الرابطة المحمدية للعلماء

مفهوم الواجب في الإسلام، مقتضياته التشريعية وتطلباته الحكمية

أحمد عبادي
الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء

شريط الدرس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله منير القلوب والألباب بأنوار الوحي..
منزل القرآن ومعلّم الإنسان البيان، مشفيه من داء العيّ.
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على الآمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، سيدنا محمد
الذي بعثه ربه للعالمين بشيرا ونذيرا وعلى آله الطيبين وصحابته المنتجبين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.

مولاي أمير المومنين … السلام على مقامكم العالي بالله ورحمة منه تعالى وبركات..

إنه لي لمن أشرف التكريم وأكرم التشريف، أن أمثل بين يدي جلالتكم لتناول هذا الموضوع
الذي أضحى اليوم في حلبات النقاشات النظمية والحقوقية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية،
يحظى باهتمام واسع لكون مبحث الواجب يتموقع يا مولاي من هذه المجالات جميعا في المنطلق
والمبتدأ، والبؤبؤ والسويداء، ففي مجال حقوق الإنسان مثلا –يا مولاي- يجري النقاش على
أشدّه حول كيفية زرع مفهوم الواجب ضمن البنية الحقوقية ولا سيما حقوق الجيل الثالث:
الحقوق التضامنية Solidarity Rights كالحق في البيئة السليمة، والحق في السلام والحق
في التنمية. وهي حقوق يحضر فيها بجلاء، إلى جانب المكون الحقوقي، مكون الواجب ومسؤولية
الفرد، فالبيئة السليمة لا يمكن ضمان وجودها إن لم يتحمل الأفراد مسؤولياتهم، ويقوموا
بواجباتهم تجاهها، وكذا ضمانُ التنمية والاسترواح بالسلام، فكل ذلك يحتاج إلى أن يقوم
الأفراد بواجباتهم إزاءه، مما أدى إلى انبعاث مفهوم الواجب من جديد في النقاشات الحقوقية
بعد أن كان الجيل الأول من الحقوق (المدنية والسياسية) والجيل الثاني (الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية) مرتكزين على النموذج المعرفي (Paradigm) القائم على الحقوق
وليس الواجبات وذلك بسبب ما نبه إليه الباحث Ben Saul في قوله: “بما أن النضالات التي
قامت بها حركة حقوق الإنسان ضد استبدادات الكنيسة والنبلاء الفيوداليين في مرحلة أولى،
وفي مرحلة ثانية ضد النفاقات الاجتماعية والإقصاء ونقائص النضالات السالفة، كلها ارتكزت
على مواجهة ما كان يفرضه المتنفدون من واجبات ظالمة على الأفراد، فقد بلورت حركة حقوق
الإنسان حذرا تلقائيا تجاه كل لغة فيها الواجبات والإلزامات مما يبقى بالنظر إلى ماضي
هذه الحركات حذرا وتشككا مبررين”Saul Supra note 62 , at 578.

ومن ثم معاناة المنظرين لتنزيل الجيل الثالث من الحقوق، الحقوق التضامنية والتي ضمن
بنيتها ضرورة الارتكاز على الواجبات، وهي معاناة لا وجود لها في النماذج المعرفية التي
يمنحها الإسلام، إلى درجة أن الباحث الكبير “فضل الرحمان” قال في كتابه الإسلام والحداثةIslam
and Modernity: “للمركزية التي للواجب في الإسلام، يبدو الفقه الإسلامي وكأنه نقاش
لا ينتهي حول واجبات المسلم” (ص 32).

أما في المجالين الاجتماعي والسياسي فيجري اليوم –يا مولاي- في أكثر دول العالم تقدّما،
نقاشٌ مُسْتَحِرٌّ “حول كيفية إحياء ثقافة الواجب دون إحياء الدولانية (Statism) والديماغوجية”
Don.E.Eberly Building a community of Citizens pp.12. وكما قال Don.E.Eberly “إعادة
اختراع المواطنة ليس كنموذج شاعري، بل كعقد اجتماعي يشتمل على العمل الجادّ والتضحيات،
ومهما كان ما تفعله الحكومة أو لا تفعله، فإن مهمة الإصلاح والتجديد ستقع على كاهل
المواطنين. …. إذ ثمة أمل ضئيل في التغيير الذي يعتمد على الاستراتيجيات الفوقية،
أو على النظريات المجرّدة، دون إدماج المواطنين في تولّي مسؤولياتِ إنعاشِ المؤسسات
والاتّسام العملي أمامهم بالصفات التي ينبغي أن يقتدى بها ..” وهذا التوق ما بعد الحداثي
يا مولاي هو ما هديتم إلى تجسيده في مبادراتكم الرائدة. استمدادا من الشرع الحكيم الذي
أقامكم الباري حاميا لحماه، واستلهاما من سنة جدكم المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي
كان سباقا للواجبات، فقد أخرج أصحاب السير أنه قد سُمع ليلة في المدينة صوت عظيم، ففزِع
الناس وخرجوا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم عائد من قبل مصدر الصوت، على فرس

لأبي طلحة عري (أي دون سرج) وهو يقول عليه الصلاة والسلام للناس: “لن تراعوا، لن تراعوا،
إنا وجدناه بحرا (لفرس أبي طلحة) وكل ما سلف من عوامل يا مولاي، يجعل الحديث في موضوع
الواجب في هذه الظرفية بالذات يكتسي أهمية خاصة.

فالواجب لحمة وسدى النسيج العلائقي في المجتمعات والمؤسسات. وهو المحور الذي يتمحور
حوله إنجاز الدول والحضارات.

وبعد إذنكم يا مولاي أنتقل إلى رحاب الآية منطلق الدرس، قولِه تعالى: (ضرب الله مثلا
رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يات بخير هل يستوي
هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) [النحل 76].

في رحاب الآية:

أورد الطبري رحمه الله في تفسيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رواية بالغة الدَّلالة
على قدرة حَبر الأمة على تبين مراد الله من كلامه..

فقد قال رضي الله عنه: “وهذا المثل في الأعمال” وهذا لب الآية الكريمة يا مولاي.

فالآية فيها الإشارة إلى مقومات القيام بالواجب من الأعمال كلِّها، وهي القدرة والإرادة
والإنجاز.

والقدرة يا مولاي قدرتان فهمية ومادية. وإلى انعدام القدرة الفهمية تمت الإشارة بقوله
تعالى أبكم، قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: “وكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، يقال
بكِم عن الكلام، إذا ضعف عنه لضعف عقله.. فصار كالأبكم” اهـ.

وهو ما ذهب إليه ابن الجوزي في تفسيره إذ قال: “والبكَم عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي
شيئا فيُفهِّمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم وفي محل النطق” (زاد المسير 1/41).

قال الأزهري: “وبين الأبكم والأخرس فرق في كلام العرب، فالأخرس الذي خُلق ولا نطق له،
والأبكم الذي للسانه نطق وهو لا يعقل الجواب، ولا يحسن وجه الكلام…”

وقال ابن الأعرابي: الأبكم هو الذي لا يعقل الجواب، وقيل الذي يفهم ولا يفهِّم أي العييُّ
…..”

وأما القدرة المادية يا مولاي، فإلى انعدامها أشار قوله تعالى: (لا يقدر على شيء) أما
قوله تعالى: (وهو كلّ على مولاه) فالكلّ يا مولاي هو الثقيل على وليه وقرابته والذي
لا إرادة له، فانعدم بهذا المقوم الثاني من مقومات القيام بالواجب وهو الإرادة. ونظرا
لما للإرادة من أهمية ومركزية في الفلاح، فقد اشتهر في العرف الصوفي تسمية السالك:
“المريد” إذ أول ما يربّى فيه هو ضبط هذه الإرادة وذلك بتزكية منابعها الباطنية وتصفية
مقاصدها ومناطاتها الظاهرية، وتوجيهها وجهة الخير، والإرادة تتفرع من عاملين هما: العلم
والمحبة، فحتى يراد شيء لا بدّ أن يعلم، ثم لا بد أن يحب البلوغ إليه، وهذا المقوم
هو الأساس الذي تقوم على توظيفه علوم التسويق Marketing إذ يصاغ العلم بالسلعة على
نحو جاذب وتُنشأ في نفس المستهلك محبة البلوغ إليها..

أما قوله تعالى: (أينما يوجهه لا يات بخير) فهو دلالة على انعدام الإنجاز والجدوى في
العمل، إذا أُجبر هذا الكلُّ على القيام به بتوجيه مولاه له، وبذلك ينعدم يا مولاي
المقوم الثالث الذي هو الإنجاز.

أما الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. فأمره بالعدل دال على فهم عنده يمكّنه من
إدراكه. وقد عرّفوا العدل بكونه الحق والصواب الموافق للواقع.. وأنه ضد الظلم؛ والظلم
يا مولاي هو وضع الأمور في غير مواضعها. وعين أمره بالعدل دالّ على قدرته، وأما طيّب
إنجازه فيدل عليه قوله تعالى (وهو على صراط مستقيم).

فأمامنا هنا إنسان قادر على تبيّن مواطن العدل وعلى الأمر به بحكمة، مواجها في سبيل
ذلك ما قد يعترض من عقبات، كما أنه قادر على تبين العلامات التي تمكّن من التعرف على
الصراط المستقيم والثبات عليه.

وهذا الأمر بالعدل والثبات على الصراط المستقيم لا يكون بدون إرادة، فهي إذن مقومات
القيام بالواجب الثلاث: -القدرة و-الإرادة و-الإنجاز، وأي إنجاز أعظم يا مولاي من الاتصاف
بالعدل والأمرِ به على صراط مستقيم.

والآية الكريمة من آيات وعلامات سورة النحل. وهي سورة يا مولاي ومنذ مطلعها تبين مؤقتية
هذا الوجود وتذكر بيوم الحساب (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) [الآية 1]، وتبين للإنسان
أن لا حجة ولا عذر بعد البيان الذي جاءت به الرسل (ينزل الملائكة بالروح من أمره على
من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [الآية 2].

وبعد امتنانه تعالى وتذكيره بكل المقومات والمؤهلات التي سخرها للإنسان ينتقل السياق
إلى تجلية وبيان معالم أوجب الواجبات، وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية المبني
على الاستحقاق الأمْكَن، بسبب الخلق والهداية والتسخير والإحسان (وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها إن الله غفور رحيم) [الآية 18]. في مقابل ما تردّى إليه الضالون من عبادة
ما لا يستحق (والذين تدعون من دون الله لا يخلُقون شيئا وهو يخلَقون) [الآية 20].

ليخلص السياق بعد ذلك إلى بيان –وعلى لسان من قاموا بواجب طلب العلم- أن الجزاء من
جنس العمل. وَوَفْقَ القيام بالواجب أو عدمه، (ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي
الذين كنتم تشاقون فيهم. قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله
عليم بما كنتم تعملون) [الآية 28]، فلا يجيب أهل الظلم والتفريط والكلالة للبكم الذي
فيهم، بل يجيب أهل العلم والعدل؛ في مقابل الذين أحسنوا عملا الذين يجيبون عن أنفسهم
لأنهم كانوا، وهم بعد في الدنيا، محسنين آمرين بالعدل وهم على صراط مستقيم (وقيل للذين
اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير
ولنعم دار المتقين) [الآية 30]، إلى أن يقول سبحانه: (كذلك يجزي الله المتقين الذين
تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) [الآية 32].
ليبين بعد ذلك سفه وبكم منظومة الشرك واختلال معتقدهم (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا
مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات. سبحانه ولهم ما يشتهون)
[الآيات 56-57]. وهو موقف سوف يصير في السنوات القليلات التاليات لزمن نزول الآيات
عنه، مؤشرا على بيان النقلة البعيدة التي قام بها الوحي مع الإنسان وذلك في قوله تعالى:
(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به.
أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون) [النحل 58-59]. فشتان بين هذا
الموقف وبين الريادة العلمية لأم المومنين عائشة رضي الله عنها.

وذلك بعد أن بين سبحانه مركزية الوحي في حياة الكائنات عموما.. وأن فلاحها رهين باتباع
هادياته.. إن طوعا أو كرها. (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فسئلوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم
ولعلهم يتفكرون..) [الآيات 43-44].

كما بين سبحانه أن استقامة الكون وما فيه من كائنات إنما هي نِتاج اتباع الوحي (أو
لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون.
ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم
ويفعلون ما يومرون) [الآيات 48-50].

في مقابل (ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أنهم في
النار وأنهم مفرطون) [الآية 62].

رغم هاديات الوحي (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو
وليهم اليوم ولهم عذاب أليم. وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه
وهدى ورحمة لقوم يومنون) [الآيات 62-64].

بيد أن الكائنات الكونية تنتفع بوحيها وتنتج ما خلقت له عن طريق القيام الطوعي بالواجبات
التي يهدي إليها الوحي (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما
يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات واسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) [الآيات 68-69].

لتنتهي بنا السورة الكريمة إلى بيان معالم المجتمع السليم مجتمع الواجبات الذي يكون
لأفراده إنجازهم المنتج المتنافس المتكامل المعتبر بمجتمع النحل وأدائه المتناسق (إن
في ذلك لآية لقوم يتفكرون) [الآية 69].

وذاك قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن
عما كنتم تعملون. ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم أن تزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء
بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم. ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا. إنما عند
الله خير لكم إن كنتم تعلمون. ما عندكم ينفذ وما عند الله باق وليجزين الذين صبروا
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. من عمل صالحا من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [الآية 119]. وذلك في دقة متناهية ترسم معالم مجتمع الواجب
ليُنْصَب، تتويجا لهذه المعاني وتجسيدا لها، مثال أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه
السلام الذي تجلت كلها فيه بامتياز وذلك في قوله سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة قانتا
لله حنيفا ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) والشكر
عمل وقيام بالواجب لقوله تعالى: (اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) [سبأ
13].

لتختم السورة بإيقاع نابض تتجلى من خلاله حركة الإنسان الآمر بالعدل (وهو على صراط
مستقيم) لإقامة صرح مجتمع الواجب في دفق إنجازي لا يوقفه خلاف المخالفين ولا صدّ الصادّين
أو مكر الماكرين ولا كل الصعوبات التي تعترضه ولكن لا تعيقه. وذاك قوله سبحانه: (ادع
إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو
خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله. ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

مما يجعل سورة النحل سورة تتجلى فيها مقومات الواجب كلها، من بواعث قائمة على الشكر
الدافع للإحسان بسبب التسخير والهداية. وكذا وعي مؤقتية اللَّّبت في هذه الحياة، وحتمية
مجيء يوم الحساب والعبرة بمصائر المخالفين والعمل بمقتضى كل ذلك في اتزان على صراط
مستقيم.

فما هو الواجب في الإسلام وما هي أسسه الاعتقادية والتصورية؟ وما هي مقتضياته الشرعية
وتطلباته الحكمية؟

2- تعريف الواجب:

الواجب لغة: من وجب الشيء يجب وجوبا أي لزم لزوما (لسان العرب مادة “وجب”) وثبت ثبوتا
(تاج العروس مادة “وجب”) والموجِبة من الأعمال الكبيرة، الحسنة أو السيئة الموجِبة
للثواب أو العقاب (لسان العرب مادة “وجب”).

وقبل الانتقال للحديث عن الواجب شرعا يحسن المهد لذلك يا مولاي بالحديث عن المقومات
والأسس الاعتقادية والتصورية التي يرتكز عليها هذا المفهوم في الإسلام. فالاعتقادات
والتصورات دعامة الواجب وعماده في هذا الدين.

الأسس الاعتقادية والتصورية المؤطرة للواجب في الإسلام.

يبرز الإنسان في منظومة الإسلام الاعتقادية والتصورية، باعتباره الجسر الكوني المؤهَّل،
الذي تعبر منه القيم، والأخلاق، والتشريعات الحاملة لمراد الله التكليفي من الإنسان
تجاه نفسه ومحيطه الكوني، إلى البعدين الزماني والمكاني، لتصبح جزءا من التاريخ والحياة،
ويبرز التكليف الملقى على عاتق هذا المخلوق (الأمانة) (إنا عرضنا الأمانة على السموات

والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهول) [الأحزاب
72 ]. باعتباره تكليفا لا يعرف حصرا ولا حدودا، إذ الكون كله في هذه المنظومة مسرح
لفعل الإنسان وعتاد له. فالنوع الإنساني كله موضوع فعله الأخلاقي، كما الكون كله، وقد
تجلى هذا الوعي بعمق في قول عمر رضي الله عنه: “لو أن بغلة عثرت في طفّ العراق لخشيت
أن يسألني الله لِمَ لَمْ تعبّد لها الطريق يا عمر”. أما زمانيا، فإن هذا التكليف لا
ينتهي إلا يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد
أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” (حديث رقم: 486 الأدب المفرد،
باب : اصطناع المال).

وتبرز مقومات القيام بالواجب يا مولاي في هذه المنظومة الاعتقادية والتصورية على الشكل
الآتي:

1- تزويد الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون
شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل 78]. (ولقد ذرأنا لجهنم
كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا
يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [الأعرف 179].

2- المواءمة بين الإنسان والكون من جهة، وبين الإنسان والوحي من جهة ثانية وارتكاز
المواءمة في الإنسان يقوم على قدرته على الفهم عن طريق الألباب/النُّهى/الأفئدة/ العقل،
وهي الوظائف التي تمكن الإنسان من الإدراك والتعقل، والتفكيك والاستنباط والتخيل والحدْس
والاستشراف (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء
إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال
يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات
والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) [البقرة 31-33]. أما في الكون يا مولاي فترتكز
المواءمة على تسخيره (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه) [الجاثية 13].
وترتكز في الوحي على تيسيره (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) [القمر 40]، مما
يجعل الإنسان قادرا على استبانة الآيات والعلامات سواء كانت في الكون أو في الوحي،
ونظراً لمطواعية الكون واستجابة الوحي فإن الإنسان يصبح قادرا على الفعل في الأول بهاديات
الثاني.

3- قصدية الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات 56-58].

وارتكازا على الأسس السالفة يصبح الإنسان قادرا على إدراك هذه القصدية ويصبح من ثم
مسؤولا عن تحقيقها.

4- بنائية الشرع والعقيدة ووحدتهما ومفهوميتهما. وهذا يثمر وضوح الواجبات التي توجهان
إليها، فمقاصدُهما، وأوامرهما، ونواهيهما واضحة قابلة للتعقل، ومتكاملة تحرر تماسكا
يُمكِّن من تحديد الأولويات وتبَيُّن مراتب الأعمال.

5- المسؤولية والمحاسبة: إذ برز أن على الإنسان مسؤولية العمل في ذاته، وفي محيطه وفق
قيم الوحي الحاكمة، وشرائعه الموجِّهة، وقد زوِّد بالقدرات التي تمكنه من الاضطلاع
بذلك، وكان الكون قابلا لفعله مسخرا له، وكان الوحي مُيَسَّرًا له متستجيبا لتساؤلاته
(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل 89]. فإن ذلك
يستتبع المحاسبة التي يُجزى بمقتضاها المحسنون عن إحسانهم، والمسيئون عن إساءتهم. وهذا
البناء يا مولاي هو الذي يحرر الشعور النبيل المتسامي بالواجب وهو شعور انزرع في نفوس
المسلمين فأثمر المسلكيات والممارسات التي رفعت في جمالية صرح الحضارات والثقافات الإسلامية
الشامخة.

التعريف الشرعي للواجب.

الواجب شرعا هو “ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما بأن اقترن طلبه بما يدل على
تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دلّ على تحتيم فعلٍ
ترتيبُ العقوبة على تركه، أو أيةُ قرينة شرعية أخرى” (عبد الوهاب خلاف ص 105).

تجدر الإشارة هنا يا مولاي، إلى أن الواجب عند جمهور الأصوليين لا فرق بينه وبين الفرض،
وقد انفرد علماء الحنفية بالتمييز بينهما، فقسموا الحكم التكليفي إلى سبعة أقسام عوض
خمسة عند الجمهور، أولها الفرض، وميزوا بين الفرض والواجب بقولهم: “ما طلب الشارع فعله
طلبا حتما، وكان دليل طلبه قطعيا بأن كان آية قرآنية، أو حديثا متواترا، فهو الفرض،
كالأركان الخمسة مثلا، أما إن كان دليل طلب الفعل ظنيا، بأن كان حديثا غير متواتر،
أو قياسا، فهو الواجب، ولهذا التفريق يا مولاي وجه، من جهة إسعافه في التمييز بين الواجبات
المنصوص عليها في العبادات وغيرها، والأخرى المرسلة التي ينفسح فيها المجال للاجتهاد
والتقدير، فيكون بذلك هذا التفريق في غاية الوظيفية. ويقترب من معنى الواجب في العلوم
السلوكية: Devoir, Duty.

وقد قسم علماء الأصول الواجب إلى أقسام أربعة كل منها يستند إلى اعتبار:

القسم الأول: الواجب من جهة وقت أدائه، ويكون مؤقتا أو مطلقا، ومثال المؤقت: -الصلاة
لقوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المومنين كتابا موقوتا) [النساء 103]، ومثال المطلق:
-الحج والكفارة.

والواجب المؤقت حين يوقع في وقته كاملا مستوفيا أركانه وشروطه يسمى ذلك أداء، وإذا
فعله المكلف في وقته غير كامل ثم فعله داخل الوقت كاملا سمي ذلك إعادة، أما إذا فُعل
خارج وقته فيسمى قضاء. (ينظر المستصفى ص 53 وعبد الوهاب خلاف ص105-107).

القسم الثاني: من جهة المقدار المطلوب، حيث ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى محدد وغير
محدد، فالواجب المحدد ما عين له الشارع مقدارا معلوما لا تبرأ ذمة المكلف إلا إذا أداه،
كالصلوات الخمس والزكاة والديون.

والواجب غير المحدد، هو ما طلبه الشارع من المكلف بدون تحديد، كالإنفاق في سبيل الله،
وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف.

القسم الثالث: من جهة تعيين ماهيته وصيغته وكيفيته، حيث ينقسم الواجب بهذا الاعتبار
إلى معيّن ومخيّر، فالمعيّن ما طلبه الشارع بعينه كالصلاة، والصيام، وثمن المشترى،
وأجر المستأجر، وردّ المغصوب، والواجب المخير ما طلبه الشارع واحدًا من أمور معينة؛
كأحد خصال الكفارة لمن حنث في يمين مثلا، فعليه إما أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم،
أو يعتق رقبة، أو يصوم ثلاثة أيام، وتبرأ ذمة المكلف بالقيام بأحدها .. وهو معنى التخيير.

القسم الرابع: الواجب من جهة المطالب بأدائه، هل هو مكلف بعينه أم عموم المكلفين وبهذا
الاعتبار يكون الواجب إما عينيا أو كفائيا.

* فالواجب العيني: هو ما طلب الشارع فعله من فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام
مكلف به عن آخر، كالصلاة والصيام والوفاء بالعقود.

* والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم، بحيث
إذا قام به من يكفي من المكلفين أجزأ ذلك وسقط الإثم عن الباقين. قال الشافعي رحمه
الله في الرسالة: “وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصودا به قصد الكفاية فيما ينوب، فإذا
قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلّف عنه من المأتم ولو ضيعوه معا، خفت
ألا يخرج واحد منهم مطيق فيه عن المأتم”. ويدخل في هذا القسم من الواجب كل ما يلزم
الأوطان من خدمات عامة لا تتعلق بذمة مكلف بعينه كالتطبيب وبناياته، ومستلزماته وصناعاته،
ومدارسه، وإيجاد العدد الكافي للأمة من الأطباء والصيادلة، ومؤسسات تكوينهم، وأماكن
عملهم وخدمتهم، ومصانع الأدوية والمعدات، وكحراسة الأوطان وحمايتها، وبناء المساكن
والطرقات والقيام بواجب التعليم والقضاء والإفتاء… وغير ذلك مما لا يكاد يُحصر إذ
تتجدد حاجات الأمم في كل حين.

والحاصل أن هذه الفئة من الواجبات هي مناط التكليف العام، وهو تكليف لا تبرأ ذمة الأمة
إن لم تقم به على وجه الكفاية، بمعنى أن الجماعة، جميعَها، تأثم في هذه الحالة، قادريها
وغيرُ قادريها وهو قول الإمام الشاطبي المالكي الأندلسي رحمه الله في موافقاته: “القيام
بهذا الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها
مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها، قادرون على إقامة القادرين
… فالقادر مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل
إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” (الموافقات
1/284-285). أي أنه في حالة عدم القيام بهذه الواجبات على وجه الكفاية، يأثم القادر
لإهماله واجبا قدَر على أدائه، إذ يكون متعيّنا عليه، ويأثم غير القادر لإهماله ما
تعيّن عليه من حثّ القادر وحمله على القيام بالواجب المقدور له، وهذا هو البعد التضامني
في القيام بالواجب.

وقد كان هذا الوعي متجذّراً عند علمائنا عامة، وعند علماء هذه الربوع خاصة، ومن تمظهراته
ما روي عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازَري المالكي نزيل المهدية رحمه الله
المتوفى سنة 536هـ. – وكان إذا أطلق لقب الإمام في إفريقية لا ينصرف إلى غيره لنبوغه
وتمكنه في العلوم الشرعية- فحين علم رحمه الله أن الحاجة ماسة إلى الأطباء في هذه الأوطان
خاف لفقهه من المأثم، إذ لمس في نفسه القدرة على القيام بهذا الواجب الكفائي، فتوجه
إلى طلب علم الطب إلى أن صار وكما قيل عنه: “يفزع إليه في فتوى الطب كما يفزع إليه
في فتوى الفقه”. رحمه الله تعالى (انظر ترجمته في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية).

إن هذا البناء التشريعي يا مولاي قد ألزم الأمة بامتياز –ومنذ وقت مبكر جدا- بالولوج
إلى آفاق الهندسة الاجتماعية، والاستراتيجيات العملية، للبراءة من الإثم والفوز بالرضوان.
وهو ما انتبه إليه الباحث الأمريكي Jason Morgan Foster حين قال: “ولأن الواجبات لها
مركزية في الاعتقاد والتطبيق الإسلاميين، فإن لغة وبنية الواجبات تطورت في الشريعة
الإسلامية، وهما إلى حد بعيد أكثر تركيبا من الإحالات البسيطة إلى الواجبات التي نراها
في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، فالشريعة الإسلامية عبارة عن مخطط عمل اجتماعي
عقلاني المعنى لكل أفعال المسلمين والتي قد أُطّر مجملُها من مدخل الواجب” اهـ . YALE
human right and Development Vol.8 pp.106

وفي تراثنا العلمي -يا مولاي- عيون وذرر تؤكد ما انتبه إليه هذا الباحث. فقد جاء عن
إمامنا مالك رضي الله عنه أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ فقال: “أما على كل الناس فلا”
يعني به الزائد على ما لا يسع المسلم جهله من أركان وغيرها.. وقال أيضا: “أما من كان
فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم، عليه واجب، والأخذُ في العناية بالعلم على
قدر النية فيه” (الموافقات 1/282).

وللعلماء تفصيلات مشرقة في رسم استراتيجيات تدبير الملفات الحيوية للأمة من هذا المدخل،
ومن ذلك مثلا ما خطه الإمام الشاطبي في موافقاته عن الملف التعليمي، إذ قال: “فإذا
فرض –مثلا- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع – وإن
كان مشاِركا في غير ذلك من الأوصاف، مِيلَ به نحو ذلك القصد، وهذا واجب على الناظر
فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، فطُلب بالتعلم وأُدّب
بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يُمَال به منها إلى بعض، فيؤخذَ به، ويعان
عليه، ولكن على الترتيب الذي نصّ عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل إلى ذلك البعضِ فمال
به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره، تُرِك وما أحبّ وخُصّ بأهله … وهكذا
الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيُمال به نحو ذلك ويُعلَّم
آدابه المشتركة ثم يصار به إلى ما هو أولى فالأولى من صنائع التدبير كالنقابة أو الجندية
أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض، وبذلك
يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم، لأنه يسير أولا في طريق مشترك، فحيث وقف السائر وعجز
عن السير فقد وقف في مرتبة محتاجٍ إليها في الجملة، وإن كان به قوةٌ زاد في السير إلى
أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية.. وبذلك تستقيم أمور الدنيا وأعمال
الآخرة” اهـ. (الموافقات 1/286).

وفي الجانب الاجتماعي يقول رحمه الله: في وجوب “الصدقاتِ المطلقةِ، وسَدِّ الخَلاَّت
ودفعِ حاجات المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ويدخل تحته سائر فروض الكفايات، فإذا قال الشارع (وأطعموا القانع والمعترّ)
أو أمر بكسوة العاري أو قال (أنفقوا في سبيل الله) فمعنى ذلك طلبُ رفعِ الحاجة في كل
واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار؛ فإذا تبيّنت حاجة تبيَّن مقدارُ ما يُحتاج إليه فيها
بالنظر لا بالنص، فإذا تعين جائع، فهو مأمور بإطعامه وسدّ خلّته، بمقتضى ذلك الإطلاق،
فإن أطعَمَهُ ما لا يرفع عنه الجوع، فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافعٌ
للحاجة التي من أجلها أُمر ابتداء، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في
ذلك المعيّن، فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع، فيحتاج إلى مقدار من الطعام فإذا تركه
حتى أفرط عليه، احتاج إلى أكثر منه، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا، وقد يطعمه
ما لا يكفيه، فيطلب هذا بأقلّ مما كان مطلوبا به.

فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان، لم يستقرّ للترتيب في الذمة أمر
معلوم يطلب ألبتة… فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر، لا بمقتضى النص.
فإذا زال الوقت الحاضر، صار في الثاني مكلّفا بشيء آخر لا بالأول، أو سقط عنه التكليف
إذا فُرضَ ارتفاع الحاجة العارضة”. (الموافقات 1/247-248).

كما أن علماءنا يا مولاي قد نظروا إلى الواجبات باعتبارها مرتّبة حسب مراتب ثلاث، فثمة
الضروريات ثُم الحاجيات ثُم التحسينيات وأرسوا بناء على هذا الوعي العميق، دوائر للواجب
يحمي بعضها بعضا وَفْقَ نسق مفهومي في غاية الدقة فنصّوا على أن اختلال الضروري بإطلاق
يؤدي إلى اختلال الحاجي والتحسيني بإطلاق، وأنه لا يلزم من اختلالهما أو اختلال أحدهما،
اختلالُ الضروري بإطلاق، كما نصّوا على أن اختلال الحاجي بإطلاق، ينجم عنه اختلال التحسيني
بإطلاق، ونصوا على أن اختلال التحسيني بإطلاق، يؤدي إلى اختلال الحاجي بوجه ما، وأن
اختلال الحاجي بإطلاق يؤدي إلى اختلال الضروري بوجه ما. مما يلزم معه الحفاظ على الواجبات
المتعلقة بالتحسيني حماية للحاجي، والحفاظ على الواجبات المتعلقة بالحاجي حماية للضروري.
وبينوا أن التجرّؤ على الإخلال بالتحسيني منها. معرِّض للتجرؤ على ما سواه، وعلى هذا
الإدراك قام أصل سدّ الذرائع واعتبار المآل. وقرروا أن المندوب إليه بالجزء واجب بالكل،
إذ الإخلال بالمندوب مطلقا إخلال بركن من أركان الواجب، ونصّوا على أن المندوب في كليته
محميةٌ لا يجب خرمها، لأن خرمها يؤدي إلى الإخلال بالواجب وإبطاله. وقالوا في ذلك:
“وكل واحدة من هذه المراتب لمّا كانت مختلفة في تأكد الاعتبار –فالضروريات آكدها ثم
تليها الحاجيات ثم التحسينيات- وكان مرتبطا بعضها ببعض كان في إبطال الأخفِّ، جرأةٌ
على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخفُّ كأنه حمى للآكد، والراعي حول الحمى
يوشك أن يرتع فيه، فالمخلّ بما هو مكمّل، كالمخل بالمكَمَّل من هذا الوجه” (الموافقات
2/31). قال الإمام الغزالي رحمه الله: “قلّما يُتصوّر الهجوم على الكبيرة بغتة، من
غير سوابقَ ولواحقَ من جهةِ الصغائر” (إحياء علوم الدين 4/32).

وحيث ثبت يا مولاي أن جلَّ الواجبات التي تقوم عليها حياة الأمم في معاشاتها داخلة
في الصنف الكفائي، ويقتضي كلُّ من تَبيُّنِها، ومَقْدَرَتها، وتقعيداتها، وتقنيناتها،
اجتهاداتٍ مستأنفةً في كل حين، من أجل تنزيلٍ مُتَّزِنٍ لها على أرض الواقع تكون عاقبته
يسرا، لما ثبت أن الأمر كذلك، فقد كان لعلمائنا يا مولاي، كلام مفصل نفيس عن كيفية
الاضطلاع بالواجب في سياقاته المختلفة من نظر في المآلات وتحقيق للمناطات وتنقيح لها،
وموازنة دقيقة بين المصالح والمفاسد جلبا للأُولى إن رجحت، ودفعا للثانية إن غلبت،
تسديدا وتقريبا وتغليبا، مع تحديدات وضيئة لمناهج كل ذلك مما هو مفصل في مظانه.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال
موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين
بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب،
أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ
عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول فيه بالمشروعية
فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا
من إطلاق القول بالمشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا
يصح القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود
الغِبِّ جارٍ على مقاصد الشريعة” (الموافقات 4/194-195).

وعن فقه الموازنات يقول هذا الإمام: “وإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام
العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا
كان فيه مصلحة جاز” (الموافقات، 2/225). ومفاد ذلك يا مولاي وجوب الموازنة بين الاحتمالات
الممكنة في غير المحكم من الأحكام، ترجيحا وموازنة بين ما تحققه تنزيلاتها في إطار
الشرع الحنيف وبمقاييسه وموازينه من المصلحة في الظرف الواقعي المعين، ثم اعتماد الاحتمال
الذي يرجُح أنه أكثر تحقيقا للمصلحة بضوابطها الشرعية المبينة في أماكنها، واعتبار
ذلك هو الحكم الشرعي في تلك الحالة، وهذا مناط الاجتهاد فيما مردّ الأحكام فيه إلى
النظر. ومن تداعيات الوعي العميق عند علمائنا بهذه الآليات في النظر كونهم درجوا على
ألا يسقطوا من اعتبارهم الآراء المرجوحة في تراثنا الفقهي، إذ هي ذخيرة اجتماعية قد
تمس إليها الحاجة في أوضاع لاحقة مختلفة، فما لم يرجح في واقع عيني مشخص نظرا لملابِسات
وسياقات معينة، قد يضحى راجحا ضمن ملابسات وسياقات أخرى، وفقه إمام دار الهجرة إمامنا
مالك رضي الله عنه يحضر فيه هذا الوعي العميق بشدة، لانبنائه على قواعد واقعية كعمل
أهل المدينة والاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع.

كما نبغ علماؤنا يا مولاي في تقعيد فقه مراتب الأعمال ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها،
والتمييز بين عاليها والأقل علواً، وفاضلها ومفضولها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها.
يقول ابن القيم رحمه الله: “فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسوداً، وذروة وما دونها،
كما في الحديث الصحيح: “سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت
خلقتني وأنا عبدك…الحديث” وفي الحديث الآخر: “الجهاد ذروة سنام الأمر” وفي الأثر:
“إن الأعمال تفاخرت، فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله، فكان للصدقة مزية في الفخر عليهن”
ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادّة التوفيق،
قد أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كل ذي حق حقه”. (مدارج السالكين 1/225).

وصعوبة المورد التي أشار إليها الشاطبي آنفا في هذا الاجتهاد يا مولاي تصبح مضاعفة
في واقعنا الراهن نظرًا لكون العالم قد تقاربت أركانه اليوم بفعل كل ما تم التوصل إليه
من إمكانات. وأضحى تيار التأثير والتأثر يمرّ بين أرجائه بيسر بالغ، وينطّ فيه الجديد
كلَّ عشر ثانية فما أقل، مما يفرض فرضا، الاجتهاد الجماعي متعدد الاختصاصات، وفق منهجيات
تكاملية تقوَّم في كل حين حتى تُضمن فاعليتُها ومواءمتُها لتطلبات الواقع.. وهذا يا
مولاي هو الدور الحيوي المنوط بمؤسسة العلماء المباركة وهو دور ما فتئتم أيدكم الله
به مذكرين، وعليه حاثين، وإليه منهضين.

ويحق للمرء يا مولاي بهذا الصدد أن يتساءل عن الأسباب التي تحول دون التوظيف والاستثمار
الأمثلين الدائمين والممنهجين لكل هذه الجهود المشرقة في واقعنا الإسلامي خلال الفترات
السابقة.

ويمكن إجمال هذه الأسباب في أربعة:

1- السبب العقيدي: أدى انتشار عقيدة إبطال الأسباب في الأمة نتيجة لسوء فهم تقريرات
بعض الأئمة كالرازي والغزالي وغيرهما، إلى التواكل الذي أفضى إلى أضرب من العجز، فغيض
العطاء، وانكمشت العقول، وفشت الشعوذة، واستتب التعامل مع الكون استهلاكا وتأثرا، وليس
إبداعا وتأثيرا، مما جَرّ عواقب غير مرضية وأسهم بفعالية في إدخال الأمة إلى فترة من
الجمود. ولم يقتصر الأمر على الجانب العملي بل تعدّت الإصابة إلى الجانب التنظيري العلمي
فأسقطت المقاصد، إذ استبعد عند طوائف من العلماء أن تكون الشريعة وضعت لعلة، وبسبب
جلب المصالح العاجلة والآجلة للعباد في الدنيا والآخرة، مما جعل عطاء فقهاء الأمة ينحسر
في ترداد ما كان من الفتاوى والأنظار ويجمد دون مجال الكشف عن مقاصد الشارع في شرعه
مما هو مجاف للشرع نفسه، يقول الشاطبي: “واستقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد،
استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل (رسلا مبشرين
ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( [النساء 164]” (الموافقات 2/6-7).

ويقول ابن القيم: “وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره، صريح في ترتيب الجزاء بالخير
والشرّ، والأحكام الكونية والأمرية، على الأسباب، بل ترتّب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما
على الأسباب والأعمال، ومن تفقه في هذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية
النفع ولم يتّكل على القدر، جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة، فيكون توكّله عجزا، وعجزه
توكّلا، بل الفقيه كل الفقيه الذي يردّ القدر بالقدر، بل لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا
بذلك” (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص 10).

ويقول: “وقد رتب سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور، في الدنيا والآخرة،
في كتابه على الأعمال، ترتيبا للجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والسبب على المسبب،
وهذا في القرآن يزيد على الألف موضع” (الجواب الكافي، ص 188).

وهذا السبب العقيدي كان من شأن الوعي به وتجاوزه أن يوسع آفاق الأمة ومداركها ويجنبها
الوقوع في نكبات كثيرة، سياسية واجتماعية واقتصادية.

2- السبب التصوري: سادت في العالم الإسلامي، خلال العصور الأخيرة تصورات سلبية حادت
بالمسلمين خاصتهم وعامتهم عن المشاركة الإيجابية في حل مشاكل مجتمعاتهم، وحادت بهم
عن التبني المتبادل لهموم بعضهم البعض من خلال قيام كل حسب قدرته بالفروض الكفائية،
وتفلتت من وعيهم الجماعي ومن بنائهم التصوري بعض أهم سمات هذا الدين وعلى رأسها الواقعية،
فالإسلام دين واقعي، تتجلى واقعيته في تصوراته للإنسان والكون، والحياة، وتتجلى في
تشريعاته .. فالإسلام ينصّ على أن القدرة، هي حد التشريع الذي يقف عنده، فلا يتحرك
إلا معها، فإذا وقفت القدرة، وقف التشريع حيث هو، لا يتقدم ولا يتأخر، يقول تعالى:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [البقرة 286] ويقول سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم)
[التغابن 16]. فليس ثمة ضيق على الإنسان في التشريع، بل هو المجال الواسع، الذي يجعله
يتحرك براحة وحرية، فإذا ضاق عليه حكم، وسعه آخر. فهنالك قاعدة نفي الحرج (وما جعل
عليكم في الدين من حرج) [الحج 76]، وقاعدة “الضرر يزال” وقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” وقاعدة
“الأمر إذا ضاق اتسع” إلا أن هذه التصورات والضوابط حين اختفت من أذهان المسلمين اختفت
في تقعيدات علماء العصور المتأخرة. فاختفت من واقعهم حركية الإسلام المعهودة ونبضه
المألوف.

إن استبطان هذه السمات يا مولاي هو الذي يقدح زند حركة المجتمع المسلم بمنحه لأفراده
هذه الأسس التصورية الرافعة لكوابح الكسب النافع.

3- السبب الفقهي: إن تدبير وتنظيم الاضطلاع المبرئ للذمة بالواجبات الكفائية في كافة
جوانب الحياة العامة، من وظائف مؤسسة الإمامة العظمى، فهي القائمة على تقديرها وتنسيقها
وتدبيرها. وعلى “النظر الكلي في كفاية أهم الأشغال” (الغياثي ص 149) كما قال الإمام
الجويني في الغياثي بعد ذكره مهام مؤسسة الإمامة العظمى. فإلى الإمامة العظمى إذن يعود
تقدير الفروض الكفائية وتنسيقها وتدبيرها والنظر الكلي في كفاية أهم الأشغال، ولكن
هذا لا يعني بحال تبرئة ذمة المواطنين من القيام بواجباتهم في هذا الصدد وهو ما قرره
إمام الحرمين بقوله: “ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها
الأئمة بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ولا يغفلوا عنه… وإن ارتفع إلى
الإمام أن قوما يعطلون فرضا من فروض الكفايات زجرهم، وحملهم على القيام به” (الغياثي،
ص 155-156)، إلى أن يقول: “والدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين
في ضر، فإن انتهى نظر الإمام إليهم، رمَّ ما استرمّ من أحوالهم، فإن لم يبلغهم نظر
الإمام، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى دفع الضِّرار عنهم، وإن ضاع فقير
بين ظهراني موسرين حرجوا من عند آخرهم وباءوا بأعظم المآثم وكان الله طليبهم وحسيبهم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يومن بالله واليوم الآخر، فلا يبيتنّ
ليلة شبعان وجاره طاو” (أخرجه البخاري في الأدب المفرد). وإذا كان تجهيز الموتى من
فروض الكفايات، فحفظ مهج الأحياء وتدارك حُشاشَة الفقراء أتم وأهم” (الغياثي ص 173-174).

ولتحقيق هذه المقاصد مضى إجماع علماء المسلمين على وجوب إقامة الإمامة العظمى حفاظا
على حقوق الأمة المرتهنة بالقيام بالواجبات الكفائية على وجه الكفاية، ولولا الإمامة
–وكما قال العز بن عبد السلام رحمه الله “لفاتت المصالح الشاملة وتحققت المفاسد العامة
واستولى القوي على الضعيف” (قواعد الإمام في مصالح الآنام ص 58).

وللإمام الجويني رحمه الله في الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم ص 24) مثل هذا القول،
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا النجدات من الخوارج والأصم من المعتزلة كما روى ذلك الإمام
القرطبي المالكي في (الجامع لأحكام القرآن 1/265).

غير أنه قد سُجِّل –يا مولاي- أن انحرافا عن هذه المقاصد قد وقع منذ وقت مبكّر، فقد
اتت على الأمة أحيان من الدهر فيها على الانشغال بالاضطلاع بالفروض الكفائية وتنظيمِها،
وبالمجتمع وقضاياه، اشتغال بالنزاعات والثورات، والثورات المضادّة، وبالتمكين للدول
القائمة على أنقاض دول، وتتبع بقايا وجذور الدول المسقطة، كما سُجِّل انزلاق في وهاد
مشاريع وهمية، كسقوط دولة المأمون في فخ فتنة خلق القرآن وغيرها من الفتن، وما أعقب
ذلك من انفصامات عدة في جسم الدولة، وأعاق جزئيا التطور الطبيعي لكسب الأمة الفقهي،
والعلمي التنزيلي في هذه الاتجاهات. فلم يُشحذ يا مولاي فقه المجتمع، ويبرد بالمناظرات
والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد “فقه العبادات بشكل خاص إذ لم يكن همّ التنظير
للحياة في المجتمع، والاضطلاع بالفروض الكفائية، وهمُّ استنباط الأحكام الخاصة بذلك،
همَّ جمهور الفقهاء، ولم يتوجه إلى ذلك إلا بعض النابهين منهم مما يفسر نذرة ما يتداول
من العناوين في هذا المضمار، حتى بين خاصة العلماء، كالأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة
الشرعية لابن تيمية، والطرق الحِكَمية في السياسة الشرعية لتلميذه ابن القيم، وسلوك
المالك في تدبير الممالك، لابن أبي الربيع، وما دبّجه ابن خلدون في مقدمته. وغيرذلك
قليل ..

مما يقتضي يا مولاي اجتهادا مستأنفا تنخرط فيه بوظيفية كل المؤسسات البحثية المعنية
من مقترب تنظيم الواجبات الكفائية تحت قيادة مؤسسة الإمامة العظمى، وهو مقترب يمنح،
كما تقدم، مدخلا نسقيا للشأن العامّ ويمكِّن من القيام بهندسة اجتماعية راشدة.

وإننا يا مولاي في هذا السياق لنذكر باعتزاز واغتباط، ما أطلقتموه من مبادرات في مجالات
حقوق الإنسان والاهتمام بذوي الحاجة، مبادراتٍ رأبت الصدوع وطمأنت النفوس، كما نذكر
ما تم القيام به تحت إشراف جلالتكم من لدن هيئة الإنصاف والمصالحة، مما أثمر بفضل الله
حالة أمثل من الصحة الاجتماعية، حالة مكنت هذا البلد الأمين من تبوّء مواقع الريادة
في الفعل التنظيري والكسب التطبيقي بهذا الصدد، وهي ريادة يُسلِّم بها كل المنصفين
في العالم.

ورابع الأسباب يا مولاي: الصدمة الحضارية:

– لقد نشطت المجتمعات المسلمة أفرادا ومؤسسات –عبر التاريخ-، لإقامة الواجبات الكفائية
وأبدعت في ذلك، تشهد بذلك أوقاف المسلمين في تنوعها وإبداعيتها، وكذا التدبيرات السلطانية
والمخزنية في الموانئ والثغور، وتسبيلُ السبل وبناءُ المرافق، وحفظُ الأمن وإقامة المعاهد
العلمية، وغير ذلك من الوظائف كثير، مما يؤشر على النبض الذي كان في المجتمعات المسلمة،
وقد واكب هذه الأعمال جهود تقعيدية وتنظيرات علمية رائعة، لا يزال جلها –للأسف يا مولاي-
ثاويا في بطون السجلات والدفاتر المخزنية، والكنانيش الوقفية، وتحتاج إلى استخراج وترتيب
ودراسة حتى لا نقسو حضاريا على أجيالنا السالفة بسبب عدم التعرف على جهودهم في هذه
المجالات، وهذا يحتاج إلى تجسير معرفي –تصالحي- بين أجيال الأمة، خصوصا بين أجيال ما
قبل الاستعمار وما بعده من العلماء والباحثين، وهو تجسير لا يمكن أن يتم إلا بالوقوف
على اجتهاداتهم وعلى شدّة الصدمة التي ما كانت تغني عنها هذه الاجتهادات في ما مهّد
للاستعمار من فترات فأثمر ما أسماه مالك بن نبي رحمه الله “القابلية للاستعمار”.

يقول المؤرخ المنصف MARSHAL HODGSON في كتابه القيم « Rethinking World History » التفكير
المستأنف في تاريخ العالم: “إلى حدود القرن السابع عشر من حقبتنا التاريخية هذه، كانت
المجتمعات المرتبطة بالديانة الإسلامية أغنى المجتمعات في الشق الأفرو-أورو آسيوي من
العالم، وكانت الأكثر تأثيرا على المجتمعات الأخرى، وقد كان ذلك في جزء منه بسبب موقعها
الجغرافي المركزي، ولكن كان ذلك أيضا بسبب أنه كانت تظهر فيها وبفعالية ضغوط ثقافية
مدنية لا تقليدية نزاعة نحو المساواة، لقد أضحت ثقافة العالم الإسلامي مقياسا للتقدم
العالمي لشعوب كثيرة وهي تندمج في مجاله الاقتصادي والحضاري، كما منحت هذه الثقافة
إطارا سياسيا مرنا للأعداد المتصاعدة من المتحضرين الأصلاء .. لقد كانت المجتمعات الإسلامية
تبرهن على إبداعية مستدامة وعلى نماء، رغم أن بعض الفترات كانت أكثر إبداعية من أخرى..
إلى أن بلغنا العصر الحديث، حيث انقطع هذا التطور ليس بسبب انهيار داخلي، ولكن أساسا
بسبب أحداث خارجية غير مسبوقة ” اهـ (pp. 97).

ويقصد بهذه “الأحداث الخارجية غير المسبوقة” يا مولاي الطفرات العلمية التي انطلقت
في الغرب، وهي طفرات قد فرضت على العالم –آنذاك- إيقاعا جديدا لم يكن عنده بمألوف.
إيقاعٌ لم يواكبه الكسب السياسي والاجتماعي والعلمي الممكّن من مجاراته ومن الفعلِ
الحضاري ضمن شروطه..

وبين أيدينا يا مولاي نص نفيس معبر التقط فيه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المتوفى سنة
1240هـ/1825م ببراءة وأمانة، هذه اللحظة الحضارية بالذات، حين كلامه عن حملة نابليون
في مصر، قال ضمن أحداث سنة 1213هـ: “أحدثوا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية،
أبنية وكرانك وأبراجا، ووضعوا فيها عُدّة من آلات الحرب، وأفردوا للمدبّرين (أي العلماء
القائمين على التجارب) حارة الناصرية … وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة
لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك… ومن أغرب ما رأيته
في ذلك المكان أن بعضهم قد أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة،
فصب منها شيئا في كأس، ثم صبّ عليها شيئا من زجاجة أخرى فعلا الماء وصعد دخان ملون،
حتى انقطع وجفّ ما في الكأس، وصار حجرا أصفر … فأخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل ذلك
بمياه أخرى فجمد حجر أزرق، وبأخرى فجمّد حجرًا ياقوتيا. وأخذ مرة شيئا قليلا من غبار
أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة، انزعجنا
منه فضحكوا منّا.. وأداروا زجاجة فتولّد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف،
ويظهر له صوت وطقطقة، وإذا لمس شخص، ولو خيطا لطيفا متصلا بها، ولمس آخرُ الزجاجة الدائرة،
اقترب منها بيده الأخرى، ارتج بدنه، وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال
برجة سريعة. ومن لمس اللامس أو شيئا من ثيابه متصلا به، حصل له ذلك، ولو كانوا ألفا
أو أكثر، ولهم فيه أحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا” (عبد
الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار حوادث سنة 1213هـ).

“لا يسعها عقول أمثالنا” إنها يا مولاي عبارة قصيرة، ولكنها مشحونة بالدلالات، تعبّر
عن شدّة الصدمة، وعن التسليم النفسي الذي تلاها، وعند علية القوم، فعبد الرحمن الجبرتي
في تلك اللحظة التاريخية كان من خاصة العلماء، بمعنى أن التوتر الحضاري قد فقد بسبب
هذه الصدمة قبل أن يعقبه التماسك في الأمة وفي علمائها، إلا ما استثني من بعض الأفراد
الذين كانوا يعيشون غربة، وقد كانت هذه حالة عامة في المشرق والمغرب. وذلك بفقد العزم
على فهم الظواهر المحيطة “وهذا ما لا تدركه عقول أمثالنا” وإذا فقد هذا العزم على فهم
الظواهر المحيطة، فقد تم الوقوع في البكم الحضاري، وقد مرّ معنا يا مولاي معنى البكم
عند الكلام عن الآية مطلع الدرس، فهو العجز عن الفهم والتفهيم، والبكَم مقدمة الكلالة
أي الثقل وفقدان الإرادة (وهو كل على مولاه). والكلالة يا مولاي مقترنة بالبكم تؤدي
لا محالة إلى العجز (أينما يوجهه لا يات بخير) فلا غرو أن لا يستفاد ضمن شروط نفسية
كهذه، من الثروات المعرفية التي تمتلكها الأمة في بلورة مناهج التفهم وتحقيقات المناطات
وتنقيحاتها توصلا إلى مناهج الصياغة التنزيلية لتناول هذه المستجدات وتبين ما يجب إزاءها
من واجبات وهذه الحالة الثانية هي المقصودة في قوله تعالى: (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل
وهو على صراط مستقيم). غير أن هذه الصدمة الحضارية يا مولاي بفضل الله كانت صدمة أعقبها
تماسك فنهوض فغذٌّ للسير، وها هم يا مولاي، أبناء مملكتكم العامرة اليوم بعد قرنين
ونيف(209 سنة) من هذه الظرفية التي اجتازتها الأمة وعبر عنها ببراءة ووضوح وأمانة الشيخ
الجبرتي رحمه الله، وما قرنان ونيف في الزمن الحضاري؟ ، وها هما يا مولاي أبناء وبنات
الأمة جمعاء منغمرون بدافع من الشعور بالواجب أشدّ ما يكون الانغمار في أحدث العلوم،
داخل الأوطان وخارجها لا يرددون عبارات الصدمة وإنما يرددون بحمد الله عبارات التنافسية
البناءة، ولم يكن -يا مولاي- خلال هذه الرحلة كلّها كالشعور بالواجب زادٌ، يحمل المكلفين
على البذل والمثابرة..

فهذه جملة أسباب نرى أنها كانت خلال هذا الزمن الوجيز حضاريا، وراء ما كان من ارتخاء
حضاري وقلة في الفاعلية. وإننا لنرقب بارتياح كبير –يا مولاي- مؤشرات الوعي العام بها
في الأمة. مما يبشر بغد أحسن عاقبة وأيسر مآلا.

مـولاي:

إن سعيكم المؤيد والدائم لتعزيز البنى الوسيطة، وتأصيلِ النظرة إلى المواطنة باعتبارها
قوام حياة المجتمع، وإقامة البرامج الرامية إلى إدماج جميع المواطنين والمواطنات جنبا
إلى جنب للقيام الجماعي بالواجب باعتبارهم شركاء في تجديد المجتمع المحلي، وتنشيط المؤسسات
الأصيلة، ابتداء من الأسرة فالمدرسة والمسجد ثم الأحياء السكنية والمداشر والمدن فالجهات،
حيث يتم التدريب على الشعور الحاني والواعي بالواجب ويتم استبطانه؛ وإن إشرافكم الفعلي
يا مولاي على دعم وتشجيع جمعيات المجتمع المدني وتجديد وإعادة هيكلة الحقل الديني،
والعناية الخاصة التي تولونها لمؤسسات العلماء، وكذا تحديث مؤسسات البحث العلمي وغير
ذلكم من المبادرات يا مولاي، إن هذا كله لهو الضمان ليجد الشعور بالواجب الذي ركزه
هذا الدين في نفوس المومنين والمومنات، التأطير والتوجيه الكافيين حتى يكون كالشجرة
الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، توتي أكلها كل حين بإذن ربها. فينقطع بذلك الطريق
أمام من يقرصنون هذا الشعور النبيل لتوجيه الأبرياء من شبيبتنا نحو ما لا يرتضيه الشرع
الحنيف من أعمال ترويعية وإرهابية بدعوى القيام بالواجب. سحبا لهم من ضمائرهم وأرواحهم
بأزمّة الجهل وخُطُمِ التأويلات المدمرة، إن تبيّنَ وتبيين معالم الواجب يا مولاي كما
هو محدد وموضح في شريعتنا الغراء؛ وفسح المجال واسعا أمام الشعور النبيل به لِيجد مجالات
التحقق العملي النافع في الواقع، اتباعا لأسوتكم الحميدة وتوجيهاتكم الرشيدة، لهو صمام
الأمان لحماية شبيبتنا من أن يجتالهم المغرضون عن جمالية الإسلام وسماحته. وإن توجيهكم
كريم عنايتكم إلى المجالات التعليمية قصد التأسيس المنهاجي للقيام بالواجب على أمثل
وجه، لخير ضامن للقوة في استمرارية، وما انكباب المجلس الأعلى للتعليم -الذي ترأسونه
يا مولاي- بتوجيه منكم على دراسة ملف دور المدرسة في تنمية السلوك المدني إلا من شواهد
ذلك الكثيرة، فالله عز وجل نسأل أن يديم حفظكم وتأييدكم، وعزّكم ونصركم، وعافيتكم ومددكم،
كما نسأله سبحانه أن يقر عين جلالتكم بولي عهدكم المحبوب حرز الأماني ووجه التهاني
الأمير مولاي الحسن، وأن يشد عضدكم بأخيكم الأمير الجليل مولاي الرشيد ويحفظكم في سائر
الأسرة الملكية الشريفة الماجدة، اللهم وارحم برحمتك الواسعة الملكين المجاهدين مولانا
محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثاني طيب الله ثراهما.

اللهم خذ بنواصينا إلى الخير وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم واجعل بلدنا بلدا آمنا رغدا رخاء وسائر بلاد المسلمين فالعالمين، اللهم زدنا
ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وعرفنا اللهم نعمك بدوامها لا بزوالها يا أرحم الراحمين
يا رب العالمين.

آمين آمين والختم من مولانا أمير المومنين.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق