من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى:" يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " [براءة:32]
قوله سبحانه: " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " [الصف:8-9]
من الآي الضامنة لانتشار رسالة الإسلام، وهيمنتها على سائر الأديان، آيتا براءة وسورة الصف، وذلك قوله تعالى : "يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْـرِكُونَ" [التوبة:32-33]، وقوله تعالى في السورة الصف: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُُّ نُورَهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْـرِكُونَ" [الصف:8-9] وكلتا الآيتين صيغتا بأسلوب الاستعارة الأصلية الترشيحية، التي تصور هداية الله لخليقته بالنور العظيم الذي يروم قاصرو النظر وضعيفو الاطلاع حجبه وطمسه، بوسيلة هي من الهزال والضعف بمكان،"بِأَفْوَاهِهِمْ"، ولا يخفى ما فيها من التهكم بمن تحدثهم نفوسهم إخفاء نور الله العظيم؛ الذي شاء له منوره أن يعم سائر الأركان وينير كافة الأرجاء، ونور الله الدلائل الناطقة بوحدانيته، الداعية لزوما إلى الانضواء تحت لوائه، قال الفخر: "والمراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته، وهي أمور كثيرة جدا:
أحدها: المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده، فإن المعجز إما أن يكون دليلا على الصدق أو لا يكون، فإن كان دليلا على الصدق، فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق، فوجب كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام.
وثانيها: القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب، وذلك من أعظم المعجزات.
وثالثها: أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه، والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا، والترغيب في سعادات الآخرة، والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه.
ورابعها: أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب، فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله، وليس فيه دعوة إلى غير الله، وقد ملك البلاد العظيمة، وما غير طريقته في استحقار الدنيا، وعدم الالتفات إليها، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك، فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله."[1]
وتسميتهم بالكافرين على ما توحي به الدلالة اللغوية، التي هي الستر والحجب والتغطية، فكأن الكافر يستر البراهين ويحجبها مكابرة وجحودا، وقد قال تعالى في هذا الصنف: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" [النمل:14] قال ابن كثير: "الكافر: هو الذي يستر الشـيء ويغطيه، ومنه سمي الليل "كافرا"؛ لأنه يستر الأشياء، والزارع كافرا؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال: { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد: 20][2].
والآيتان محكمتان تصوران ما يبيته الخصوم من كراهية لهذا الدين عبر الحقب والأزمان، وذلك بشتى الوسائل والأسباب الصارفة لنفاذ النور إلى شغاف القلوب، وإن المتتبع لمسيرة الدين وتاريخه بين الأمم والشعوب ليقف على نماذج من هذه المعارك والمناوشات، حتى إنه ليخيل إليه أنه قد أحيط بالدين وأهله، ثم يأتي موعود الله بالنصر و التمكين، تقريرا لسنة المدافعة الكونية بين القوى، فما هو حتى يتلاشى انتفاش الباطل، ويتراءى لك الحق يشق طريقه في شموخ وثبات، قد هد أركان الطغيان، وقوض بنيانه من الأساس، وقد وقف صاحب الظلال عند آية براءة وقفة كاشفة لسيرورة العداء وصيرورته، وأشكاله عبر الأمم السالفة؛ و مذ تنزلات الوحي الأولى، ومن فجر الإسلام إلى الحملات الصليبية وما بعدها بما يجلى الحقد الدفين الذي ينفثه أعداء هذا الدين متى ما سنحت لهم الظروف، و أتيحت لهم الفرص، معززا تتبعه بشهادات المستشـرقين المصنفين عن الإسلام وحضارته [3].
وليس القصد هنا تبيان هذه العداوة أوتبريز مظاهرها، وإنما قصدنا أصالة رسم مسلك التمهر بالقرآ ن، وتمكين تُلاته من عُدَّة إحكام لفظه؛ بتوجيه التشابه بين الآيتين، ليسهل على الحافظ ضبط أوجه المفارقة بين الآيتين، ويقف على أسرار التباين بينهما، وكما عهدنا نستضيء في ذلك بتوجيه فارس التشابه أحمد بن الزبير الغرناطي، يقول رحمة الله عليه:
"الآية الثالثة قوله تعالى: " يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " [براءة:32] وفى سورة الصف: " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُُّ نُورَهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " [الآية:8] ومعنى الآيتين في السورتين واحد، وقد زادت آية براءة على آية الصف عشرة أحرف صورا، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟
والجواب عنه والله أعلم: أن زيادةَ آية براءة مقابلٌ بها ما ورد من الطول في المحكي في هذه السورة؛ من قول الطائفتين من اليهود والنصارى، قال تعالى حاكيا عنهم: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله " [التوبة:30] فوقع في المحكي هنا طول، اقتضى ما بني جوابا عليه ليتناسب.
وأما آية الصف فمقابلٌ بها قول عيسى عليه السلام لما قال لهم: "يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" ثم قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" [الآية:6] وإنما الجواب على المحكي من قولهم خاصة وهو قولهم: "سِحْرٌ مُبِينٌ" وليس هذا في الطول وعدة الكلم المحكي في سورة براءة، ألا ترى أن الواقع في سورة براءة ست كلمات، وفى الصف ثلاث كلمات، ثم إن الواقع في سورة براءة مقال طائفتين منهم اليهود والنصارى مفصحا به، والواقع فى الصف مقالة طائفة واحدة، وهذا مراعى، فقد وضح ورود كل من الآيتين مناسبا لما اتصل به وعلى ما يجب فى السورتين.
والله أعلم بما أراد."[4]
[1] مفاتيح الغيب، 16/32.
[2] تفسير ابن كثير، 4/136.
[3] ينظر ظلال القرآن، 3/1643 وما بعدها.
[4] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، 1/228-229.