مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

توجيه قوله تعالى في سورة هود: لا جرم أنهم في الأخرة هم الأخسرون

وقوله تعالى في سورة النحل:  لا جرم أنهم في الأخرة هم الخسرون

الخسارة كلمة مؤذنة بفشل، ومنبئة عن خيبة أمل، وهي دون شك موقعة في حسـرة ونكبة، ولذلك  فكل الناس يتلافاها، ويحذر أسبابها و يتوقاها.. وأنجع مسلك لتلافيها التخطيط المحكم، والدراسة الواعبة، والنظر المتأمل الفاحص.. إلا أن  الناظر في الكتاب يلحظ أنه يفرق بين نوعين من الخسارة؛ خسارة عاجلة، وخسارة آجلة، ويخبر أن الثانية أشد وأنكى،  “قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِـرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ”[الزمر:15] قال أبو حيان: “أي حقيقة الخسران، الذين خسروا: أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسـرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة: كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل” [1]

وكذلك هو، فالخسارة الدنيوية مستعاضة، والخسارة الأخروية مستدامة، نسأل الله العفو والعافية، وإنما أدلفت بهذه التوطئة بين يدي آيتين تقرران هذه الحقيقة، ورد في إحداهما الإخبار بخسران القيامة بصيغة التفضيل، والأخرى ورد فيها الإخبار بزنة اسم الفاعل، مما جعلهما من قبيل متشابه الكتاب، الأولى موضع هود:  “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسـرونَ” [الآية: 22]، والثانية موضع النحل: “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ” [النحل: 109]، لتوجيه تغاير أسلوبهما، ولعل تتبع المساق في كل منها يرفع اللبس، فآية هود ورد قبلها ما يفيد المفاضلة بين القبيلين.. فناسب تذييلها بما يفهم بالمفاضلة، وآية النحل جرت فيها الآية على رعي الفاصلة.

وبسط القيل نورده من كلام ابن الزبير، قال رحمه الله:

“الآية الثالثة منها قوله تعالى: “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسـرونَ” [هود: 22]، وفي سورة النحل: “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ” [النحل: 109]، للسائل أن يسأل عن وجه تخصيص آية هود بقوله: الأَخْسـرونَ ، وآية النحل بقوله: الْخَاسِرُونَ؟ وهل كان يمكن العكس؟

والجواب: أن آية هود تقدمها ما يفهم المفاضلة، ألا ترى أن قوله تعالى: “أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ” [هود: 17]، الآية يفهم من سياقها أن المراد أفمن كان على بينة من ربه كمن كفر وجحد؟ وكذب الرسل؟ ثم أتبع هذا بقوله: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً” [هود: 18]، فهذا صريح مفاضلة، ثم استمرت الآي في وصف مَن ذكر، وعرضهم على ربهم، وقول الأشهاد: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ  الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ” [هود: 19- 18] إلى ذكر مضاعفة العذاب لهم، واستمر ذكرهم إلى قوله: “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ” [هود: 22]، فناسب لفظ الأخسرين بصيغة التفاضل، ومقصود التفاوت ما تقدم مما يفهم ذلك من قوله تعالى: “أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ” [هود: 17]، وأفعل من كذا في قوله: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى” [هود: 18]، فالآيات من لدن قوله: “أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ” إلى قوله: “هُمْ الأَخْسَرُونَ” مبنيات على ما ذكرناه غير خارجة عن هذا المقصود، ولو ورد هنا الخاسرون مكان الأخسرين لتنافر النظم، وتباين السياق، ولم يتناسب.

وأما آية النحل فلم يقع قبلها أفعل التي للمفاضلة والتفاوت ولا ما يفهمهما، وإنما قبلها “إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ” [النحل: 105- 104]، وبعد هذا:  [وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” [النحل: 107]، وبعد هذا: “وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ”، فتأمل هذه الفواصل واتفاقها في اسم الفاعل المجموع جمع السلامة في قوم متفقي الأحوال في كفرهم، إلى أن ختم وصفهم وما قصد من ذكرهم بقوله: “لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ”، فتناسبت الآي في السياق والفواصل، وختمت بمثل ما به بدأت، ولم يكن ليناسب ما ورد هنا لفظ المفاضلة، إذ ليس في الكلام ما يستدعي ذلك لا من لفظه ولا معناه، ووضح اختصاص كل من العبارتين بمكانه، وإن العكس لا يلائم، والله أعلم”.[2]

 

[1] البحر المحيط، 9/191.

[2] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، 2/512-513.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق