوله الكتاب في متن الدراسة، كما تضمنت هذه الملاحق إحصاء لأنساق الجمل الاستئنافية في القرآن الكريم، ثم بعد ذلك جاءت ملاحق أخرى تضمنت جدولة إحصائية للنتائج النهائية لأنواع الجمل الاستئنافية على اختلاف أنساقها، وجدولة لأنواع حروف الاستئناف وأعداد ورودها في القرآن الكريم.

      أما الكتاب الآخر «من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية لصاحبه أيمن عبد الرزاق الشوا» فقد صدر المؤلف كتابه بتمهيد وضح فيه أهمية الجملة الاستئنافية ثم أعقب ذلك بستة فصول متفاوتة الحجم، اختص الفصل الأول بدور الجملة الاستئنافية عند النحويين والبيانيين، تناول فيه مواضيع كثيرة في صفحات قليلة، اقتصر فيها على إشارات نظرية دون التفصيل في العرض، ثم انتقل بعد ذلك إلى فصل في مقاصد الجمل الاستئنافية وما يدور في فلكها؛ بيّن أغراضها ومقاصدها التي عني بها علماء البيان، وجنى ثمارها علماء التفسير وشرّاح النصوص الأدبية الشعرية والنثرية، بعد ذلك عقد فصلا ثالثا في أهمية أدوات المعاني وارتباطها بالجملة الاستئنافية، وهو ما كان مفرقا في كتب النحو، وجمع المؤلف أشهر أدوات المعاني التي حققت الاستئناف بارتباطها بالجمل، وذكر منها ما يقارب ثلاثين نوعا، حيث جاء رصيده الأوفر في دراسة متكاملة، يمتلك القارئ فيها مفاتيح البيان والمعرفة للجملة الاستئنافية وارتباطها بحروف الاستئناف ومغايرتها للعطف أو الحال أو جواب الشرط أو نحو ذلك، وما يتبعه من دلالة معنوية في كل جملة، وما تعطيه من توجيهات معنوية سديدة، وغياب معرفتها يؤدي إلى فساد المعنى.

واستكمالا لدور الجملة الاستئنافية التي اعتبرها المؤلف تاج الجمل العربية جاء الفصل الرابع بعنوان: «من قضايا الجملة الاستئنافية»، وفيه أغراض كثيرة، وموضوعات متنوعة، ومسائل دقيقة، الغرض الأساسي منها تمييز الجملة الاستئنافية من غيرها، مما يشبهها أو يدور في فلكها، أو يتداخل إعرابها ويختلط بها، كما يُعنى هذا الفصل ببعض المسائل المهمة التي تتعلق بالجملة الاستئنافية، كيف تتشابك في الإعراب مع عدد من الجمل، كالجملة الحالية، والواقعة صفة وغير ذلك مما كان مثار خلاف كبير بين النحويين، لذلك خصص المؤلف فصلا كاملا للحديث عن قضايا الجملة الاستئنافية وحصرها في حوالي ثماني عشرة قضية. [1]

أما الفصل الخامس فقد خُصص لأسرار البلاغة والنظم في الجمل الاستئنافية، في بحث منهجي واضح من خلال دراسته للفصل والوصل.أما الفصل السادس فقد اختص بمسائل وتوجيهات في رحاب جمل الاستئناف، فيه إيضاح كثير من مشكلات الإعراب المتعلقة بالجمل، وتبيين مبهمات مسائل تستعصي على كثير من المعربين، مما جعلهم يطلقون  أعاريب  غير سديدة، ويوجهون الكلام توجيها غير مستقيم.

إن المتأمل لكل من «كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم»، وكتاب« من أسرار الجملة الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية» يلحظ أوجها من الاتفاق بين تقسيم الكتابين، كما يلحظ أيضا أوجها أخرى من الاختلاف بينهما، حيث اهتمت الدراسة في كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم بتتبع الجمل الاستئنافية في القرآن الكريم ودراستها، فكان عليها أولا أن تحدد مفهوم الجملة في اللغة العربية، فابتدأت بتتبع أقوال اللغويين وآرائهم قدماء ومحدثين حول مفهوم الجملة ومفهوم الكلام، ثم انتقلت الدراسة إلى تحديد مفهوم الجملة الاستئنافية وتبيين خصوصياتها، ثم انتقلت إلى وصفها في القرآن الكريم، محاولة إحصاء أعدادها وتقسيم أنواعها حسب الأنساق، ثم انتقاء أنموذج عن كل نسق، ثم النظر في أقوال الدارسين والمفسرين فيه، على وفق دراسة تحليلية لأجزاء النسق المدروس، وإذا تفحصنا ما يطرحه صاحب هذا الكتاب نرى أنه جمع  الجملة الاستئنافية؛ مفهومها وأنواعها وحروفها ومميزاتها ودلالاتها في فصل نظري  شامل لا يتجاوز صفحات معدودة، يمكن اعتبارها مهادا نظريا للجملة الاستئنافية في اللغة العربية والقرآن الكريم؛ ذكر كل من الرجلين مفهوم الاستئناف والجملة الاستئنافية وما يدور في فلكها كل حسب طريقته في عرض المادة رغم تأثر كل منهما بمن سبقه من العلماء الذين أسهموا بحظ في البحث النحوي والبلاغي؛ فالمؤلف «صكر خلف الشعباني» كان منهجه يميل إلى الاستطراد والتفصيل في العرض والإكثار من الشرح، حيث ناقش أثناء هذه الدراسة مصطلح «ائتنف» ومصطلح «استأنف»اعتمادا على ما ورد في المعاجم اللغوية، فتبين أن لهذه المادة معاني كثيرة عند أهل اللغة أشهرها: أول الشيء، وابتداء الشيء، واستقبال الشيء، وحد الشيء وطرفه، والرجوع إلى أول الشيء، وبين أن هذه المعاني يمكن إرجاعها إلى أصل جامع لها هو الابتداء إلا أن هذا الابتداء ليس ابتداء؛ لأنه يحمل دلالة الرجوع فهو في حقيقته ابتداء لاحق لابتداء سابق أو هو ابتداء بعد توقف مستعينا بما أشار إليه «الخليل» و«ابن فارس» و«التهانوي» [2].

كما ناقش مفهوم «الاستئناف» في الاصطلاح في ضوء شروط ثلاثة لا تتحصل الفائدة الكلية إلا بها: أولها تجنب المترادف، وثانيها تجنب المشترك، وثالثها تجنب العبثية في وضع المصطلحات، وانطلاقا من هذه الأسس ناقش مصطلح «الجملة الاستئنافية» ومصطلح «الجملة الابتدائية» فاقترح التفرقة بينهما، وما شاع عند اللغويين من تسميتها بالابتدائية لم يكن موفقا؛ لأن مصطلح «الجملة الابتدائية» مختص بالجمل الاستهلالية التي تأتي في بداية الكلام أو في مستهله ومنها التي تفتتح بها سور القرآن، كما أن مصطلح الابتدائية يطلق كذلك على الجمل المصدرة بالمبتدأ، أي التي لها محل من الإعراب؛ كما انتهى إلى رفض ما وجد عند «ابن هشام الأنصاري» وما شاع من بعده عند بعض اللغويين من إطلاق مصطلح «الجملة الاستئنافية» على نوعين من الجمل هما «الاستئنافية» و«الابتدائية» لذا ارتأى المؤلف أثناء هذه الدراسة تخصيص مصطلح «الجملة الابتدائية» بــ «الجملة الافتتاحية» أو «الاستهلالية»، وتخصيص مصطلح «الجملة الاستئنافية» بــ «الجملة التي تأتي في أثناء الكلام وفي نهايته منقطعة عما قبلها صناعة»، ونظرا لتعدد التعاريف لهذه الجملة والتداخل الحاصل بين المصطلح اقترح تعريفا للجملة الاستئنافية كانت صيغته: «الجملة الاستئنافية هي جملة تأتي في أثناء الكلام لاستئناف غرض جديد، بعد جملة تامة أو كلام تام، منقطعة عنه صناعيا لا محل لها من الإعراب» [3]

ومن هنا أفاض المؤلف في بحث مفهوم الجملة الاستئنافية، وذكر أمثلتها بتتبع آراء النحويين ومناقشتها، حيث بين معنى الجملتين وفرق بينهما واقترح تعريفا جامعا يبين معنى الجملة الاستئنافية مع التعليل والاستشهاد، وكان أدق  من  «أيمن عبد الرزاق الشوا» الذي لم يسهب في بسط مادته بخصوص تعريف «الجملة الاستئنافية» والتفريق بينها وبين «الجملة الابتدائية» اكتفى بإشارات اقتصر فيها  على بعض الصفحات للحديث عنها والتعريف بها  كما وردت عند «ابن هشام» و«الدسوقي» و«عباس حسن» مستشهدا بآيات قرآنية، مشيرا في ثنايا الكتاب أن «الجملة الاستئنافية» هي تاج الجمل العربية وإن قلة من الباحثين اللغويين أولوا عنايتهم هذا الجانب المهم [4] ، ليتخذ الفصلين الآخرين في كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم نحوا تطبيقيا في دراسة هذه الظاهرة في إطارها القرآني منطلقا من الواقع الوصفي للجمل الاستئنافية في القرآن الكريم واستقراء أنواعها ومواضعها فيه، وقد راعى المؤلف في قسمته لهذه الجمل أنواع الأنساق وتماثلها في ركني الإسناد الأساسيين، المسند والمسند إليه، ثم صنفها حسب ذلك إلى مجاميع، ثم اختار أنموذجا واحدا من كل مجموعة أخضعه للدراسة؛ نمثل لذلك  بأنموذج من قسم ثوابث الجملة الاسمية، الذي  تصدى فيه المؤلف لأحوال خبر المبتدأ المفرد؛ والذي ضم مجموعة من الأنساق منها: الاسم المفرد، رصد المؤلف هذا النسق في 349 موضعا في القرآن الكريم، منها ما جاء في قوله ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.[يوسف-12]

وقد انتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن مضمون الآية وتفصيلها، ذكر أن هذه الآية اشتملت على ثلاث جمل مستأنفة هي:﴿ وَقَالَ الَّذِي ﴾ و﴿ مَكَّنَّا ﴾ و﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ ﴾ اختصت بذكر يوسف عليه السلام وإنعام الله تعالى عليه في مراحل حياته عامة، وعند عزيز مصر خاصة، إذ خلصه الله تعالى من كيد إخوته له ومن طمع السيارة فيه، ومن كيد النسوة، ثم تعليم الله تعالى له تأويل الأحاديث التي هي تعبير الرؤى أو أخبار الأنبياء والأمم، ثم تمكينه من أرض مصر يأمر وينهى، وبعدَ ذكْرِ ذلكَ الإنعام على يوسف عليه السلام جاءت الواو لتستأنف جملة اسمية ذات غرض جديد ومفهوم عام يشمل غلبة الله إخوة يوسف بإبطال كيدهم، وكيد غيرهم وإنعام الله عليه، فجاء التعبير عن هذه الغلبة باسم الفاعل ﴿ غَالِبٌ ﴾ ليدل على صاحب الغلبة وثبوت ديمومة هذه الغلبة لله سبحانه وتعالى في كل أمر وليس في أمر يوسف عليه السلام فحسب، مشيرا إلى أن بلاغة الاستئناف هنا تكمن في إبراز حقيقة عظيمة يغفل عنها كثير من الناس مع وضوحها ألا وهي غلبة الله سبحانه وتعالى فيما يريد ويقدر فحكمه نافذ وقدره محتوم لا قادر له، ولذلك أعقب بالاستدراك بقوله تعالى ﴿ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾. [5]

وتعددت أنساق الجمل الاستئنافية في القرآن الكريم في هذه الدراسة  تبعا لتعدد الأغراض التي تؤديها في السياق القرآني فكان لكل سياق معنى خاص يستشف من قرائنه السياقية المختلفة، فيتنوع المعنى بتنوع أركان الإسناد نوعا وإفرادا وإضافة وتركيبا وحذفا أو تقديرا لأحد ركني الجملة أو للجملة بأكملها، كما يتنوع المعنى كذلك باحتواء الجملة على إحدى الضمائم أو تجردها منها.

    أما كتاب «من أسرار الجمل الاستئنافية» فجاء صاحبه  بترتيب مختلف  عن ترتيب الكتاب الآخر، متجنبا كثرة التقسيمات والتفريعات، جعله في ستة فصول متفرقة ومتفاوتة الحجم مع الالتزام بالدقة والوضوح في كل فصل؛ وضح  في الفصول الأولى دور  الجملة الاستئنافية عند النحويين والبيانيين، وبين تقصير المعربين في دراسة هذه الجملة وبين الفرق بين الجملة الابتدائية والمستأنفة، وفصل موضوعا مهما يتعلق بجملة الاستئناف لتجدد المعاني، كما جمع بعض المسائل المتعلقة بالاستئناف والاختصاص اللغوي، وجاء الفصل الثاني فيه عرض مفصل لأغراض الجملة الاستئنافية، جمع فيه ما يقارب خمسين غرضا مستنبطة من كتب البلاغة خاصة ومن كتب التفسير وأعاريب القرآن، وقد راعى في أكثر هذا الفصل شيئا من التفصيل والتحليل لما تستدعيه أهمية هذه الجملة، كما عني بالتمثيل والتطبيق لترسيخ فهمها واستيعابها، وهذا ما أشار إليه المؤلف صكر خلف الشعباني بخصوص دلالات الجملة الاستئنافية في مبحث وجيز دون تفصيلها وشرحها مرتبة كما وردت في الكتاب الآخر، لكنه أكد على أن هذه الجمل تحمل دلالات كثيرة تستشف من سياقاتها المختلفة التي تحويها، وليس من السهل استخراج هذه الدلالات لأن ذلك يحتاج إلى حسن تأمل في النصوص وسياقاتها وربط لجوانبها حتى تتضح العلاقة الدلالية، فيتبين عندها موقع الجملة الاستئنافية وتتضح بلاغتها، وأشار كذلك إلى أن هذه الدلالات لا يمكن حصرها، ذلك لأن لكل دارس وجهة نظر خاصة به، وعليه تتعدد الدلالات للجملة الواحدة بتعدد وجهات النظر.

كما بين صاحب كتاب «من أسرار الجملة الاستئنافية» في الفصل الثالث أدوات المعاني وارتباطها بالجملة الاستئنافية، تلك الأدوات التي تكسب مزيدا من التذوق لمعاني الكلام وأسراره وتبين مناحي الفصل والوصل، وقد حصرها في نحو ثلاثٍ وثلاثين أداة مُبينا تعريفها وأقسامها وما قيل فيها مذيلة بالشواهد والأمثلة، هذا ما فعله «صكر خلف الشعباني» لكنه لم يكن يقتصر على النقل بل اتخذ هذا  الفصل عنده منحى تطبيقيا وسمه بـــ  «الجمل الاستئنافية المصدرة بالضمائم»، والضميمة أراد بها ما هو شائع ومعروف عند النحويين بحروف المعاني أو الأدوات، وقد كان تناوله لهذه الضمائم من حيث تصدرها للجمل الاستئنافية معنى أو حكما نحويا، واهتم بدراسة هذه الضمائم؛ لأنها عند بعض النحويين من محددات الجملة الاستئنافية أو ضوابطها، فأراد إثباث ذلك عن طريق استقراء أنواعها وأعدادها في القرآن الكريم، فوجدها تنتظم في ثلاثة أقسام كبيرة وسم أولها بــ«ضمائم الجمل الاسمية» وثانيها بـــ«ضمائم الجمل الفعلية»، وهذان القسمان بدورهما ينقسمان إلى مبحثين رئيسين أولهما «الضمائم العاملة»، وثانيهما «الضمائم الغير العاملة».

 وقد عني المؤلف أيمن عبد الرزاق الشوا في الفصل الرابع ببعض قضايا الجملة الاستئنافية، مثَّلها في نحو ثماني عشرة قضية، فيها أحكام نحوية موجهة نحو الإعراب الميسر مشفوعة بتعليلات بلاغية ومنهجية واضحة، وفيها بعض المسائل المهمة التي تتعلق بالجملة الاستئنافية كيف تتشابك في الإعراب مع عدد من الجمل؛ كالجملة الحالية والواقعة صفة وبينها وبين جواب الشرط وغير ذلك مما كان مثار خلاف كبير بين النحويين.

ومعرفة الجمل الاستئنافية أدق وأعمق، لأن الأنظار تكون موجهة نحو المعنى خاصة إذ يتوجه الفكر إلى الارتباط المعنوي فيما بين الجمل ومعرفة هذا الارتباط من أسرار البلاغة [6] وفي هذا الفصل يقول المؤلف:«ولعل جمع قضايا الجملة الاستئنافية ومسائلها وما يدور في فلكها في فصل متكامل كالدر إذا نظم، خير منه إذا نثر، والزهر في طاقة أجمل منه منثورا في حديقة أو على الأقل هو أقرب منالا وأسهل وصالا وأيسر على الفنان إن أراد الموازنة بين الألوان» [7]

هذا ما أشار له الكتاب الآخر في مبحث قصير وسمه صاحبه بــ «أثر المعنى في تمييز الجملة الاستئنافية» لكنه لم يفصل في القضايا كما فصّل «أيمن عبد الرزاق الشوا»،بل اكتفى فقط بنماذج قليلة، منها : «بين الاستئنافية والحالية»، «بين الاستئنافية والوصفية»... غير أنه  ضم كلاما نفيسا يغني القارئ في موضوعه؛ عرض المؤلف أقوال الدارسين أصحاب الاختصاص في صعوبة تمييز الجملة الاستئنافية من غيرها، فمن الاستئناف ما قد يخفى على الدارس وليس الحكم بالاستئناف لجملة معينة بالأمر السهل في مواطن كثيرة؛لأن ذلك يحتاج إلى قوة إدراك وفهم للأساليب العربية؛ وأكد على أن الفصل  بالاستئناف وغيره أمر دقيق عسير أحيانا لا يغني فيه الاعتماد على ظاهر العبارة، فمعرفة الاستئناف تتطلب ذوقا لغويا رفيعا وسليقة لغوية سليمة، زيادة على ذلك تتطلب معرفة بالقرائن السياقية المختلفة الحالية منها واللفظية والمعنوية، ومعرفة ضوابط الكلام، منها قواعد الكلام وضوابط الوقف والابتداء في الكلام العربي والقرآن الكريم [8]

وقد أكد الكتابان على نقطة مهمة تمثلت في توجيه المعربين إلى عدم الاكتفاء بقولهم المألوف:جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب بل لا بد من ذكر الغرض الذي تحققه هذه الجملة، وقد تيسر لهم ذلك في هذين الكتابين، ووراء ذلك نفع كبير وحل لمشاكل عديدة تقف أمام المعربين في تنوع أعاريب الجملة الواحدة وما تحمله من معان في إطار النص ومعرفة وظائف هذا الاستئناف وغايته وتدقيق النظر في روابط هذه الجمل المسماة بالجمل الاستئنافية.

كما عرض كتاب «من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية» بحثا في فصل مستقل وسمه بأسرار البلاغة والنظم في الجمل الاستئنافية، عرض فيه أهمية الفصل والوصل في بحث منهجي واضح، وكان رائد هذا البحث الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي كان تركيزه موجها نحو ملاحظة الارتباط فيما بين الجمل بدقة ولطف، اكتفى المؤلف بنقل ما جاء به الجرجاني في «دلائل الإعجاز» في مبحث الفصل والوصل دون زيادة أو نقصان، وهذا ما أشار إليه صكر خلف الشعباني لكن بطريقة مغايرة، فهو لم يكتف بنقل نص الجرجاني فقط بل اعتمد على نصوص متنوعة  بخصوص ما تناوله البلاغيون من موضوعات الاستئناف في باب الفصل والوصل مع المناقشة والتحليل، وخلص إلى أن ما سمي بـ«كمال الانقطاع» هو في حقيقته استئناف نحوي أو ابتدائي وأن ما سمي بـ  «شبه كمال الانقطاع» هو في حقيقته استئناف بياني، أما النوعان الآخران «كمال الاتصال» و«شبه كمال الاتصال» فلم يلمس لهما المؤلف علاقة بالاستئناف [9] ، إلا أن كتاب «من أسرار الجملة الاستئنافية» جاء بمسائل وتوجيهات في رحاب جمل الاستئناف، فيه إيضاح كثير من مشكلات الإعراب المتعلقة بالجمل، وتبيين مبهمات تستعصي على كثير من المعربين، مما جعلهم يطلقون أعاريب غير سديدة ويوجهون الكلام توجيها غير مستقيم، لذلك حصر المؤلف هذه التوجيهات في نحو ثلاث وثلاثين مسألة منها:

توجيه حول إعراب الحروف المقطعة ومعناها يقول: تناول المفسرون الحروف المقطعة بتفصيل واسع واستثمر ذلك المعربون، فذكروا في مجال الجمل الاستئنافية أنه إذا فسرت الحروف المقطعة بمعنى فالوقف عليها تام وما بعدها جملة استئنافية إخبارية، ومثل لذلك بقوله تعالى: ﴿المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾.[الأعراف-1]

وبين أن الوقف على﴿المص﴾ تام على قول ابن عباس، لأن معناه عنده: أنا الله أعلم وأفصل، وما بعده يرتفع بمضمر، بتقدير: هذا كتاب، فالجملة استئنافية للإخبار بأهمية القرآن الكريم.[10]

هذا ماذكره المؤلف أثناء توجيهه حول إعراب الحروف المقطعة ومعناها إضافة إلى توجيهات أخرى كثيرة ترشد وتعين المعربين على فهمها واستيعابها، وعلى الرغم من أهمية ذلك لم يحظ الكتاب الآخر بهذه التوجيهات المباشرة المفصلة في مبحث معين أو فصل واحد بل تناثرت توجيهاته في أجزاء الكتاب وخصوصا في فصلي التطبيق، يمكن أن تستشف أثناء الفهم العميق للكتاب.

الموازنة من جهة الأسلوب والمنهج:

جاء أسلوب المؤلفين على العموم أسلوبا تعليميا سهلا لا يجد القارئ عناء في فهمه ولا إشكالا في استيعابه، فقد اعتمدوا في أسلوبهما على الحوار والمناقشة، فقد ظهر الأسلوب التعليمي واضحا في كتابي صقر خلف الشعباني وأيمن عبد الرزاق الشوا، إذ نجد أنهما أخذا أسلوب السؤال والجواب طريقة لتوضيح الآراء النحوية أو لتفسير الآراء المختلفة، وأنهما كثيرا ما يكرران «فإن قلت...قلت، فإن قيل ... قيل، وكيف لا يكون الأمر كذلك ...» ونحو ذلك من العبارات التي تتردد في نقاش المؤلفين، وهي تدل على تمكنهما مما يقولون، كما تدل على غزارة علمهما وثقافتهما الواسعة، وهما بذلك ينسجان على منوال كثير من النحويين الذين سبقوهما، ومن أمثلة تطبيقات أيمن عبد الرزاق الشوا لهذا الأسلوب ما ذكره فيما ينتصب على التعظيم والمدح قال:«وبيّن سيبويه ذلك فقال:ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظم بها، لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحب الثياب أو البزاز، لم يكن هذا مما يعظم به الرجل عند الناس ولا يفخم به. [11]

ومن مظاهر الأسلوب التعليمي في كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم أن المؤلف قام بإعراب كثير من الأمثلة والشواهد تقريبا في جميع الآيات القرآنية ومناقشتها، ذلك ما نجده في جميع أبواب الكتاب، ومنها ما ورد  في هذه الآية ﴿ يُجَٰدِلُونَكَ في ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [الأنفال-6] كما اتسم كتابه بالتنبيهات والفوائد [12] التي تحمل في طياتها فوائد جمة، وهي طريقة جـرى عليهـا المؤلف يخـتم بهـا بعض المواضيع، واتخذهما أساسا لهذا المنهج، غايته الإشارة إلى بعض الأمور الذي يريد توضيحها، وإيضاح الرأي منها؛ ومن الأمثلة على بعض التنبيهات:

ذكر في نهاية «الاستئناف ب حتى» بعد أن عرض عليه بالشرح والتفصيل ـ تنبيها , فقـال :

" تنبيه:الجملة بعد حتى الابتدائية لا محل لها من الإعراب، خلافا للزجاج فإنه ذهب إلى أن «حتى» هذه جارة والجملة في موضع جر بـ «حتى» وهو ضعيف.

قال ابن الخباز: لأنه يفضي إلى تعليق حرف الجر عن العمل، وذلك غير معروف. [13]

كما ختم مسألة محاسن الاستئناف بالواو بفائدة تجلت في ما ذكره «الإمام العيني» بخصوص واو الاستفتاح في صحيح البخاري قوله: باب غسل الأعقاب: وكان«ابن سيرين» يغسل موضع الخاتم إذا توضأ، قال: وكان «ابن سيرين» الواو فيه للاستفتاح.

وامتاز أسلوبهما بأنه أسلوب أدبي أخاذ تغلب عليه نزعة الأديب وخيال العالم  الواسع الاطلاع فقد استطاعا الغوص في أسرار الجملة الاستئنافية بأسلوب دقيق، فكانا يعرضان الفكرة عرضا هادئا، ويقلبان الأمر على وجوهه حتى  يصلا إلى النتيجة التي يهدفان إليها بأسلوب الأديب العالم المتذوق المتمكن من ناصية البيان.

واقتضت طبيعة هذه الكتب أن تؤسس على المنهج التحليلي غالبا، ثم المنهج الوصفي، غير أن كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم اتخذ منحى وصفيا تطبيقيا يقوم  على التتبع والاستقراء والإحصاء والتحليل والتفسير والربط بين جوانب النص القرآني الذي يضم المثال المدروس، ورصد القرائن السياقية المتنوعة بغية استجلاء معنى النص أولا، ثم استجلاء معنى الجملة الاستئنافية وعلاقتها بالنص ثانيا لتتضح طبيعة الجملة وحكمها وبلاغتها، ومن ثم بلاغة النص الذي يضمها، وبين المدخل والنهاية نصوص قرآنية غزيرة تؤكد المعنى الذي يريد المؤلف إثباته، وفق منهج بلاغي يقوم على التحليل النصي التطبيقي.

الموازنة من جهة الشواهد والأمثلة:

-تحليل ودراسة الشواهد:

القرآن الكريم أعلى نصوص العربية فصاحة، فهو المنبع الصافي الذي لا تشوبه شائبة، ولا تجاريه لغة، ولا يدنو منه بيان، وهو المعجزة الباهرة، والحجة البالغة، والبرهان الدامغ الذي يحتج به كل من أراد أن يثبت رأيا أو يبرهن على حكم.

ومن هنا فقد اتخذه علماء اللغة والنحو مصدرا أساسيا لتقعيد القواعد وتثبيتها، كما جعلوه مصدرا من مصادرهم الأساسية في الاستشهاد ونبراسا يهتدون به ويحتكمون إليه إذا اختلفت السبل وتنازع الأقران.

وقد أخذ الشاهد القرآني حيزا واسعا في كتابي صكر خلف الشعباني وأيمن عبد الرزاق الشوا، فلا تمر بقسم أو فصل من فصول هذين الكتابين إلا وتجد الشواهد القرآنية قد تتابعت فيه، وقد بلغت عدد المواضع التي استشهد بها صكر خلف الشعباني بالقرآن الكريم بما يقارب 5070 جملة قرآنية موزعة على 437 نسقا، وترجع هذه الكثرة لكون الكتاب يتمحور حول موضوع الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم، لأجل ذلك كان لابد للموضوع من دراسة تحليلية، تبتدأ  أولا بربط جوانب النص الذي فيه الشاهد المدروس للإفادة من القرائن السياقية المختلفة، لتعيين نوع الجمل ومعانيها، ثم الإفادة من معطيات علوم العربية الأخرى لاستخراج بلاغات تلك الجمل، واهتمت هذه الدراسة بتتبع الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم، بالقياس إلى كتاب من أسرار الجملة الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية الذي بني على نماذج عديدة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والكلام المأثور والشعر القديم والحديث، وما تحتويه من لطائف وأسرار فيها توجيهات نافعة تربي ملكة النقد الصحيح.

وأكد الكتابان على إشارة مهمة تمثلت في ذكر مواضع الجملة الاستئنافية مع ذكر الآية كاملة، فنجد مثلا «صكر خلف الشعباني» يذكر عبارة طويلة من القرآن الكريم للاستشهاد، ومن ذلك قوله تعالى في محور بين الاستئنافية والحالية ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [البقرة-49]

ومن ذلك أيضا وقوفه على جملة ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة- 91] في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة- 91]  وهذا ما سار عليه المؤلف في فصلي التطبيق؛ استشهاده بالشواهد الوفيرة من القرآن الكريم وذلك لتعدد أنساق الجمل الاستئنافية، تبعا لتعدد الأغراض التي تؤديها في السياق القرآني، مثلا في الفصل الثاني المعنون بــ «الجمل الاستئنافية المجردة من الضمائم» اعتنى القسم الأول منهما بالجمل الاسمية وقد ضم هذا القسم بدوره مبحثين، تناول في أوله ثوابت الجملة الاسمية وفي ثانيهما أهم عوارض الجملة الاسمية، وقد قامت الدراسة في هذين المبحثين على أساس تقليب أحوال الخبر مع المبتدأ بأنواعه المعروفة عند النحويين، نمثل لذلك بأحوال خبر المبتدأ المفرد ومنه الاسم المضاف؛ رصد لهذا النمط من الجمل الاسمية في القرآن الكريم في 74موضعا منها ما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ  وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة- 5]  ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران  - 67]  وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه-14] وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِين َمِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة-183]

وهكذا اتجه  صكر خلف الشعباني في دراسته التطبيقية منطلقا من الواقع الوصفي للجمل الاستئنافية في القرآن الكريم تبعا لتعدد الأغراض التي تؤديها في السياق القرآني، فكان لكل سياق معنى خاص يستشف من قرائنه السياقية المختلفة، وهذا المنهج لا نجده عند أيمن عبد الرزاق الشوا في كتابه فقد بنيت شواهده  على النماذج العديدة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والكلام المأثور، والشعر القديم والحديث، في مواضع نظرية متفرقة، ومثال ذلك ما جاء في فصل مقاصد الجمل الاستئنافية ومنها التعليل؛ ذكر له شواهد كثيرة جدا منها قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾ [الكهف-15]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ﴾

وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ  رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ [التوبة- 15]

ومن أبرز شواهد البلاغيين قول بشار بن برد: [14]

بَكِّرَا صَاحِبِي  قَبْلَ الهَجِيرِ        ///       إن ذاكَ النجاحَ في التبكيِر

أما عبد الرزاق الشوا فتظهر شواهده بقوة  في إيراد المسائل التي تتطلب منه أن يتتبع آراء النحويين ، كما أنه يحاول أن يكثر من الشرح على المسائل المطروحة كي يوضحها ويوفيها حقها من الإبانة من خلال مناقشة الأمثلة والشواهد، ومن ذلك ما ذكره المؤلف  بخصوص «الجملة بعد رأى وما يدور في فلك الرؤية»، ومن الشواهد القرآنية على ذلك قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ﴾ [الكهف- 63] وقوله تعالى : ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ [مريم- 77]، وقوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ  ﴾ [الفرقان-43]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾[الشعراء-205] وقوله تعالى:﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ﴾ [النجم-33]، وقوله تعالى : ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ [العلق-11] وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام-47] وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ﴾ [الأنعام-46]

ومن شواهد الحديث النبوي الشريف:

« أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم » ،«أرأيتم إن كان جهينة»،«أرأيتم إن كان أسلم وغفار»، «أرأيتم ليلتكم هذه»

« أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا » «أرأيتم إن حدثتكم أن عدوا»«أرأيتم لو أخبرتكم» « أرأيت إذا منع الله الثمرة »

عند تأملنا لشواهد كتاب من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية، نجد المؤلف أيمن عبد الرزاق الشوا استشهد بالحديث النبوي خلافا لصكر خلف الشعباني الذي اكتفى بالشواهد القرآنية وشرحها وتحليلها، وأن مجموع ما استشهد  به أيمن عبد الرزاق الشوا من الحديث النبوي يعد قليلا قياسا إلى القرآن الكريم، كما أنه كان يستشهد بالشعر على الشعر، إذ يذكر الشاهد الشعري، ثم يعضد ذلك الشاهد بشواهد شعرية أخرى لزيادة التوضيح والتأكيد، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلف في محور بين الاستئناف والاعتراض من شواهد شعرية كقوله:[15]

   ماذا – ولا عتب في المقدور- رُمتَ أما     ///    يكفيكَ بالنّجع أم خسرٌ وتضليل 

وقوله:

                   ذاك الذي- وأبيك- يعرف مالكاً    ///    والحقُّ يدفَعُ تُرَّهاتِ الباطلِ 

 وهذا ما لم نجده عند «صكر خلف الشعباني» لأن معظم شواهده كانت مستمدة من القرآن الكريم؛ فقد عمل على توظيف بعض الأساليب التي ساهمت في إغناء الدراسة وأبرزها التفسير وتحليل الشواهد القرآنية والوقوف عندها نحويا وبلاغيا واستخراج ما استكن في كل جانب ومن جوانب الجملة الاستئنافية، فكان لكل سياق معنى خاص يستشف من قرائنه السياقية المختلفة، إلا أنهما اختلفا في طريقة الشرح، فالمؤلفان اختلفا في بعض المباحث من حيث التوسع والاختصار، فقد يسهب أحدهما في أحد الموضوعات ولا يعير له الآخر أهمية كبيرة، إلا أنهما كانا حريصين على الاستشهاد بالقرآن الكريم.

وعندما يتناول كل واحد منهما مسألة بالبحث والدراسة نراه غالبا يبرهن على رأيه فيها ببعض النصوص القرآنية، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (*) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ﴾ [الكهف-83-84]

ذكر كل من «صكر خلف الشعباني» و«أيمن عبد الرزاق الشوا» هذه الآية، إلا أن نظرة كل منهما تغاير نظرة الآخر، فصكر خلف الشعباني ذكرها ليدلل بها على الاستئناف التام لانقطاعه عما قبله لفظا ومعنى، وقد حللها تحليلا دقيقا ينم عن خبرته الواسعة بأساليب الكلام، وارتباط كلماته بعضها ببعض، حيث ذكر أن الاتصال المعنوي بين الجملتين في غاية الوضوح، وذلك لاختصاصهما بموضوع واحد وهو الحديث عن ذي القرنين، كما أن التمكين في الأرض هو بعض الذكر المتلو لنا عنه، مبينا هذا النوع من الاستئناف في القرآن الكريم بعد الوقف الكافي، الذي يحسن القطع عليه، والابتداء بما بعده، غير أن الذي بعده منغلق به معنى لا لفظا، وعليه سمى هذا النوع من الجمل المستأنفة بالاستئناف الكافي[16].

نجد هذه التحليلات الدقيقة التي أبرزها «صكر خلف الشعباني» تدل على تناسق كلمات القرآن وارتباط بعضها ببعض مع جزالة ما تؤديه من معان ارتبط بعضها ببعض وتلاءمت تلاؤما قويا، بينما «أيمن عبد الرزاق الشوا»، ذكر هذه الآية في معرض حديثه عن الجملة الاستئنافية عند «ابن هشام» واكتفى بالإشارة إليها دون  تحليل التركيب فيها وشرحها وبيان مغزاها.

وبعد هذا يلاحظ أن استشهادهما بالنصوص القرآنية يعد كثيرا إذا ما قورن بالنصوص الشعرية، كثرة يلحظها من يتابع هذه الكتب، إلا أن «صكر خلف الشعباني» كان أكثر تحليلا ودقة وتذوقا للنصوص القرآنية التي تناولها في بحثه من صاحب الكتاب الآخر، ويتضح هذا في تحليله الآياتِ القرآنية.

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] [من أسرار الجمل الاستئنافية ص:313]

[2] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم ص:47-48]

[3] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم ص:52]

[4] [من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية ص:6]

[5] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم ص:95-96]

[6] [من أسرار الجمل الاستئنافية ص:313]

[7] [من أسرار الجمل الاستئنافية ص:310]

[8] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم  ص:87]

[9] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم  ص:58-59]

[10] [من أسرار الجملة الاستئنافية ص:478-479]

[11] [من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية ص:40]

[12] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم ص:341]

[13] [من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية ص:370]

[14] [من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية ص:270]

[15] [من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية ص:414]

[16] [الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم ص:54-55].

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
    بارك الله فيكم على هذه الموازنة القيمة و قد استفدت منها كثيرا مع العلم أنه بحوزتي كتاب من أسرار الجمل الاستئنافية ولكن لا أملك الثاني أي كتاب الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم لو تتكرمون و تضعونه في الموقع على شكل
    pdf
    و لكم جزيل الشكر

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق