مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

مقاصد التأليف

قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ) رحمه الله في مقدمته، وهو يتحدث عن المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها:
«إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة:

أولها: استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائلَ ومباحثَ تعرض للعالم المحقق، ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه؛ تكلم الشافعيّ أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.

وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام، ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها، وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.

وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبَعُدَ في الإفادة صِيتُه، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.

ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائلُ أو فصولٌ بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.

وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في «المدونة» من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي «العُتْبيَّة» من رواية العُتْبي عن أصحاب مالك، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد «المدونة»، وبقيت « العُتْبيَّة» غير مهذبة، فنجد في كل باب مسائل من غيره، واستغنوا بـ «المدونة» وما فعله ابن أبي زيد فيها والبراذعي من بعده.

وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان، فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السّكّاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو، وقد جمع منها الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين» مسائل كثيرة، تنبّه الناس فيها لموضوع ذلك العلم، وانفراده عن سائر العلوم، فكُتبت في ذلك تآليفُهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم.

وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مُسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول.
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها، وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه، وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ، وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن، أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه، فهذا شأن الجهل والقحة. ولذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحة، نعوذ بالله من العمل فيما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للتي هي أقوم.

مقدمة ابن خلدون:  الفصل الخامس والثلاثون: في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها (ص:581ـ 582)، نشر دار الفكر ببيروت، طبعة 1427ـ1428هـ/2007م.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق