مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

من كلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

 

 

 

تقديم واختيار: ذ.نورالدين الغياط.

 لقد حَفظت لنا كتب التراجم والسير ومصادر الأدب عددًا من خطب الخلفاء والصحابة والتابعين، ومن هذه الخطب الجليلة الجامعة، وصية عمر بن الخطاب للخليفة من بعده لما تضمنته من مواد ونُظُم يُعتمد عليها في إقامة شعائر الدين وأحكامه، وَفْقَ ما حدده القرآن الكريم وبَسَطته السنة النبوية الشريفة. والتي تستمد معانيها مِن هدْي الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، وهي مَعَانٍ مِن وحي الفِطرة وتأثير القرآن والحديث الشريف، وقد استطاع عمر – رضي الله عنه – أن يَجمع في طريقة الأداء بين ما يتطلبه النص الأدبي مِن حسن اللفظ، وصفائه، وجزالته، وفخامته، ورِقَّته، وروعة المعنى، وتأثيره، وعمقه، وبُعدِه عن التعقيد.

عمر الفاروق

هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ابن لؤي، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي العدوي، الفاروق رضي الله عنه.  استشهد في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وأمه حنتمة بنت هشام المخزومية أخت أبي جهل، أسلم في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة. 

روى عنه: علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وعدة من الصحابة، وعلقمة بن وقاص وقيس بن أبي حازم، وطارق بن شهاب، ومولاه أسلم، وزر بن حبيش، وخلق سواهم.  وعن عبدالله بن عمر قال: كان أبي أبيض تعلوه حمرة، طوالا، أصلع، أشيب. 

وقال أبو رجاء العطاردي: كان طويلا جسيما، شديد الصلع، شديد الحمرة، في عارضيه خفة، وسبلته كبيرة، وفي أطرافها صهبة، إذا حزبه أمر فتلها. 

 وقال سماك بن حرب: كان عمر أروح، كأنه راكب والناس يمشون، كأنه من رجال بني سدوس. والأروح: الذي يتدانى قدماه إذا مشى. 

وقال أنس: كان يخضب بالحناء. 

وقال سماك: كان عمر يسرع في مشيته. 

ويروى عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان عمر يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ويثب على فرسه فكأنما خلق على ظهره. 

وعن ابن عمر وغيره من وجوه جيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعز الإسلام بعمر ابن الخطاب).

 وقال عكرمة: لم يزل الإسلام في اختفاء حتى أسلم عمر. 

وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إيها يا بن الخطاب فوالذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك)[1].  

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)[2].

وقال أنس: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُن}[3].[4]

لم يعرف التاريخ أعدل من عمر في إعطاء الحقوق وتصريف الأموال وتقسيم الأرزاق فالخروج عن ذلك معصية لله، ومعصية الله تسقط حقه في طاعة الناس له، فالحق عند الفاروق بيِّن لا شبهة فيه، وهو يخشى الله في الناس ولا يخشى الناس في الله.

  لقد كان عمر بن الخطاب يتميز بنفاذ بصيرة وبصدق عزم وبلاغة لسان، كما كان صفي رسول الله. وقد أعز الله به الإسلام في مكة حين أعلن ولاءه لرسوله، وما زال منقطعا إليه والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقربه منه ويتخذه موضع مشورته، حتى توفي وخلفه أبو بكر، فكان له نعم المعين، ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها في رجاحة عقل وقوة نفس، فقد كان الفاروق مهيب الجانب يرهبه المسلمون، ولم تكن رهبة العنف والظلم والقسوة، وإنما هي رهبة من الانحراف عن الصواب، فهي ليست رهبة مصحوبة بالرعب من الحاكم، وإنما هي الرهبة التي تخلق الأمن وتنشر الطمأنينة. فما كان عمر -رضي الله عنه- ليرضى أن يخرج من الرعية عن الطريق القويم وهذا ما نلاحظه في خطبه.

وفيما يلي درر من خطبه وكلامه رضي الله عنه:

وصيته للخليفة بعده:

أوصيك بتقوى الله لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرًا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرًا؛ فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيرًا؛ فإنهم درء العدو، وجباة الأموال والفيء، لا تحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرًا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن تأخذ مِن حواشي أموال أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً؛ أن تقاتل من ورائهم، ولا تُكلِّفهم فوق طاقتهم، إذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين طوعًا أو عن يدٍ وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه، ومخافة مقته، أن يطَّلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورهم، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم؛ فإن ذلك – بإذن الله – سلامة لقلبك، وحطٌّ لوزرك، وخير في عاقبة أمرك، حتى تفضي من ذلك إلى مَن يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك.

وآمرك أن تشتدَّ في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه، على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تُنتهك منه مثل ما انتهك من حُرَمه، واجعل الناس سواء عندك، لا تُبالِ على مَن وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المؤمنين فتجور وتظلم، وتحرم نفسك مِن ذلك ما قد وسَّعه الله عليك.

وقد أصبحت بمنزلة مِن منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعِفةً عما بسط الله لك، اقترفتَ به إيمانًا ورضوانًا، وإن غلبك عليه الهوى ومالت بك شهوة اقترفت به سخط الله ومعاصيه.

وأوصيك ألا تُرخِّص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وحضضتُك، ونصحت لك؛ أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترتُ من دلالتك ما كنتُ دالاًّ عليه نفسي وولدي، فإن عملتَ بالذي وعظتك، وانتهيتَ إلى الذي أمرتك أخذتَ به نصيبًا وافياً، وحظًّا وافراً، وإن لم تقبل ذلك ولم يهمك ولم تنزل معاظم الأمور عند الذي يَرضى الله به عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس كل خطيئة، والداعي إلى كل هلكة إبليس، وقد أضلَّ القرون السالفة قبلَك فأوردَهم النار، ولبئس الثمن أن يكون حظُّ امرئ موالاة لعدو الله، والداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخضْ إليه الغمرات، وكن واعظًا لنفسك، وأَنشُدُك الله لما ترحمت على جماعة المسلمين فأجللتَ كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقَّرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتُغضبهم، وتحرمهم عطاياهم عند محلها فتُفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث فتقطع نَسلَهم، ولا تجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تُغلق بابك دونهم فيأكل قويُّهم ضعيفَهم، هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام[5].

يتبع…

 

 


[1] أخرجه البخاري (3683)، ومسلم (2396) من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن زيد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، به.

[2]  أخرجه أحمد (5/ 382، 385، 402)، وفي فضائل الصحابة (478)، والحميدي (449)، وابن أبي شيبة (12/11)، والترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وابن سعد (2/ 334)، والطحاوي فيشرح مشكل الآثار (2/ 83-84)، وابن أبي عاصم في السنة (1148)، (1149)، والحاكم (3/ 75)، والخطيب في تاريخه (12/20)، وأبو نعيم في الحلية (9/109) من طرق عن عبد الملك بن عمير، به.

[3]  سورة التحريم: الآية 5.

[4]  أخرجه أحمد (1/ 24، 36-37)، وفي فضائل الصحابة(434، 435، 437)، والبخاري (4483، 4790، 4916)، والترمذي (2959، 2960)، وابن ماجه (1009)، والبغوي (3887) من طرق عن حميد الطويل، عن أنس، به.

[5] البيان والتبيين للجاحظ 2/ 47- 48، تحقيق وشرح: عبدالسلام هارون، ط4. سير أعلام النبلاء: 2/379-449.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق