مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

منهج النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة الموارد المائية.

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه

تفعيلا لتوجيهات سيدنا المنصور بالله أمير المؤمنين أيده الله في المحافظة على الثروة المائية للمملكة المغربية الشريفة، وعقلنة استهلاك الموجود منها، والتحلي بروح المسؤولية الكاملة في ذلك، خصوصا توجيهات جلالته في خطاب عيد العرش المجيد لسنة 2024 الذي يوافق الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك سيدنا محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، والذي وجه فيه جلالته إلى أن التحديات التي تواجه المملكة الشريفة في مجال المياه "تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير"- كما جاء في النطق السامي- ينشر مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش التابع للرابطة المحمدية للعلماء مقالات في موضوع قيمة الماء والمحافظة عليه، استلهاما من الهدي النبوي الشريف، تُنشر ابتداء من تاريخه تباعا.

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      إن من حكمة الله تعالى أن منَّ على عباده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، مصداقا لقول الله  سبحانه: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ([1])، ومن بين هذه النعم: "نعمة الماء"،  الذي لا يمكن الاستغناء عنه،  فلولاه ما عاش إنسان، ولا نبات ، ولا حيوان، على وجه الأرض،  مصداقا لقول الله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) ([2])، وقوله تعالى :  (والله خلق كل دابة من ماء) ([3])، ولشرف هذه النعمة فقد قرنها الله تعالى بعرشه فقال: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ([4])، ووصف الفردوس بأنه: (جنات تجري من تحتها الأنهار) ([5])، كما  دعا  إلى المحافظة عليها وذلك بالاعتدال في استغلالها فقال: (وكولوا واشربوا ولا تسرفوا  إنه  لا يحب المسرفين) ([6])، وهو ما نجده في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، والتي  دعت بدورها  إلى المحافظة عليها من التلوث والضياع،  وبينت سبل الاستفادة منها.

إن ما يواجه العالم اليوم من مشكلات مائية، ما هو إلا نتيجة الاستغلال السيء لهذه النعمة العظيمة، فأصبح الشح المائي في عصرنا الحالي  واقعا ملموسا، وعليه فإن الحفاظ على هذه النعمة ضرورة مجتمعية،  وواجب من الواجبات، التي لا ينبغي التقصير فيها ، لهذا جاء هذا المقال ليبين منهج النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خير ما نقتدي به-  في إدارته للموارد   المائية ؛ وذلك من خلال مجموعة من التدابير والتوجيهات والوصايا النبوية في هذا الشأن، وهو ما أود أن أبرزه –بمشيئة الله- وفق النقاط الآتية:

أولا: ضمان الأمن المائي للجميع.

ثانيا: الاستخدام الأمثل للموارد المائية من خلال:

1-ترشيد الاستهلاك.

2-حماية الموارد المائية من التلوث.

ثالثا: التنظيم وحسن التوزيع.

لكن قبل ذلك لابد من الإشارة اللطيفة إلى مفهوم إدارة الموارد المائية لغة واصطلاحا، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

تمهيد: مفهوم إدارة الموارد المائية:

التعريف بمفردات المصطلح

1-تعريف الإدارة لغة واصطلاحا:

الإدارة لغة: قال ابن فارس:  في مادة "دور" : الدال، والواو ، والراء،  أصل واحد يدل: على إحداق الشيء بالشيء من حواليه" ([7]).

الإدارة اصطلاحا: "هو فن تدبير الأعمال، وتوجيهها، والسيطرة عليها وضبطها، واستعمال الحكمة في اتخاذ قرارات مناسبة بشأنها" ([8]).

2- تعريف الموارد لغة واصطلاحا:

الموارد لغة: المجاري والطرق؛ قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: " الموارد: الطرق، وكذلك المياه المورودة والقرى، قاله أبو عبيدة" ([9]).

وجاء في لسان العرب: "الموارد أي: المجاري والطرق إلى الماء، واحدها: مورد، وهو مفعل من الورود. يقال: وردتُ الماء أرِدُه ورودا: إذا حضرته لتشرب، والورد: الماء الذي ترد عليه([10]).  

واصطلاحا: لها نفس المعنى اللغوي .وهي عبارة عن: "المجاري والطرق إلى الماء ، والورد: الماء الذي ترد عليه"([11]).

3-تعريف المائية لغة واصطلاحا:

المائية : والماء  معروف أصله في اللغة ماه -بالهاء-   قال ابن فارس: " الميم، والواو، والهاء، أصل صحيح واحد، ومنه يتفرع كَلِمُهُ، وهي: الموه، أصل بناء الماء، وتصغيره: مويه، قالوا: وهذا دليل على أن الهمزة في الماء بدل من هاء. يقال: موهت الشيء، كأنك سقيته الماء." ([12]).

وفي الاصطلاح:  عرفه الكفوي بقوله: " الماء: جسم رقيق مائع به حياة كل نام "([13]).

منهج النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة الموارد المائية:

أولا : ضمان الأمن المائي للجميع.

     ونقصد به:  توفير إمكانية وصول الجميع إلى المورد المائي،  الذي يعد من الحقوق الأساسية لجميع الكائنات الحية في هذه الحياة، بما في ذلك الإنسان،  والحيوان، والنبات، فيحرم منعه وحبسه كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يمنعن الماء ،والكلأ، والنار" ([14]).

قال الخطابي: معناه الكلأ ينبت في موات الأرض، يرعاه الناس ليس لأحد أن يختص به دون أحد  ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا غزا الرجل منهم حمى بقعة من الأرض لماشيته ترعاها يذود الناس عنها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم  ذلك وجعل الناس فيها شرعا يتعاورونه بينهم، فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه فهو مال له ليس لأحد أن يشركه فيه إلا بإذنه. وأما قوله والنار فقد فسره بعض العلماء وذهب إلى أنه أراد به الحجارة التي توري النارقيل: والمراد بالنار : الحجارة التي توري النار" ([15]).

وقال السندي: "والمشهور بين العلماء أن المراد بالكلأ هو: الكلأ المباح الذي لا يختص بأحد ، وبالماء: ماء السماء، والعيون، والأنهار، التي لا مالك لها، وبالنار: الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه، فالماء إذا أحرزه إنسان في إنائه وملكه، يجوز بيعه، وكذا غيره"([16]).

وليس للمسلم أن يمنع الفائض من الماء؛ بل عليه أن يسمح للغير بالانتفاع به؛ حيث أقر عليه الصلاة والسلام خطورة هذا الأمر ، متوعدا  المانعين بالحرمان من فضل الله تعالى عليهم يوم القيامة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل  يداك "([17]). قال العيني: "منع فضل ماء أي: يمنع الناس من الماء الفاضل عن حاجته"([18]).

وبالمقابل  نجد الأجر العظيم ينتظر ساقي الماء  لأي من المخلوقات، ويظهر ذلك جليا من خلال حديث  أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركَّى يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء ، فغفر لها بذلك"([19]).، وعنه أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فوجد كلبا يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له ، قالوا: "يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر" ([20]).

بل هو مأجور على ما تسقى البهائم من مائه في كل الأحوال، حتى وإن لم يقصد سقيها مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، ... ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي كل ذلك حسنات له فهي لذلك أجر"([21]).

لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتوفير المياه لمدينته، ودعا إلى حفر الآبار، أو شرائها ووقفها ، لحاجة الناس إليها؛ وخير ما نستدل به في هذا المقام "بئر رومة" الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة أجرا لمن اشتراها؛ فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وجعلها وقفا  على المسلمين، قال عثمان: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين فاشتراها عثمان رضي الله عنه"([22]).، أو حفرها كما في رواية أخرى عن أبي عبد الرحمن، أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة،  فحفرتها.. "([23]).

قال ابن بطال: " وهو وهم ...،  والمعروف أن عثمان اشتراها،  لا أنه حفرها" ([24])، وقال ابن حجر: "قلت : هو المشهور في الروايات .. وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه"([25]).

و"بئر حاء " التي كانت ملكا للصحابي أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه فتصدق بها على قرابته؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ([26])، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله ،فقال: بخ ذلك مال رابح، أو رايح -شك ابن مسلمة- وقد سمعت ما قلتَ ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وفي بني عمه"([27]).

ثانيا:  الاستخدام الأمثل للموارد المائية

1- ترشيد الاستهلاك:

    إن الإسراف في الماء يعد من أخطر القضايا البيئية، وقد نهانا الإسلام عن ذلك، لعموم النهي عن الإسراف كما في قول الله تعالى : (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ([28])، وقوله تعالى: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) ([29])،  كما جعل التبذير  صفة ملازمة للشياطين في قوله تعالى: (ولا تبذر  تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) ([30]).

  لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التوسط والاعتدال في استهلاك الثروة المائية؛ حتى في فروض العبادة، فكان  يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، كما ذكر ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "يغسل، أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد"([31])، ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم ذم المعتدين في الوضوء والغسل كما في حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم"([32])، وفي حديث عبد الله بن مغفل الذي سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء"([33]).

قال العلامة محمد شمس الحق العظيم آبادي في شرحه: " فالاعتداء في الطهور؛ بالزيادة على الثلاث وإسراف الماء، وبالمبالغة في الغسل إلى حد الوسواس، أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو في شاطئ البحر "([34]).

والاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه، يعد من الضوابط التي  اعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم ليس فقط في الوضوء والطهارة، وإنما  في استخداماته الأخرى للماء، داعيا إلى ذلك  كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربو والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة ، وقال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف، أو مخيلة "([35])؛  ولأن التمتع بخيرات الله أمر أباحه الله؛ لكن شريطة ترك السرف،  مصداقا لقول الله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ([36]).

2- حمايتها من التلوث:

   لقد نصت السنة النبوية في العديد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالاهتمام بالموارد المائية، فنهى عن تلويثها ؛ لما لذلك من أثر سلبي على الحياة،  ومما جاء في هذا الصدد حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه: "نهى أن يبال في الماء الراكد" ([37]) ، وهو : "الماء الدائم" كما في لفظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"([38])،قال ابن الأثير  في تفسيره للماء الراكد:  "هو الدائم  الساكن الذي لا يجري"([39]) ؛ لأن البول في الماء الراكد يتأثر ، فيكون نجسا، ولذلك سد النبي صلى الله عليه وسلم الذريعة ونهى عن هذا الفعل.  قال النووي: "وإن كان الماء كثيرا راكدا .. فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحققين والأكثرين من أهل الأصول، وفيه من المعنى أنه يقذره، وربما أدى إلى تنجيسه بالإجماع لتغيره ...،  أما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه؛ لأنه ينجسه ويتلف ماليته ويغر غيره باستعماله والله أعلم "([40]).

كما يتجلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم في المحافظة على نظافة الموارد المائية حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اتقوا الملاعن الثلاث"، قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: "أن يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء"([41]).

بل ويكره  البول والبراز بقرب الماء مخافة أن يصل إليه،  قال النووي: "وقال العلماء: ويكره البول والتغوط بقرب الماء، وإن لم يصل إليه لعموم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن البراز في الموارد،  ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء.  والله أعلم " ([42]).

ولم يقتصر الأمر على هذا الجانب فحسب، بل تعداه إلى ـأن أمر صلى الله عليه وسلم بتغطية الأواني المخصصة للماء حفاظا لها من التلوث وهو ما يؤكده حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء"([43])، كما جاءت أحاديث مانعة من كل ما يغير طبيعة الماء، فكان ينهى  عن اختناث الأسقية والشرب من أفواهها([44])،  أو التنفس فيها([45]).

ثالثا: التنظيم، وحسن التوزيع.

     اتسم منهج النبي صلى الله عليه وسلم في إدارته للموارد المائية بالتنظيم وحسن التوزيع؛  إن على مستوى الفرد أو المجتمع ؛ فأقر مبدأ الشراكة في المياه، فليس لأي أحد الاستيلاء عليه دون غيره، ويؤكده الحديث السابق ذكره:  " ثلاثة لا يمنعن الماء ،والكلأ، والنار" ([46]).

وحينما قضى صلى الله عليه وسلم في سقي الأراضي الواقعة قرب النهر  والتي تسقى بمياهه ؛ بأن تسقى الأراضي الواقعة في المناطق العالية من النهر أولا، قبل الأراضي الواقعة في المناطق المنخفضة، مع تحديد مقدار حجم الماء المحجوز في أراضي المناطق العالية إلى الكعبين، حين قال: "يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل" ([47])، ما هو إلا نوع من أنواع تنظيم الري وتوزيع المياه في الزراعة لفض أي نزاع ، ودليل ذلك ما وقع  للزبير  بن العوام رضي الله عنه  عندما اختلف مع رجل من الأنصار في شراج من الحرة يسقي بها النخل، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:  " اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ... "([48])، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل، أن الأعلى فالأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين،  ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه،  وكذلك، حتى تنقضي الحوائط، أو يفنى الماء ([49]).

ومن الإجراءات التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في مياه الأوقاف -وهو خير ما نختم به هذا المقال-  أنه حق مشترك بين جميع الناس، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين"([50]) .

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-الماء نعمة من نعم الله تعالى التي وجب الحفاظ عليها.

2- الماء حق مشترك لجميع الكائنات على وجه الأرض ؛ بما في ذلك الإنسان، والحيوان ، والنبات.

3-أن المسلم لا يحق له منع الماء، كما لا يحق له منع الفاضل منه عن حاجاته.

4-أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتوفير المياه لمدينته ودعا إلى حفر الآبار وشرائها ووقفها.

5-من هدي النبي صلى الله عليه وسلم : التوسط والاعتدال في استخدام الثروة المائية.

6-أن الاقتصاد في الماء يعد من أهم الضوابط التي اعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بما في ذلك العبادات.

7-من منهج النبي صلى الله عليه وسلم : النهي عن تلويث الماء لما له من أثر سلبي على الحياة.

9- أن إدارة النبي للموارد المائية تتميز بالتنظيم وحسن التوزيع حفاظا على تماسك المجتمع، وفض أي شكل من أشكال النزاع الذي قد يقع.

الحمد لله الذي بنعمته التي تتم الصالحات.

***************

هوامش المقال:

([1]) سورة النحل من الآية (18).

([2])  سورة الأنبياء  من الآية (30).

([3])  سورة النور من الآية (43).

([4])  سورة هود  من الآية (7).

([5])  سورة البقرة من الآية  (24).

([6])  سورة الأعراف من الآية  (29).

([7])  معجم مقاييس اللغة (2 /310) مادة: "دور".

([8])  معجم اللغة العربية  لمختار (1 /782).

([9])  معجم مقاييس اللغة (6 /105)، مادة: "ورد".

([10])  لسان العرب (3 /457) مادة: "ورد".

([11])  عون المعبود (1 /22).

([12])  معجم مقاييس اللغة (5/ 286) مادة: "موه".

([13])  الكليات (ص: 873).

([14])  أخرجه ابن ماجه في سننه (4 /109)، كتاب: الرهون ، باب: المسلمون شركاء في ثلاث، برقم: (2473) قال ابن حجر: "وإسناده صحيح".  فتح الباري (5 /42) .

([15])  معالم السنن (3 /129)، ونقله  عنه ابن حجر في فتح  الباري (5 /42).

([16])  شرح سنن ابن ماجه (2 /91-92).

([17])  أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 394) كتاب : التوحيد، باب: قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) ، برقم: (7446).

([18])  عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 135) .

([19])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /448)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، برقم: (3321).

([20])  أخرجه البخاري في صحيحه (4 /93) كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، برقم: (6009)، ومسلم في صحيحه (2/ 1068)، كتاب: السلام، باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم: ((153)(2244)) واللفظ للبخاري.

([21])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /167) ، كتاب المساقاة، باب: شرب الناس والدواب من الأنهار، برقم: (2371).

([22])  أخرجه البخاري في صحيحه معلقا  (2 /162) ، كتاب الشرب والمساقاة، باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة مقسوما كان أو غير مقسوم.

([23])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /298-299) ، كتاب الوصايا، باب: إذا وقف أرضا أو بئرا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين، برقم: (2778).

([24])  شرح ابن بطال (8 /203).

([25])  فتح الباري (5 /498).

([26])  سورة آل عمران الآية: (91).

([27])  أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 296)، كتاب: الوصايا، باب: إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود ، برقم: (2769)، ومسلم في صحيحه (1/ 445)، كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين، ولو كانوا مشركين برقم: ((42)( 998)) واللفظ للبخاري .

([28])  سورة الأعراف من الآية : (29).

([29])  سورة غافر من الآية : (28).

([30])  سورة الإسراء من الآية : (26) و الآية: (27).

([31])  أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 85)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء بالمد، برقم: (201)، ومسلم في صحيحه (1/ 158) ، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، رقم: ((51)(325)). واللفظ للبخاري.

([32])  أخرجه أبو داود (1/ 95)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا، برقم: (135) ، والنسائي (ص: 24-25) كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، برقم : (140) وهذا لفظه.

([33])  أخرجه أبو داود في سننه (1/ 71)، كتاب: الطهارة، باب: الإسراف في الماء، برقم: (96) بهذا اللفظ، وللحديث طرق أخرى اختلف فيه على حماد بن سلمة  انظرها في الأمالي المطلقة لابن حجر وهو حديث حسن . كما قال . الأمالي المطلقة (ص: 17).

([34])  عون المعبود (1/ 71).

([35])  أخرجه البخاري في صحيحه معلقا (4/ 53)، كتاب:  اللباس، باب: قول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده).

([36])  سورة الأعراف من الآية: (29).

([37])  أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 143)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، برقم: ((94)(281)).

([38])  أخرجه البخاري في صحيحه (1 /96) كتاب: الوضوء، باب: البول في الماء الدائم، برقم: (239)، ومسلم في صحيحه (1/143)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، برقم: ((95)(282)) واللفظ له.

 ([39])  النهاية في غريب الحديث والأثر (3 /258) ، مادة: "ركد".

 ([40])  صحيح مسلم بشرح النووي (2 /191).

 ([41])  أخرجه أحمد في مسنده (4 /448-449) برقم: (2715) بإسناد ضعيف لأن فيه راو مبهم ، إلا أن له شواهد تقويه ومن شواهده:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يشهد لطرفه الثاني بلفظ: (اتقوا اللعانين قالوا : وما اللعانان يا سول الله ؟ قال:" الذى يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم " . أخرجه  مسلم في صحيحه (1 /137)، كتاب: الطهارة، باب:  النهي عن التخلي في الطرق والظلال برقم: (68)(269).

وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له (1/ 21) كتاب الطهارة ، باب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول، برقم (26) ، وابن ماجه في سننه (1/ 290) كتاب: الطهارة باب: النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، برقم: (328) ، والحاكم في المستدرك (1/273)، برقم: (594) وغيرهم، وإسناده ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في  التلخيص  ( 1/ 184 ): صححه ابن السكن والحاكم وفيه نظر؛ لأن أبا سعيد الحميري لم يسمع من معاذ .

 ([42])  صحيح مسلم بشرح النووي (2 /191) .

 ([43])  أخرجه مسلم في صحيحه (2 /970)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم الله عليها وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب، برقم: (99)(2014).

 ([44])  ينظر حديث أبي سعيد الخذري أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 20)، كتاب: الأشربة، باب: اختناث الأسقية برقم: (2625)، ومسلم في صحيحه (2 /973)، كتاب: الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم:  (111)(2023)

 ([45])  ينظر حديث أبي قتادة أخرجه مسلم في صحيحه (2 /974)، كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في الإناء برقم (121)(267).

([46])  تقدم تخريجه.

 ([47])  موطأ مالك  (2 /288)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء في المياه ، برقم: (2168).

 ([48])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /165) كتاب: المساقاة، باب: شرب الأعلى إلى الكعبين، برقم : (2362).

 ([49])  أخرجه ابن ماجه (4 /114-115) كتاب: الرهون، باب: باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء برقم : (2483).

 ([50])  تقدم تخريجه.

***************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الأمالي المطلقة. لأحمد بن حجر العسقلاني. تحقيق وتعليق: حمدي بن عبد المجيد بن إسماعيل السلفي. المكتب الإسلامي. ط1 /1416هـ- 1995مـ.

تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني. اعتنى به: أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب. مؤسسة قرطبة- دار المشكاة. ط1 خاصة بمؤسسة قرطبة 1416هـ- 1995مـ.

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه، وتصحيحه، وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه، وأبوابه، وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه، وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1 /1400هـ.

سنن ابن ماجه. لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د. بشار عواد معروف. دار الجيل بيروت. ط1/ 1418هـ- 1998مـ.

سنن أبي داود. لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي. حققه، وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- محمد كامل قرو بللي. دار الرسالة العالمية  سوريا. ط1/ (طبعة خاصة) 1430هـ- 2009مـ.

سنن النسائي (في مجلد واحد). لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي. تحقيق: رائد بن صبري ابن أبي علفة. دار الحضارة  الرياض.ط2/ 1436هـ- 2015مـ.

شرح سنن ابن ماجه القزويني. لأبي الحسن الحنفي المعروف بالسندي. دار الجيل بيروت (د.ت).

شرح صحيح البخاري. لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال. ضبط نصه وعلق عليه : أبو تميم ياسر بن إبراهيم. مكتبة الرشد الرياض.ط2/ 1423هـ- 2003 مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي.  حققه، وضبطه، وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة.  (ج 2 ) ط4/ 1422هـ- 2001مـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. دار الفكر بيروت  (د.ت).

عون المعبود شرح سنن أبي داود. لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. قرأه، واعتنى به، وعلق عليه، وخرج أحاديثه: أبو عبيدة مشهور حسن آل سلمان. مكتبة المعارف الرياض.ط1/ 2009مـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. (ج 5) دار السلام الرياض. ط1/ 1421هـ- 2000مـ.

الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية).  لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي. قابله على نسخة خطية، وأعده للطبع، ووضع فهارسه: د. عدنان درويش- محمد المصري. مؤسسة الرسالة بيروت. ط2/ 1419هـ- 1998مـ.

لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المعروف بابن منظور. دار صادر بيروت  ط3/ 1414هـ- 1994مـ.

المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري.  دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. ط 2/ 1422هـ- 2002مـ.

المسند. لأحمد بن حنبل. أشرف تحقيقه: شعيب الأرنؤوط. حققه: شعيب الأرنؤوط وآخرون مؤسسة الرسالة بيروت . ط1 /1416هـ- 1996مـ.

معالم السنن. لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي . طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ في مطبعته العلمية بحلب  ط1/ 1352هـ- 1933 مـ.

معجم اللغة العربية المعاصرة. لأحمد مختار عمر بمساعدة فريق عمل.  عالم الكتب القاهرة ط1/ 1429هـ- 2008مـ.

معجم مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس. تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر بيروت. 1399هـ- 1979مـ.

الموطأ رواية يحيى بن يحيى الليثي. حققه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي بيروت ط2/ 1417هـ- 1997مـ. 

النهاية في غريب الحديث والأثر. لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف  بابن الأثير. تحقيق: محمود محمد الطنابحي- طاهر أحمد الزاوي. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان (د.ت).

راجع المقال:الباحث: محمد إليولو، والباحث: زكريا سليماني

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق