مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

من نفائس الأنظار في مساجلات النحاة والقراء

لطالما اصطَكَّت رُكَب القراء والنحويين في بعض أوجه القراءات القرءانية؛ فالقراء مستمسكون بغَرز الرواية والتلقي، وأهل النحو في نظرهم جُرَءَاؤُ على القرءان كلام الله، وأما النحويون فهم ءاخذون من سمت العربية مُهلةَ الميدان، ويرونَ القراءَ فيها كالصبيان؛ فنشبت بهذا بينهم معارك ارتفع رهَجُها وما خبا إلى الآن ، وقد انتصر القراء لفريقهم، والنحويون لناديهم، وأسفر ذلك عن ثروة ثرة من الردود والانتقادات، أغنت المكتبة القرائية النحوية بكثير من الحجج والبيان.

وأبو إسحاق الشاطبي (790ه‍) رحمه الله، من الذين انتحوا للنحويين، درءا للطعن عن نحرهم، وتوجيها للمستشنع من أقوالهم؛ فإن له كلمةً انتصف فيها للنحويين من القرأة، وقرر أنهم أكثر توقيرا للقرءان، وأن قصدهم الانتصار له من حيث يظهر للمخالف أنه غض منه.

قال رحمه الله: «…ومن عادة ابن مالك التعويلُ على اللفظة الواحدة تأتي في القرءان، ظاهرها جواز ما يمنعه النحويون، فيعوِّل عليها في الجواز ومخالفة الأئمة، وربما رشَّح ذلك بأبيات مشهورة أو غير مشهورة، ومِثْلُ ذلك ليس بإنصاف، فإن القرءان الكريم قد يأتي بما لا يُقاس مِثلُه، وإن كان فصيحا، وموجَّها في القياس لِقِلَّته…

وربما يظن من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم: “شاذ”، أو “لا يقاس عليه”، أو “بعيد في النظر القياسي”، أو ما أشبه ذلك، ضعيف في نفسه وغير فصيح، وقد يقع مِثل ذلك في القرءان فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك، وهم أولى -لعمر الله- أن يُشَنَّع عليهم، ويُمال نحوهم بالتجهيل والتقبيح؛ فإن النحويين إنما قالوا ذلك لأنهم لما استقْرَوْا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يُحذى حذوُها وجدوه على قسمين:

* قسم سَهُل عليهم فيه وجه القياس، ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال، وكثرة النظائر فيه، فأعملوه بإطلاق، عِلماً بأن العرب كذلك كانت تفعل في قياسه.

* وقسم لم يظهر لهم فيه وجه، أو عارضه معارض لقلته وكثرة ما خالفه، فهنا قالوا: “إنه شاذ”، أو “موقوف على السماع”، أو نحوَ ذلك؛ بمعنى أننا نتبع العرب فيما تكلموا به من ذلك، ولا نقيس غيره عليه، لا لأنه غير فصيح، بل لأنا نعلم أنها لم تقصد في ذلك القليل أن يقاس عليه، أو يغلب على الظن ذلك، وترى المعارض له أقوى وأشهرَ وأكثرَ في الاستعمال. هذا الذي يعنون، لا أنهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين، حاش لله! وهم الذين قاموا بفرض الذب عن ألفاظ الكتاب، وعبارات الشريعة، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم! فَهُم أشدُّ توقيرا لكلام العرب، وأشدُّ احتياطا عليه ممن يغمز عليهم بما هم منه براء. اللهم إلا أن يكون في العرب من بَعُد عن جمهرتهم، وباين بَحبوحة أوطانهم، وقارب مساكن العجم، أو ما أشبه ذلك ممن يخالف العرب في بعض كلامها، وأنحاء عباراتها، فيقولون: هذه لغة ضعيفة، أو ما أشبه ذلك من العبارات الدالة على مرتبة تلك اللغة في اللغات.

فهذا واجب أن يُعَرَّف به، وهو من جملة حفظ الشريعة والاحتياط لها، وإذا كان هذا قصدهم، وعليه مدارهم، فهم أحقُّ أن يُنسب إليهم المعرفة بكلام العرب ومراتبه في الفصاحة، وما من ذلك الفصيح قياس، وما ليس بقياس، ولا تضر العبارات إذا عرف الاصطلاح فيها…».

المقاصد الشافية، في شرح خلاصة الكافية: 3/456-457.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق