وحدة الإحياءدراسات عامة

منتزهات الأندلس

حظيت جزيرة الأندلس بموقع جغرافي ممتاز، فكان مناخها معتدلا، وطقسها لطيفا، وهواؤها طيبا، كما حظيت بأنهار متدفقة، وأديم خصب، وأشجار باسقة...

وقد قال المؤرخون والجغرافيون الشيء الكثير عنها، نقتطف منه أقوال بعضهم:

جاء في نفح الطيب، من كلام الشيخ احمد بن محمد بن موسى الرازي: "بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع على المغرب، وهو عند الحكماء بلد كريم البقعة، طيب التربة، خصب الجناب، منبجس النهار الغزار، والعيون العذاب، قليل الهوام ذات السموم، معتدل الهواء والجو والنسيم".

ومن كلام أبي عبيد البكري الجغرافي الشهير: "الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها". ومن كلام ابن سعيد: "لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى، ومدينة دمشق بالشام، وفي حماة مسحة أندلسية". هذا ما تمتاز به الأندلس من ناحية الجغرافية الطبيعية.

ثم إن الحضارة الناشئة عن غزو المسلمين لمعظم تراب الجزيرة زادها ميزة ثانية، وهي الميزة العمرانية التي تنجلي في المباني، والقصور، والمنتزهات، والحدائق، والبساتين، وغير ذلك من المنشآت المدنية، ولا يخفى على أحد ما كان لبلاد الأندلس من الشهرة والصيت الذائع في عصورها الزاهرة، وما نالته من الحظوة والمنزلة الرفيعة لدى ممالك المعمورة.

وهذه الميزة إنما هي نتيجة ما قدمنا في أول كلامنا على الموقع الجغرافي الممتاز الذي حظيت به بلاد الأندلس، وبسببه كانت جنة في أطراف الغرب، يطيب بها العيش، ويلذ المقام، كما أنها مهبط وحي الشعراء، تتفجر به القرائح، وتزدهر روح الشعر والخيال، وتتأجج بسبب الانفعالات الروحية التي يثيرها رونق الجو واعتداله، والتأثرات العاطفية التي تنجم عن فعل الهواء الطيب، والخضرة اليانعة، وخرير الماء، وحفيف الغصون، ولطف النسيم.

لذلك كان الشعر الأندلسي حافلا بذكر الطبيعة، ووصف هيئاتها، والتعرض إلى الأجنة والبساتين والأشجار والأزهار والرياحين... ولا غرابة إذا كان مختوما بخاتم الرقة والعذوبة واللطف، لأن ذلك ناتج عن مناخ الجزيرة اللطيف، إذ من المعلوم عند علماء النفس أن للمناخ أثرا عظيما على الطبائع، وعلى الشاعرية بالخصوص، ودوننا الشعر الجاهلي مثلا، فإنه بمتانة عباراته، وخشونة ألفاظه، يحاكي مناخ جزيرة العرب الحار، وجفاف هوائها.

والشعراء الأندلسيون كانوا معجبين بالطبيعة، وبرونقها وجمالها، مفتتنين بالحضارة وبما تحتوي عليه من قصور شاهقة، ومباني فاخرة ومنتزهات بديعة، وحدائق منظمة، كما كانوا مغرمين بوطنهم، متفانين في حبه يترنمون بذكره في أشعارهم، ويأتون على وصفه بكل لفظ جميل، وعبارة بليغة.

قال بعضهم في وصف بلاد الأندلس:

حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ                 لم تـزل تنتج لـي كل سـرورْ ​

طـائرٌ شادٍ، وظـلٌ وارفٌ               ومـياهٌ سائحـاتٌ، وقـصــورْ​

وقال آخر:

لله أندلس وما جمعت بها           من كل ما ضمت لها الأهواء

فكأنما تلك الديار كواكب           وكأنما تلك البقاع سماء

وبكل قطر جدول في جنة         ولعت به الأفياء والأنداء  

وقال ثالث: 

في أرض أندلس تلتذ نعماء          ولا يفارق فيها القلب سراء

أنهارها فضة والمسك تربتها       والخز روضتها والدر حصباء

وللهواء بها لطف يرق به          من لا يرق وتبدو منه أهواء

ليس النسيم الذي يهفو به سحرا     ولا انتشار لآلي الطل أنداء

وإنما أرج الند استثار بها         في ماء ورد فطابت منه أرجاء

وقال غيره:

 تلك الجزيرة لست أنسى حسنها         بتعاقب الأوقات والأزمان

نسج الربيع نباتها من سندس           موشية ببدائع الألوان

وغدا النسيم بها عليلا هائما          بربوعها وتلاطم البحران

يا حسنها والطل ينثر فوقها          دررا خلال الورد والريحان

وسواعد الأنهار قد مدّت إلى        نُدمائها بشقائق النعمان

وتجاوبت فيها شوادي طيرها      والتفت الأغصان بالأغصان

من بعدها ما أعجبتني بلدة        مع ما حللت به من البلدان

وقال ابن خفاجة وهو بالمغرب الأقصى:

إن للجنة بالأندلس           مجتلى مرأى وريا نفس

فسنى صبحتها من شنب    ودجى ظلمتها من لعس

فإذا ما هبّت الريح صبا    صحت وا شوقي على الأندلس

هذا ولا يسعنا إذا أردنا الكلام على منتزهات الأندلس إلا أن نتعرض إلى كبريات مدن الجزيرة، حيث توجد هنالك المنتزهات التي نود أن نحدثكم عنها.

1. مدينة قرطبة:

العاصمة الثانية بعد اشبيلية، تستحق المنزلة الأولى بسبب ما كانت توحيه إلى الشعراء، وقد طال ذكرها واشتهرت قبل أن تشتهر اشبيلية.

قال الحجازي في المسهب: "كانت قرطبة في الدولة المر وانية قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المر وانية، وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنف بديباج المروج، مطرز بالأزهار، تصدح في جنباته الطيار، وتنعر النواعير، ويبسم النوار". وبقرطبة يوجد الجامع الشهير، والقنطرة المشهورة بالجسر، المشيدة فوق الوادي الكبير، قال بعضهم في هذه المدينة:

بأربع فاقت الأمصار قرطبة           منهن قنطرة الوادي وجامعها

هاتان ثنتان والزهراء ثالثة           والعلم أعظم شيء وهو رابعها

ولنتعرض الآن إلى منتزهات قرطبة، وأول ما نذكر منها منتزهات الخلفاء المر وانية وهو قصر "الرصافة" و"منيته".

كان هذا القصر مما ابتناه عبد الرحمان الداخل بشمال قرطبة لنزهته وسكناه، وقد اتخذ به منية واسعة نقل إليها من غرائب الأغراس وأكارم الأشجار من كل ناحية. يقول ابن سعيد:

"وأودعها؛ أي عبد الرحمان الداخل، ما كان استجلبه يزيد، وسفر، رسولاه على الشام، من النوى المختارة، والحبوب الغريبة، حتى نمت بيمين الجد، وحسن التربية في المدة القريبة، أشجار أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس، فاعترف بفضلها على أنواعها...

والرمان السفري الذي فاض على أرجاء الأندلس، وصاروا لا يفضلون عليه سواه من هذه الرصافة".

ونظن انه سمي "سفريا" تخليدا لذكر سفر، رسول عبد الرحمان إلى أخته أم الأصباغ بالشام، وقد نقل إلى الأندلس، كما تقدم، نوى مختارة وحبوبا كثيرة.

ولكثرة تردد الخليفة على الرصافة وسكناه أكثر أوقاته بها، طار لها الذكر في أيامه ومن بعده، وقد سماها عبد الرحمان باسم رصافة جده هشام بأرض الشام. قال بعض الشعراء:

اسقنيها إزاء قصر الرصافة          واعتبر في مآل أمر الخلافة

وانظر الأفق كيف بدل أرضا        كي يطيل اللبيب فيه اعترافه

ومن قصور خارج قرطبة ومنتزهاتها قصر السيد"أبا يحيى" ابن أبي يعقوب بن عبد المومن، وهو على متن النهر الأعظم تحمله أقواس قال ابن سعيد ابن ناهض بن إدريس، شاعر وادي آش في عصره، أنشد لنفسه في هذا القصر:

ألا حبذا القصر الذي ارتفعت به         على الماء من تحت الحواجب أقواس

هو المصنع الأعلى الذي أنف الثرى      ورفعه عن لثمه المجد والناس

فلا زال معمور الجناب وبابه             يغص، وحلت أفقه الدهر أعراس

ثم "الدمشق" وهو قصر شيده بنو أمية، وجروا في إتقانه إلى غير أمد، يقول فيه الحاجب المصحفي:

كل قصر بعد الدمشق يذّم              فيه طاب الجنى ولذّ المشم

منظر رائق وماء نمير              وثرى عاطر وقصر أشم

بتّ فيه والليل والفجر عندي        عنبر أشهب ومسك أحم

ومن القصور المقصودة للنزهة بخارج قرطبة أيضا القصر الفارسي، وقد ذكره الوزير ابن زيدون في قصيدة ضمنها من أسماء منتزهات قرطبة، والقصيدة:

خَليلَيَّ لا فِطرٌ يَسُرُّ وَلا أَضحى                  فَما حالُ مَن أَمسى مَشوقاً كَما أَضحى

لَئِن شاقَني شَرقُ العُقابِ فَلَم أَزَل                  أَخُصُّ بِمَمحوضِ الهَوى ذَلِكَ السَفحا

وَما اِنفَكَّ جوفِيُّ الرُصافَةِ مُشعِري             دَواعِيَ ذِكرى تُعقِبُ الأَسَفَ البَرحا

وَيَهتاجُ قَصرُ الفارِسِيِّ صَبابَةً                   لِقَلبِيَ لا تَألو زِنادَ الأَسى قَدحا

وَلَيسَ ذَميماً عَهدُ مَجلِسِ ناصِ         فَأَقبَلَ في فَرطِ الوَلوعِ بِهِ نُصحا

كَأَنِّيَ لَم أَشهَد لَدى عَينِ شَهدَةٍ                   نِزالَ عِتابٍ كانَ آخِرُهُ الفَتحا

وَأَيّامُ وَصلٍ بِالعَقيقِ اِقتَضَيتُهُ             فَإِلاّ يَكُن ميعادُهُ العيدَ فَالفِصحا

أَجَل إِنَّ لَيلي فَوقَ شاطِئِ نيطَةٍ           لَأَقصَرُ مِن لَيلي بِآنَةَ فَالبَطحا

وكل بيت من هذه الأبيات، ما عدا الأول والثامن، يتضمن اسم منتزه أو أسماء منتزهات، ففي البيت الثاني العقاب وفي الثالث الرصافة وفي الرابع القصر الفارسي"، وفي الخامس مجلس ناصح" وفي السادس "عين شهدة وفي السابع العتيق" وفي التاسع "ميطة"، و"بأنة" و "البطحاء"، وكلها منتزهات.

ونلفت النظار إلى قصيدة أبي القاسم بن هشام القرطبي التي مطلعها:

يا هبة باكرت من نحو دارين          وافت إلى على بعد تحييني

وقد تعرض غليها المقري في نفح الطيب، وفيها كثير من أسماء منتزهات قرطبة، و"المرج النضير" المذكور بها هو مرج الخز الذي يقول فيه أبو الحسن الدقشي:

لله يوم بمرج الخز كان لنا       فيه النعيم بحيث الروض والنهر

قال ابن سعيد: "ومن منتزهات قرطبة المشهورة "مجصر السرادق" مقصود للفرجة يسرح فيه البصر، وتبتهج فيه النفس..."، ثم "السد" الذي يقول فيه بعضهم:

ويوم لنا "بالسد" لورد عيشه               بعيشه أيام الزمان رددناه

بكر ناله والشمس في خدر شرقها             إلى أن أجابت إذ دعا الغرب دعواه

ولا ننسى أن نذكر المنتزه المسمى "بحير الزجالي"، وقد كان في بداية المر ملكا للعائلة الزجالية، فحوله صاحبه أبو مروان الوجالي إلى منتزه، وأمر أن يفتح للعموم بعد وفاته، وأن يدفن بداخله، وكان هذا الحيز خارج باب اليهود بقرطبة، وقد وصفه الفتح بن خاقان في قلائده بما يلي: "وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها وأتمها حسنا وأكملها، صحنه مرمر صافي البياض، يخترقه جدول كالحية النضناض...والروض قد اعتدلت أشجاره، وابتسمت من كمائمها أزهاره...".

ونظن أن حير الزجالي هذا هو أول روض فتحت أبوابه للعموم، أي أنه أول منتزه عمومي أنشئ، مما يدل على أن الأعمال التجميلية للبلدان والمنشآت المدنية القديمة العهد، لم تبتكرها الدول الأوربية، كما يزعمون.

2. مدينة إشبيلية:

من محاسنها اعتدال الهواء وحسن المباني، ونهرها العظم، أي الوادي الكبير وشرفها أي جبلها، قيل لحد من قد رأى مصر والشام: أيهما رأيت أحسن: أهذان أم اشبيلية، فقال بعد تفضيل اشبيلية: شرفها غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح.

ومن قصورها القصر الزاهر الذي كان مشيدا على الضفة اليمنى للنهر والذي كان يسكنه المعتمد، ولما جلس المعتمد بن عباد على منصة الملك ابتنى لنفسه قصورا أخرى نجد أسماءها في أشعاره التي نظمها باغمات، ومنها: القصر المبارك، والثريا، والوحيد، والزاهي، والمكرم.

ويظهر أن "المكرم" هو الذي ما زال إلى أيامنا هذه يدعى بالكزار، وقد اخبرنا ابن الابار انه لما كان يطلب العلم بإشبيلية، أي حوالي سنة 615هـ، كانت توجد بهذه المدينة حارة تدعى "حارة القصر المبارك"، وقد تعرض ابن زيدون لهذه القصور في شعره لما كان وزيرا للمعتمد.

على أنه كانت توجد باشبيلية عدة منتزهات من بينها "جزيرة شنتبوس" بوسط الوادي الكبير، ثم "مرج الفضة" وكان المعتمد يقصده متنكرا صحبة شاعره ابن عمار، وهنالك رأى لأول مرة "الرميكية" التي صارت ملكة، بعد ما كانت مملوكة، والتي حول اسمها إلى اسم "أم الربيع" وكانت تدعى من لدن حاشيتها بالسيدة الكبرى.

ثم نذكر المنتزه المدعو "السلطانية" والمنتزه المدعو "العروس"، "ووادي الطلح" الذي كان يقصده المعتمد أيضا.

3. مدينة غرناطة:

قال الشقندي: "أما عن غرناطة، فإنها دمشق بلاد الأندلس... ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من المرج الطويل العريض، ونهرشنيل، لكفاها".

نذكر من منتزهاتها "حور مؤمل" وقد سمي باسم "مؤمل" قولى باديس بن حبوس"، وكان قد قام بإصلاحات عديدة بغرناطة، ثم منتزه "نجد" وقد تعرض إليه ابن بطوطة في كتابه.

4. مدينة طليطلة:

من منتزهاتها "مجلس الناعورة" الذي وصفه البطليوسي في قصيدة له.

5. مدينة سرقسطة:

ومنتزهاتها "قصر الجعفرية" الذي ابتناه في منتصف القرن الخامس المقتدر المكني أبا جعفر.

وسيطول بنا الأمر تتبعنا مدن الأندلس كلها، وخوفا من الإطناب نقتصر في هذه المرة على ما تقدم.

كان الشعراء المقربون يترددون على هذه المنتزهات، ويخرجون إليها في جماعات من أصدقائهم، ويصحبون معهم الشراب وآلات الطرب، فيشربون ويطربون وينشدون الشعر، ويترنمون بألحانه وكان من بينهم الوزير أبو الوليد ابن زيدون، والشاعر ابن شهيد، والشاعر ابن عمار، والشاعر أبو القاسم بن هشام القرطبي، والشاعر ابن خفاجة، والشاعر ابن حداد، والشاعر ابن اللبابة، وغيرهم من مشاهير شعراء الأندلس، وكلهم خلفوا قصائد كثيرة ضمنوها أسماء تلك المنتزهات والقصور الدراسية التي اضمحل أثرها ولم تبق إلا أسماؤها وأوصافها المسجلة بين أشطار الأبيات الشعرية، اللهم إلا ما كان من القصر المبارك باشبيلية الذي ما زالت آثاره قائمة إلى حد الآن ببلاد الأندلس، وكذلك آثار الجعفرية بسرقسطة.

وهنا يتبين لنا ما للشعر من القيمة التاريخية العظيمة، وما له من المزايا الحسنة والفوائد الثمينة، وما ينبئنا من أخبار البلاد الأندلسية التي خربت معظمها أثناء الفتنة، أي ما بين سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وقيام ملوك الطوائف، ثم اندثر الباقي منها بسبب الانقلابات السياسية والحروب الطاحنة التي دارت رحاها بالأندلس فيما بعد.

الموشحات بالأندلس:

برز للوجود في عالم الشعر العربي خلال القرن الثالث للهجرة نوع جديد سمي باسم الموشح، وقد ظهرت الموشحات بالشرق في الوقت الذي ظهرت فيه بالأندلس، لكن لم يتوصل إلى المعرفة في أنها اخترعت في الشرق أم ببلاد الأندلس، إلا أنها قد انتشرت في القرن الثالث بالغرب انتشارا أكثر منه بالشرق، ولذلك يغلب على الظن أنها اخترعت أولا بالأندلس، ثم قلد الشرق في ذلك الغرب.

وجد الشعراء العرب في أوربا ما لم يجدوه في آسيا من الحياة المتنوعة والأجواء المتغيرة، والمناظر المختلفة، والأشجار الظليلة، والأنهار المتدفقة والمروج المطرزة بألوان الزهور، فصفت أذهانهم، وسما وجدانهم، وعذب قوافيه، وتفننوا في خياله، وأكثروا من نظمه في البحور الخفيفة القصيرة حتى فاقت أوزان العروض عما تقتضيه رقة الحضارة، ورقي الغناء، فكسروا قيودها وابتدعوا الموشح، فنوعوا القافية.

"وأما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذيب مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا، وأغصانا، يكثرون منها ومن أعارضيها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها، متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينتسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجازوا في ذلك إلى الغاية، واستطرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله وقرب طريقه...".

وفي الختام نشير إلى نقطة مهمة، وهي أن كل من يحاول أن يدرس تاريخ الأندلس دراسة متقنة، لابد له أن يرجع إلى الشعر الأندلسي؛ إذ هو الذي يعطيه صورة حقيقية كاملة عن هذه البلاد وعن أحوالها العمرانية والمدنية، والاجتماعية، والسلام عليكم ورحمة الله".

(انظر العدد 5 من مجلة الإحياء)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق