مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب توجيه قوله تعالى: قوله تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ” [الروم: 43]، و قوله سبحانه: “اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ” [الشورى: 47].

بسم الله الرحمن الرحيم لحظ مساق آي التنزيل مسعف في توجيه متشابه لفظه، ثم هو مسلك قاصد لتدبر معانيه، وتلك غاية تنزله كما أخبر عنه منزله؛"كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب" [ص:29]، فَتفرُّق الناس يوم القيامة إلى القبيلين حقيقة واقعةلا محالة، ومنهج القرآن التذكير بها في غير ما مناسبة؛ ليختار المرء لنفسه أقوم النجدين، قال تعالى: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا" [فاطر:34-36] وقال سبحانه: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" [الزمر:7] وقال أعز من قائل: "وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" [يس:59] والنجاة إسلام الوجه لله في هذه، والاستجابة لداعيه، وإقامة الوجه لله استعارة تمثيلية تشبه العاكف على أمر مولاه، الحافظ لحدوده، المبادر إلى محبوباته، المراقب لخواطر نفسه وإيحاءات وجدانه، بمن تهمم بأمر مادي فجند وسائله وأسبابه لتحصيله، وصابر نفسه لتحقيقه، فهو مقيم على تحصيل مراده لا يصـرفه شيء عنه، قال ابن عطية: "وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، و(حنيفا) معناه: معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة" واستعمال الوجه في الاستسلام والانقياد لله رب العالمين منهج القرآن في التعبير عن الإذعان والخضوع كقوله تعالى: "وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [الأعراف: 29] وقوله حكاية عن إبراهيم: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْـرِكِينَ " [الأنعام: 79] وقوله تعالى: "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ " ءال عمران: 20] . فتكون الإقامة بهذا المعنى هي الاستجابة في مدلولها الشامل، إذ كل مقيم وجهه لله مستجيب، وليس كل مستجيب مقيما، لما قد يعتري الاستجابة من الانشغال بشـيء آخر قد يعكر على العبد جمعيته، فأول منازل العبدية في طريق التذلل لله رب العالمين الاستجابة، وأول أحوال المستجيب أنه آت ليستكنه خبر المدعوَّ إليه، فلما يتعرفه ويتلمس أسراره يقبل عليه ثم يقيم عليه، فإذا أقام نفسه على نهجه وذاق طعمه عز عليه أن يبرح مسلكه، وشعر بشدة الحاجة إليه، وأنه لا حياة له بدونه، وهذا الافتقار هو الذي يخلع على العبد حريته، ويذيقه حلاوة الإيمان، ويطرب قلبه وهو يرتقي في مقامات الإحسان، فهو قوت القلوب وحياة الأرواح كما أسماه ربنا في مقام آخر "يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" [الأنفال:24] فتكون بين الاستجابة وإقامة الوجه لله بهذا المعنى عموم وخصوص من وجه، فكل مقيم وجه لله مستجيب، وليس كل مستجيب قد أقام وجه لله واستقام على أمره، قال الطاهر بن عاشور: "وإقامة الوجه: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يمينا ولا شمالا، وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يمنة ولا يسـرة.. أي: أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره." هذا وقد انصرفت همة أحمد بن الزبير الغرناطي عند هذه الآية في كتابه الذي أودع فيه أنفاسه التوجيهية لآي الذكر المتشابه لفظه، "ملاك التأويل"، إلى توجيه ما بعد قوله تعالى: "من قبل أن يأتي يوم لا مرد له" وهو قوله تعالى في الأولى: "يومئذ يصدعون" و في الثانية "ما لكم من ملجإ يومئذ"، وإن مما يستوقف الناظر فيهما تصدير الأولى بقوله تعالى: "فأقم وجهك.." والثانية بقوله تعالى: "استجيبوا لربكم" ولذلك أدلفت بين يدي الكلام بهذا البيان، قال رحمه الله: "الآية الرابعة من سورة الروم قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" [الروم: 43]، وفي سورة الشورى قوله تعالى: "اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ" [الشورى: 47]، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما وقع به الإتباع في الآيتين فقيل في الأولى: "يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" وفي الثانية: "مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ"؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الروم إنما أعقبت بقوله: "يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" تمهيداً لما اتصل بها من تفصيل الأحوال في قوله: "مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ" [الروم: 44]، لأن تصدعهم يراد به افتراقهم كما في قوله تعالى: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ" [الروم: 14]، فالمراد يومئذ يصدعون إلى ما أعد لكل منهم بحسب مرتكَبه وحاله في كفره وإيمانه، وقد تضمن قوله: "فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ" جزاؤه، وأشار إلى تفصيل أحوالهم في عذابهم كل بحسب مرتكبه: "جَزَاءً وِفَاقًا" [النبأ:26] وكان الكلام في قوة أن لو قيل: فعليه مطابق كفره من العذاب، وكذلك تضمن قوله في الناجين: "وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ" من تفصيل الأحوال في الثواب كل بحسب ما مهد لنفسه كما في قوله: "إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [الطور: 16]، فعبر عن ذلك بأوجز عبارة وأوفاها بالمقصود، وقدمت الإشارة إلى ذلك التفصيل في الطرفين بقوله: [يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ]. وأما آية الشورى فإنه تقدم قبلها قوله تعالى: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ" [الشورى: 44]، والولي من يرجع إليه انضواء واعتماداً، ثم قال تعالى مخبراً عن الظالمين في نفي الولي والنصير عنهم: [وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ" [الشورى: 46]، فلما نفى عنهم الأولياء الناصرين والسبيل إلى التخلص ناسب ذلك أمره تعالى العباد بالاستجابة له فقال: "اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ" [الشورى: 47] أي: أنه آت لا محالة: "مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ" أي: من ولي ترجعون إليه أو يدفع عنكم، "وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ" أي إنكار، فلا تعلق لكم ولا ينفعكم إنكاركم إن تعلقتم، فحذر تعالى عباده من حال الظالمين في عدم الولي والناصر، وأمرهم بالاستجابة قبل التورط وانقطاع الطمع والرجاء في التخلص، وعدم جدوى الإنكار لمن ظن التعلق به، فحذرهم مما امتحن به غيرهم بعد ذكر حال من امتحن، فناسب ذلك كله أوضح تناسب" .

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق