مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من وحي عيد الفطر

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد فقد قال الحق سبحانه:”وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” وإن من تمام النعمة وكمال التوفيق شهودَ محافل العيد لاهجة بمعاني الشكر تكبيرا وتحميدا، تهليلا وتسبيحا وتمجيدا، تذللا لله، وعرفانا بنعمائه، والتجاءً إلى كنفه وحماه، بعد كريم أيام من الصيام والقيام، والذكر وتلاوة القرآن؛ ليكون هذا اليوم يومَ الجائزة والجزاء، والتعهدِ بتجديد وإدامة وتمتين الصلات بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا:
صلة تفضي إلى كمال التعلق به سبحانه: محبة وخوفا ورجاء: محبةً فيه إذ خلقنا وهدانا، وكرمنا فعلمنا:” الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان”، وخوفا ورجاء؛ لعظمته سبحانه وتعالى جزاء؛ لأنه عظيمٌ في خلقه وعزته وقوته، عظيمٌ في جبروته وقهره وعقابه، عظيمٌ في رحمته وإنعامه وعطائه، عظيمٌ في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، لا حد لعظمته سبحانه وتعالى، ولكنَّ شديدَ الإلف قد ينبري حاجزا حصيفا عن كثير من التأمل والاعتبار، حائلا كثيفا بينه وبين تلمس آثار عظمة الله في خلقه، وتجلياتها في جزيئات كونه، فإذا ما مس الإنسانَ طيفٌ من الذكرى تذكر، قال سبحانه: “إن الله يمسك السموت والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا”
ويكفي الإنسانَ وهو على هذا الكويكب أن يتأمل ما على ظهره من سهول ووديان، وآكام ونجود، وبحار وأنهار، وإنسان وحيوان، وزروع وثمار، وما يتبدى في سماء الدنى من أقمار وكواكب، ونجوم ومجرات: “صنع الله الذي أتقن كل شيء”
إن ذلك كافيه؛ ليستحيَ منه فيطيعه ولا يعصيه، ويخافه فلا يتمرد عليه، ويرجوه فيلح بالدعاء رغبة في خزائنه:
رائع سفر ذي الحياة ولكن*** أين من يفتح الكتاب ويقرا
إن الاتصال بالله مفض يقينا إلا كمال السعادة والهناء، والطمأنينة والرخاء، وذلك معنى قوله سبحانه لنبيه:” ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين” فالإنسان خلق هلوعا جزوعا، حريصا منوعا لا يتماسك في حال الرخاء، ولا يملك نفسه عند اشتداد الضراء، يتفطر قلبه خوفا من الشر قبل وقوعه، وينهار تحت وطأته بعد حدوثه، فلا هناء له في الحالتين، ولا قرار له في الصورتين مادام مقطوعَ الصلة بالله، فإذا ما وطد علاقته بربه، فأكثر من محاميده، واتصل خاشعا ضارعا بملكوته، مناجيا ربه في سره وعلانيته، مراقبا خالقه في حَله وترحاله، ذاكرا له في كل تصرفاته، كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها: وحينئذ لا تهده دواه، ولا تزحزحه خطوب: رابطَ الجأش ثابتَ الجنان، معمور القلب بالله وفي الله، فلا حراك له إلا بأمر الله: فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع بالله، وإن نظر نظر بالله، وذلك معنى قوله سبحانه: “فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي”: موفق في أعماله وأقواله، مسدد في كل تصرفاته، محفوظ في ذاته وأحواله، وتلك الولاية لله التي لا تُنال إلا بشديد الصلة به سبحانه؛ لهجا بذكره، والتزاما بفرائضه، ووقوفا عند حدوده.
وذلك معناه قوةُ التعلق بكتابه ترتيلا وتدبرا، فهما وعملا، والتعلقِ بنبيه تعظيما وتوقيرا، محبة وطاعة، تأسيا ومتابعة، والاتصالِ بشرعه: فهما وتنزيلا، تحليلا وتحريما: وتلك معاقد سعادة الدنيا في مراتبها الثلاث: الروحانيةِ المتصلة بالله، والبدنيةِ المتصلة بشرعه خدمة وطاعة، والخارجيةِ المتصلة بالإنسان نبيا ورسولا، والدا وولدا، قريبا أو بعيدا، وهي جماع سعادة الآخرة في أسئلة الملكين: مَن ربُّك، وما دينك، ومن نبيك؟ ولا إجابة إلا بتمتين الصلة، وإدامة الزلفى، وطول المصاحبة علما وعملا: “يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة”.
ومن متعلقات الاتصال به صلةُ ما أمر الله بصلته، سيما في أيام الفرح والسرور، أيامِ التضامن والتآزر والتواصل، من الأرحام وذوي القربى؛ حفاظا على تماسك الأسرة ووحدتها، وصيانة لها من التفتت والاجتثات، ففي الأولى قوة للأمة والوطن، وفي الثانية ضعف لها ووهن؛ فالأسرة نواة المجتمع ومركزُه، يتماسك بتماسكها، ويقوى بقوتها، ويتلاحم بصلابة لحمتها؛ ولهذا اشتق الله اسمَها من اسمه فقال: “أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت للرحم من اسمي، فمَن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثته”، ولذات السبب رغب في التواصل والتزاور والتراحم فقال نبيه صلى الله عليه وسلم: “من سرهُ أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه”، ثم رهب في القطيعة والتدابر؛ فقال: “لا يدخل الجنة قاطع” وقال: “إن أعمال بني آدم تُعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يُقبَل عمل قاطع رحم”
بل إن الله سبحانه أوصى بالصلة للإنسان كله وللخلق برمته: تكريما وإعظاما، رحمة وإحسانا: من خلال بذل المعروف والخير، وكف الأذى والشر، وتحمُّلِ الأخطاء والهفوات، والمزالق والزلات: وتلك مجامع الأخلاق: لا يؤذي طيرا ولا بهيمة، لا جنا ولا إنسا، فإن استطاع أن يكون وصَّالا نافعا لدينه وأمته ووطنه، ولإخوانه فليفعل، وإلا فليُمسك شره عن الناس والكون، فإن ذلك نجاة له في الدنيا والآخرة، فقد سئل رسول الله عن الرجل لا يستطيع النفع والخير، فقال: “فليمسك أذاه عن الناس، فإن ذلك مُدخلُه الجنة”.
تلك هي معاقدُ الصلة والاتصال، ومحاسنُ الأخلاق والخلال: وهي غاية الرسل من إرسالها، ومُرتام الكتب من إنزالها، وهي القوة الكامنة لكل مجتمع، والأساسُ المتين لكل حضارة، والسبيلُ الأقوم لكل تقدم ونماء في سلم وأمان وهناء
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت***فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق