مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

معنى المحبة للنبي صلى الله عليه و سلم وحقيقتها

 

            قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى:

 

          “اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه و سلم ، وكثرت عباراتهم في ذلك، و ليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ، و لكنها اختلاف أحوال : فقال سفيان : المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم ، كأنه التفت إلى قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [ سورة آل عمران 31 ] . وقال بعضهم : محبة الرسول اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها، و هيبة مخالفته. و قال بعضهم : المحبة : دوام الذكر للمحبوب . و قال آخر : إيثار المحبوب . و قال بعضهم : المحبة الشوق إلى المحبوب . و قال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب، يحب ما أحب، ويكره ما كره . و قال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له. و أكثر العبارت المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها.

و حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، و تكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه، كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة ، والأطعمة والأشربة اللذيذة ، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله و قلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين و العلماء و أهل المعروف ، و المأثور عنهم السير الجميلة و الأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم ، و التشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ، و هتك الحرم ، و احترام النفوس ، أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له و إنعامه عليه ، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها . فإذا تقرر هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه و سلم فعلمت أنه صلى الله عليه و سلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة:
أما جمال الصورة و الظاهر ، و كمال الأخلاق و الباطن ، فقد قررنا منها قبل فيما مر في الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة . و أما إحسانه و أنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ، و رحمته لهم ، و هدايته إياهم ، و شفقته عليهم ، و استنفاذهم به من النار ، و أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، و رحمة للعالمين ، و مبشراً و نذيراً ، و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً ، و يتلوا عليهم آياته ، و يزكيهم ، و يعلهم الكتاب و الحكمة ، و يهديهم إل ى صراط مستقيم . فأي إحسان أجل قدراً ، و أعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ و أي إفضال أعم منفعة و أكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ، و منقذهم من العماية ، و داعيهم إلى الفلاح ، و وسيلتهم إلى ربهم ، و شفيعهم و المتكلم عنهم ، و الشاهد لهم ، و الموجب لهم البقاء الدائم و النعيم السرمد . فقد استبان لك أنه صلى الله عليه و سلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً بما قدمناه من صحيح الآثار ، و عادة و جبلةً بما ذكرناه آنفاً، لإفاضته الإحسان ، و عمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرةً أو مرتين معروفا ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع، فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ، و وقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب . و إذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته ، أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته ـ فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب ، و أولى بالميل .

و قد قال علي رضي الله عنه في صفته صلى الله عليه و سلم : من رآه بديهةً هابه ، و من خالطه معرفةً أحبه .

و ذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لايصرف بصره عنه محبةً فيه”.

 

“الشـفـا بتعـريف حقـوق المصطـفى”

تحقـيق وتقـديم عـامر الجزار

طبعة 1425 هـ -2004م

دار الحديث القاهرة

ص 279

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق