وحدة الإحياءدراسات محكمة

معالم في المنهج القرآني

مفهوم المنهج في القرآن

وردت كلمة “منهاج” في الآية (50 من سورة المائدة) وكلمة “منهاج” أخذت من “نهج الطريق” إذا استبان واتضح وأمن سالكه من التيه والانحراف، فهو على طريق واضح لا يخشى سالكه الضلال عن الغاية والهدف.

وهذا يعني أنَّ كلمة “منهاج” تتصل بالطريق والسبيل والصراط، وتتصل كذلك بالإبانة والوضوح وظهور الأثر والأمن من الضلال والتيه والانحراف والغموض وانفصال النتائج عن المقدمات، وذلك يعني أنَّ سالك الطريق أو ناهجه يستطيع الاطمئنان إلى أنَّه بالغٌ الغاية وواصلٌ إلى المراد ومدركٌ للبغية.

ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى “المنهاج بالشرعة”؛ فهناك شرعة يريدها الناس بحثاً عن الاستقامة، وتنظيم حياة الخلق، وفقاً لشرعة الحق، وتحقيق العدل فيهم وذلك ما لا يتحقق إلا بمنهاج واضح بيِّن.

وذلك المنهاج هو الذي رسم القرآن المجيد معالمه وأبانها وأوضحها. فكان القرآن بياناً ومبيناً ونوراً وهدايةً وصراطاً مستقيماً يهدي به الله من اتَّبع رضوانه سبل السلام ومناهج الاطمئنان والأمن والأمان والاستقرار.

من هنا يتبين أنّ مفهوم “المنهاج” وإن لم يرد في القرآن إلا في ذلك الموضع -وحده- لكنّ كلمة “منهاج” هذه بالظلال التي تحيط بها وتتَّصل بها تتحول إلى مفهوم قرآنيّ من المفاهيم الأساسيَّة، خاصّةً أنَّ هذا المفهوم قد اقترن بـ”الشرعة” ليوحي بهذا الاقتران أنَّ القرآن المجيد قد جعل الله فيه شريعة مقترنة بمنهاج يوضّح ويبيّن منهاج تطبيقها واتّباعها، وتشكيل الحياة بمقتضاها بجوانبها كلِّها.

فإذا وجهنا أنظارنا نحو بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّنا نجد ما نبهنا إليه ظاهراً بيناً في تلك الأحاديث وفي مقدِّمتها قوله صلى الله عليه وسلم: “قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ” .

وعلى هذا فإنّ الحديث يضيف إلى شبكة المعانيّ التي تتصل بالمنهاج لفظاً آخر هو “المحجة”، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا لينِّبه إلى أنَّ المنهج الذي اشتمل القرآن عليه، وبيَّنه رسول الله باتِّباعه لكتاب الله، وتحويل ما جاء الكتاب به من عقيدة وشريعة ونظم حياة وممارسات وعلاقات صارت كلّها واضحة بيِّنة، وإذا التبس على الناس شيء بعد غيابه صلوات الله عليه وسلامه فإنَّهم سيجدون في المنهاج القرآنيّ ومحجَّته البيضاء ما يستطيعون الرجوع إليه والاهتداء به والعودة إلى وضوح الطريق، واستقامة السبيل، واستنارة الصراط بذلك المنهج الذي جعلنا هذا البحث محاولة جادة في تلمس بعض معالمه. سائلين العليّ القدير الهداية والتوفيق لبلوغ المنهج القرآنيّ وسلوك سبيله، والوقوف على محجَّته البيضاء.

فالمفهوم القرآنيّ للمنهج ينبغي أن يصاغ بحيث تتضافر على صياغته سائر الآيات التي تناولت الصراط المستقيم والسبيل السويّ وسبيل الله والهدى والنور والاتّباع والاقتداء والشفاء والأسوة الحسنة إضافة إلى المواقف والأفعال والأقوال النبويَّة ذات العلاقة بالنهج. فلا تكون الآية من سورة المائدة هي المنبع الوحيد لصياغة “مفهوم المنهج” قرآنيّاً، واقترانه بالشرعة يستلزم أن يكون “المنهج” ضابطاً صارماً للفهم والوعي، وإدراك المقاصد والغايات، وضبط السلوك والاتباع وسلوك سبيل الهداية، والوصول إلى النور.

كما يضبط المنهج سلوكنا في فقه التديّن وممارسته واتّباع القرآن فيه، والتأسِّي بسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ممارسته لنصل إلى النور والشفاء والهداية بضوابط. وهنا نستطيع أن ننظر فيما أطلق عليه “مناهج العلوم الدينيَّة” مثل “مناهج المفسّرين ومناهج المحدّثين، ومناهج الأصوليِّين… إلخ”، فكل هذه المعارف أو القواعد التي أطلق عليها “مناهج” إنّما أطلق عليها ذلك بالمعنى اللّغويّ لمصطلح “منهج”، لا المعنى العلميّ الذي لا يطلق إلا على “ضابط صارم يعصم الذهن من الوقوع من الخطأ في التفكير وبناء المقدّمات الصحيحة للوصول بها إلى النتائج السليمة المنضبطة” التي من شأنها أن تخرج هذه العلوم من سمة الليونة التي سوَّغت القول بكثير من القضايا التي يعرفها المتخصصون. وجعلت للذاتيَّة مجالاً واسعاً في مناهج هذه العلوم.

تعريف المنهج لغة

هناك ما يعرف بـ”المنهج” وهناك “المنهجيّة”. والمنهج والمنهاج في اللغة العربيّة: الطريق الواضح كالنهج بدون ميم، وفي هذا تتفق اللغة العربيَّة مع “لسان القرآن”.

جاء في لسان العرب لابن منظور: “نَهَجَ الثوبُ” إذا بلي؛ لأنّ الثوب إذا ظهرت خيوطه، وبان ما تحته وأنهجه البِلىٰ إذا أخلقه. وفي القاموس المحيط: “النهج” الطريق الواضح كالمنهج والمنهاج وبالتحريك البُهْر، وتتابع النَفَس.

وأنهجَ وضُح وأوضح وأنهج ونهج بمعنى أوضح وأوضح الطريق، واستنهج الطريق صار نهجاً أي: واضحاً، ولسان العرب في هذا وإن اختلف عن لسان القرآن في الاستعمال الحسيّ في الثوب وفي البهر وتتابع النفس، لكنّه منسجم مع لسان القرآن في المعنى الأساس، ألا وهو “الوضوح” و”ما يؤدي إلى الوضوح”.

المنهج في الاصطلاح

أما في الاصطلاح المعرفيّ فللمنهج تعاريف عديدة، ودلالات متعددة، نود أن نقدم لها بتوضيح عام وإجماليّ لعله يساعد، بعد ذلك، على إدراك مدلول تلك التعريفات بشكل دقيق.

إنَّ كلاًّ من المنهج والمنهجيّة لدينا نحن المسلمين قد ولد بعد نزول القرآن المجيد، الذي بدأ بتهيئة العقل البشريّ وتحضيره لاستقبال “القراءة ثم القراءتين والجمع بينهما”  ليبدأ تتابع نجوم القرآن عمليَّات منهجيَّة لتغيير واقع كانت تحكمه وتهيمن عليه قيم الشرك، وتحويله إلى واقع تحكمه قيم “التوحيد والتزكية والعمران” بدلاً من قيم الشرك والجاهليَّة.

لقد جعل القرآن المجيد “التوحيد”  منذ البداية محور “الرؤية الكليَّة” ، وبها أصبح الإنسان قادراً على بلوغ مستوى “العلميَّة والموضوعيَّة” في فهمه لما حوله وتفسيره له، وفهم خواصِّه، وتحديد وسائله وأساليبه.

و”التوحيد” مدخل تفسيريّ ذو قابليَّات هائلة، وقدرات متنوّعة لتفسير آلاف الظاهرات النفسيَّة والسلوكيّة والنظميَّة والمعرفيَّة في مختلف المستويات. والتفسير الذي يقدمه القرآن المجيد يؤدي إلى الفهم العميق لتلك الظاهرات، ويمكن من صياغة الأسئلة المعرفيَّة، وتعليم الإنسان طرق الإجابة عنها.

كما يمكنه من وضع المقدمات بأدق ما يستطيعه العقل البشري، وتجنيبه الخطأ. فتصبح عملية الوصول إلى النتيجة منضبطة تستوعب “التنبؤ المنهجي” وتتجاوزه.

وقد أطلق القرآن بـ”منهج النظر” الذي جاء به العقلَ البشريَّ من عقاله، وحرَّره تحريراً تامّاً من سلطان الكهانة والسحر والشعوذة، وقاده لمعرفة الطبيعة وغيرها مما يهم الإنسان معرفته ومنحه الشجاعة التامّة والجرأة، والثقة بنفسه من خلال دعوته للعقل بأن يتفكَّر ويتدبَّر، ويتذكَّر ويفقَهَ ويُبْصِر، ويتعـقَّل، ويُعَلِّم ويَتَعلِّم، ويعرف، ويدرك؛ ودربَّه على أن لا يتهيَّب اقتحام أقطار السماوات وحبكها، وفجاج الأرض وطبقاتها، ولا ظلمات أعماق البحار والمحيطات وتضاريسها، وأن لا يتردَّد في بناء وعيّ عقليٍّ وإدراك منطقيٍّ تسدّده وتهديه وترشِّده أنوار الوحي وهدايته، ليؤمن عن برهان ويسلم عن يقين؛ ويؤهَّل لممارسة “التزكية” في ذاته وأسرته ومجتمعه، و”العمران” في الكون الذي استخلف فيه. وبذلك أسّس القرآن للـ”عقلانيَّة التوحيديَّة”.

بل لقد علَّم القرآن بمنهجه ذاك الإنسان كيف يراجع الفكر الدينيَّ السابق، وينقده، ويتدبَّر النماذج والأمثلة في كيفيَّة مراجعة القرآن لهذا الفكر الدينيّ اللّاهوتي ونقده، وهدم سائر عناصر التحريف التي دُسَّت عليه، وتغلغلت فيه، وإعادته إلى حالة الصدق التي نزل بها، والتصديق على الصادق منه، المطابق للواقع، ثم الهيمنة عليه. وإدراجه بين آيات الكتاب المنزل في حرم الله ابتداءاً، المحفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى المعصوم من تدخُّلات البشر وتحريفاتهم لكيلا يكون لأولئك الذين احترفوا التحريف سبيل إليه مرَّة أخرى.

ونبَّه القرآن العقل الإنسانيّ إلى أن يلاحظ ويجرِّب ويكتشف قوانين الكون وسننه التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، تلك القوانين التي أخضع الله سبحانه وتعالى لها الطبيعة والكون والحياة، وجوانب هامَّة من حياة الإنسان (سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53).

المنهج وقواعد التفكير

هناك، إذن، “منهج” و”منهجيّة”. فالمنهج: “قواعد للتفكير وضوابط للبحث تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ إذا مارس التفكير ، أو السقوط في مهاوي الخطأ وتجاوز الاستقامة العلميّة إذا مارس البحث العلميّ والمعرفيّ”.

وبحسب نوع المعرفة ومصادرها يجري ضبطها: فالمرويَّات لابد من إخضاعها لضوابط الصحَّة لهذا النوع من الأمور التي أطلق عليها “السمعيّة”. وفي الدعاوى لابد من ضوابط للبرهنة على صحَّتها والاستدلال عليها بحسبها كذلك. وهكذا يعمل المنهج مع كل نوع من أنواع المعرفة ليضبط بحسبه، وتبنى قواعده، وتصاغ مسائله وتبنى الدرْبَة والملكة فيه بمقتضاه.

المنهج والحقيقة

والمنهج وسيلة لا غاية، مهَّمته الأساس أن يقود العقل الإنسانيّ إلى الحقيقة، أو إلى ما يغلب على الظن أنَّه الحقيقة، حتى لو لم تكن هي الحقيقة في الواقع ونفس الأمر. فالحقيقة مثل كنز دفين يبحث الإنسان عنه بوسائل كالحفر وقراءة التاريخ والخرائط، والتفكر والنظر العقليّ والتذكُّر والتدبُّر وما إليها، وقد يصادف الإنسان الحقيقة وقد يخطئها المهم أن يبذل كل جهوده وطاقاته بصدق وإخلاص لمقاربتها.

وإنَّما قلنا “يقود إلى الحقيقة” ذلك لأنّ هناك قطعيّات لا تقبل تعدُّداً في الحقيقة الواحدة الثابتة كأن تقبل ما ثبت أنَّه حقيقة ويؤخذ بنقيضها أيضاً. فعدم مصادفة الحقيقة الواحدة الثابتة لا يقبل عذراً فيها، وتلك القطعيَّات لا تبلغ هذه الصفة إلا بعد المرور بكثير من الحواجز المنهجيَّة، وهذه الحقائق من شأنها أن تكون لها علامات وأدلة تقود إليها عندما تكتشف، واكتشاف تلك العلامات والأدلة يقع في دائرة الممكن لقوىٰ الوعي الإنسانيّ أن توصِّل إليه. في حين يقبل في الظنيّات غلبة الظن بأنَّها “الحقيقة” حتى لو لم يصادفها الباحث.

وللإمام الغزالي تفصيل حسن في هذا المجال حيث قال: (النظريّات قطعيّة وظنيّة، والقطعيّة كلاميّة وأصوليّة وفقهيّة، ونعني بالكلاميّة: ما يدرك بالعقل من غير ورود السمع: كحدوث العالم، وإثبات المحِدث وصفاته، وبعثة الرسل؛ “قلت: وسنن الكون وقوانينه تندرج في هذه القطعيَّات” وأما الأصوليَّة فمثل حجيَّة السنَّة… إلخ) .

فالمنهج أو المناهج هي الطرق والوسائل والأدوات التي تستخدم في التفكير، وفي السعي للوصول إلى الحقيقة كونيّة كانت أم معرفيّة، ويتوسل الباحثون بها إضافة إلى ذلك لتحليل المعلومات وجمع الحقائق وتفسيرها وفهمها.

و”المنهج” ضابط صارم يُحدِّد للعقل مساره بمنتهى الصرامة سواء أمارس العقل التحرُّك في الكون، أو في نصوص الوحي بحثاً عن الحقيقة. ولذلك فإنَّه من المتعذّر أن يتصالح المنهج مع العقل الفطريّ أو الطبيعيّ .

ولذلك ذهب البعض إلى أنّ المنهج: مجموعة من العمليّات الذهنيَّة تتيح للباحث في الظواهر المختلفة قدرة على تحليلها وفهمها وتفسيرها. فهو على هذا مجرد منفصل عن الأساليب والأدوات التي هي وسائل يستعين المنهج بها في قيادته للباحث نحو المعرفة التي يسعى للوصول إليها؛ سواء أكانت معرفة ذات وجود واقعيّ أو وجود ذهنيّ، ولا يخفى أنَّ التعاريف إنمّا تراد لإفادة تصوّر المعرَّفات، والتعاريف التي عرّف بها “المنهج” تعاريف متعدِّدة، ولا يضرنا ذلك؛ إذا عرف المراد به بالتعريف الذي قدمناه آنفاً، وحصل إدراكه وتصوّره وإن لم نلتزم فيه بالرسوم المنطقيّة.

لأنَّ المهم هو أن نتصور المنهج ونعرف خصائصه، وكيفيَّة إعماله، وتلك طريقة القرآن المجيد في إفادة تصوّر الأمور والأشياء، وهي أكثر فاعليَّة من معطيات المنطق الأرسطيّ التي تقوم على الحدود والرسوم لإفادة التصورات والبرهان اللفظيّ الشكليّ لإفادة التصديقات.

الوجود القرآنيّ

وبما أنَّنا نبحث في منهج للتعامل مع “الخطاب القرآنيّ المجيد” أولاً وبالذات، فإنَّ الخطاب القرآنيّ ذو وجود واقعّيٍ خارجيّ يتمثَّل فيما بين الدُفَّتين من سور وآيات تندرج في أجزاء وأحزاب. وذو وجود معنويّ تدل عليه الألفاظ المضمَّنة في آيات وسور، وهي مدلولات الآيات والسور ومعانيها، فكأنَّ الآيات والسور دالٌ والمعنى مدلول عليه.

وكأنَّ اللَّفظ -آنذاك- يأخذ دور علامة تدعو الباحث للنظر والتأمُّل والتدبُّر والتفكُّر والتذكُّر والتعقُّل ليكتشف الارتباط والعلاقة بين الدال والمدلول: فالمعنى والمدلول هما المعرفة التي نبحث عنهما، ونريد الوصول إليهما: والمعنى والمدلول هما: الوعاء المعرفيّ الذي نسعى للوصول إلى المعرفة الكامنة فيه، والكشف عنها.

أما الألفاظ فهي العلامات والأشكال الصوتيَّة أو الإيقاعيَّة للمعنى، وذلك يجعل الإيقاع عين معناه على المستوى التمثيليّ، وقد اقترب الشاعر الأخطل من هذا المعنى بقوله المشهور:

إنّ الكلامَ لَفي الفؤادِ وإنَّما   ***   جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤادِ دليلاً

واللفظ علامات داّلة على ذلك المعنى بمستويات مختلفة: فهي تدل أحياناً بالمطابقة، وثانيّة بالتضمّن، وثالثة بالالتزام، وأحياناً تدل بعبارة النصّ وفحواه ولحنه وإشاراته.

وعلوم العربيَّة من نحو وصرف وبديع ومعان وبلاغة وفصاحة -كلّها- على وجه الاجمال، ويمكن أن نلحق بها التفسير وكثيراً من علوم القرآن مخصّصة للتعامل مع الألفاظ وعوارض الألفاظ. ومهمَّة المنهج توظيف كل ما يحتاجه منها باعتباره أدوات ووسائل وأساليب للوصول إلى المعنى وإلى الحقيقة الكامنة فيه، التي جعل اللفظ علامة داَّلة عليه.

كما أنَّ استخدام المنطق أمر لابد منه على أن يكون منطقاً قرآنيّاً، ذلك لأنّه كما كان للقرآن منهجه فإنّ له منطقه.

والطريق بين الألفاظ والمعاني طريق طويل،  لا كما يتوهم الكثيرون بأنَّه طريق قصير، ولذلك احتجنا إلى كل تلك المعارف والأدوات للاستعانة بها على اختصار الطريق والوصول إلى المعنى المراد، ومقاربته بكل ما تتيحه الطاقة البشريَّة من إمكانات.

والنصُّ القرآني فريد معجز فإذا كنَّا نحتاج إلى المنهج للتعامل مع النصوص الأخرى فما بالك بالتعامل مع نصٍّ فريد معجزٍ مطلقٍّ؟! فالمنهج الذي نقاربه به لابد أن يكون على أعلى مستوى ممكن من الدقة، وأن يكون ذا مواصفات خاصَّة، لعل أهمَّها وأبرزها أن يكون مستنبطاً منه ذاته؛ فإنَّ للقرآن المجيد منطقه، كما أنَّ له منهجه.

القرآن والمنهج

وقد يقول قائل: كيف يمكن تطبيق “المنهج” على القرآن، والمنهج وجد لدراسة “الظواهر الطبيعيَّة والاجتماعيَّة” فكيف ينزل على خطاب معجز ما هو بظاهرة طبيعيَّة ولا اجتماعيَّة؟ فنقول: السؤال وارد ولابد من الاجابة عليه!! والقرآن المجيد يمثّل عندنا “الظاهرة” وكونه خطاباً لاينفي عنه صفة الظاهرة: فالظاهرة القرآنيَّة  ظاهرة فريدة فلأول مرة في تاريخ البشريَّة ولآخر مرة ينزل للبشريَّة وحي الله وكلمته بشكل متحّدٍ معجز للخلق كافَّة، وفي مقدِّمتهم النبيوُّن والمرسلون، وهو خطاب مطلق كذلك؛ يتعالى على الزمان والمكان، ويستوعبهما ويتجاوزهما، وهو، أيضاً، ميسَّر، في الوقت نفسه، يستوعب تجارب الأنبياء والمرسلين، وتعاليمهم، ويبني هذا الكتاب أمَّة قطباً ووسطاً، ويخرجها نموذجاً ومثالاً للناس باعتبارها خير أمَّة… إلى غير ذلك من خصائصه ومزاياه وكلُّها ظواهر وجوديَّة ذات وجود واقعيٍ. ولذلك فإنّ اعتباره ظاهرة كبرىٰ لا ينبغي أن يستغرب أو يستنكر، وهو بهذه المثابة.

وكون المنهج العلميّ يقوم على دعائم ثلاثة بعد ذلك وهي: (الملاحظة، والفروض، والاختبار) فإنَّ هذه الثلاثة بعض خطوات ومكوّنات المنهج القرآنيّ التي يدعو المتعاملين معه إلى الأخذ بها دائماً، وملاحظتها. فهي من الأمور المألوفة لدى أئمتنا وعلمائنا المتقدِّمين في التعامل مع الخطاب القرآنيّ ولديهم مزيد، فالقياس الأصوليّ بني أساساً على هذه القواعد الثلاثة، وتعامل مع الخطاب القرآنيّ والسنّة النبويّة سواء أكانت أحاديث قوليّة أو فعليّة أو تقريريّة على هذا الأساس، وصار دليلاً من الأدلة الشرعيَّة لقيامه على قواعد كانت هي المنطلقات الأساسيَّة لبناء “المنهج العلميّ التجريبيّ” بعد ذلك، والعناية بتخريج العلل-علل الأحكام، وتنقيحها بالسبر والتقسيم، وتحقيقها بالاختبار. وكذلك عمليّات “تخريج المناط وتنقيح المناط وتحقيق المناط” كل ذلك تجليّات لبعض “معالم المنهج القرآنيّ” وإن كان “المنهج القرآنيّ” مستوعباً ومتجاوزاً للقياس وما أدى إليه من بعد ذلك من تفكير سكونيّ كما سنثبت إن شاء الله.

والجواب؛ إنَّنا لا نسلّط المنهج العلميّ التجريبيّ النسبيّ على القرآن المجيد، بل نرجع فهمنا وتراثنا واجتهادنا في معاني القرآن واستنباطاتنا إلى منهج القرآن ذاته، وهو منهج يستوعب المنهج التجريبيّ ويتجاوزه؛ فالهيمنة للقرآن ومنهجه على كل ما عداه، فالقرآن يستوعب المنهج العلميّ، ويطهِّره، ويعالج أزمته ويخرجه منها، ويرقى به، ثم يهيمن عليه، ويبنى على معطياته كما فعل مع تراث من قد سبق.

مواقف منتظرة من محاولتنا هذه: لا شك أنَّ العلماء المعاصرين خاصَّة من أولئك المتخصّصين “بفلسفة العلوم الطبيعيّة والمناهج بل واللاّهوت” لن يسلّموا لنا هذه الدعوى بسهولة، بل ستجد هذه الدعوىٰ في بادئ الأمر معارضة شديدة؛ لما استقر في الأذهان من أنَّ القرآن كتاب دينيّ شأنه شأن التوراة والإنجيل، وآياته وكلماته نصوص موحاة تتطلب الإيمان بها كما هي، ولا يتوقف قبول ما فيها على المنهج، بل على النبوة والإعجاز، والانبهار العقليّ ثم الإيمان بناءاً على ذلك.

وحتى أولئك الذين سلموا بإمكان أو ضرورة إخضاع العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة لذات المنهج العلميّ التجريبيّ الذي نتعامل به مع الظواهر الطبيعيَّة لن يكونوا قادرين على التسليم بسهولة بإمكان التعامل مع القرآن في ضوء قواعد “المنهج العلميّ”، لكنَّنا نستطيع أن نقرّر وبكل ثقة: أنَّ القرآن المجيد ميّسر ومهيَّأ للتعامل مع المنهج العلميّ التجريبيّ الواحد، بل لا سبيل للتعامل مع القرآن أفضل من التعامل المنهجيّ معه، ولا تتضح أهميَّة “الجمع بين القرائتين” -وهي الخطوة المنهجيّة الأساس في المنهج القرآنيّ- بل لا تتّضح ضرورتها دون التعامل المنهجيّ مع القرآن.

بل إنّ مشكلات عصر التدوين التي أحاقت بالقرآن وحجبت الكثير من أنواره لا يمكن تجاوزها، وإخراج القرآن من إسرها بدون المنهج القرآنيّ المعرفيّ المعادل للمنهج العلميّ والمستوعب له، والمتجاوز له في طاقاته وقدراته.

القرآن والمنهجيَّة الكونيَّة

إن “المنهجيَّة العلميَّة” المعاصرة التي تقدمها الدوائر العلميّة الغربيَّة منبتّةً عن مصدرها الإلهيّ ليست “نهاية التاريخ” وما كان لها أن تكون كذلك، والعقل العلميّ المعاصر ليس هو العقل الكليُّ الفعَّال وما ينبغي له أن يكون، بل هما مرحلة متقدِّمة -ولا شك- باتجاه “المنهجيَّة الكونيَّة”، وتلك المنهجيّة الكونيَّة لا مصدر لها إلا القرآن وحده. لأنَّه -وحده- الكتاب الكونيّ الذي يستطيع أن يستوعب المنهجيَّة العلميَّة، ويقوم بتنقيتها وترقيتها، ووضعها باتجاه “المنهجيَّة الكونيَّة”، وهو -وحده- الذي يستوعب “المنهج العلميّ”، ويستطيع أن يقوم بتنقيته وترقيته وإخراجه من أزمته وإطلاقه، ويحميه من تهديدات ومخاطر النسبيَّة والاحتماليَّة والنهايات التي اعتبروها حكميَّة.

والقرآن هو الذي يقيم المنطق ويعدّله، ويعطيّ مقدّماته الفاعليَّة التي يحتاجها. ليقوم بمهمته بوصفه ضابطاً يعصم الذهن عن الخطأ في “النظر والتفكير” ليعزِّز المنهج العلميّ ويبرهن على صحة الخطوات العلميّة الموصّلة إلى النتائج.

والقرآن المجيد لا يرفض المبدأ القائل بأنّ الإنسان ابن الطبيعة، وأنّه متولد عنها، كما أسلفنا، فوجود النفس فيه لا يخرجه عن بنوَّته لها (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى) (طه: 54).

 فآيات الخلق -كلّها- تؤكد بنّوة الإنسان للطبيعة، وأنّ استخلافه وتصديه لحمل الأمانة والمسؤوليَّة عن إعمار الكون وضمّه معه إلى قافلة تسبيح الله سبحانه وتعالى لم يخرجه ولن يخرجه عن ذلك. وكذلك تسخير الطبيعة له لم يخرجه عن بنوته تلك لها، فانعكاس فلسفة ومنهج ومنطق العلوم الطبيعيَّة على قضاياه الاجتماعيَّة والإنسانيَّة والسلوكيَّة لا يستغرب من القرآن فضلاً عن أن يرفض. فمن مسلَّمات القرآن أنَّ الإنسان يتأثرَّ بالطبيعة ويؤثِّر فيها.

والجدل بين الإنسان والطبيعة دائم مستمر، وما من أحد نظَّم ذلك الجدل، ومنحه صفة الإيجابيَّة مثل القرآن، فانعكاس “المبادئ النظريّة العلميّة الطبيعيّة” على ما هو إنسانيٌّ واجتماعيٌّ وسلوكيٌّ لا يعني إلغاء لإنسانيَّة الإنسان أو مهَّمته الاستخلافيَّة في الكون، أو إلحاقاً له بالجماد والحيوان، بل فيه تعزيز لذلك الدور، فالله سبحانه وتعالى قد امتنَّ على الناس بأن جعل أزواجهم منهم، وامتنَّ عليهم بأن أرسل إليهم من أنفسهم رسلاً وأنبياء واستخلفهم في الأرض التي منها خلقوا وجبلوا وإليها يعودون، يجري هذا المجرى بأن يكون الإنسان ابن الطبيعة المخلوق منها-هو المستخلف فيها.

وبذلك يكون الجدل بينهما ليس ممكناً فحسب بل وطبيعيّاً أيضاً وسهلاً وسلساً.

إنَّ القرآن المجيد -وحده- الذي يستطيع أن يصحِّح المسيرة الإنسانيَّة التي أتاحها العلم وصادرتها رواسب وخلفيَّات فكر أوربا ثم فكر وقيادة أمريكا، الفكر الموروث عن الإغريق والرومان.

وقد ثبت عجز اللاهوت المتبنَّى في تلك الحضارات عن الاستيعاب والتجاوز، وحماية مسيرة الإنسان باتجاه “الضوابط المنهجية للتفكير”.

من تلك الآثار السلبيَّة ولذلك كان لابد من عزل ذلك الفكر ومحاصرته للحيلولة بينه وبين الاقتراب من ميادين العلم التي هيمن عليها “العقل العلميّ” الذي جعل نفسه بقيادة أوروبا وبآثار صراعاتها “لاهوتاً أرضياً بديلاً”.

إنَّ تلك الضوابط التي عقدت الإنسانيَّة آمالها عليها لتوحيدها معرفيّاً، ما تزال قادرة على أن تتيح لها فرص التداخل والتعاون في المجالات المشتركة، وترسي قواعد الحوار المتكافئ حول ما هو مختلف فيه لتحوله إلى اختلاف إيجابيٍّ يمثِّل آية من آيات الله، ودليلاً على البعد الغائب ألا وهو “عالم الغيب” الذي أدَّى تجاهله في هذه الحضارة المعاصرة وقواعدها إلى بروز عامَّة الأزمات الخطيرة التي يشكو المنهج والعلم منها.

ولقد أدرك علماء ومفكرون أمناء في سياق الحضارة الغربيَّة مغبَّة ذلك فقال “أغروس” و”ستانسيو”: “إن في النظرة الجديدة للعلم نجد أنَّ أصل الكون وبنيته وجماله تفضىٰ جميعاً إلى النتيجة نفسها: الله”. وقال “وايتهيد”: “إنَّ هدف الله هو تحقيق القيمة في العالم الزمنيّ، فبعيداً عنه لا يوجد -قطّ- عالم واقعيّ. ومعنى ذلك أنّ العالم الواقعيّ الماديّ ليس مفصولاً عن الغيب والروح بحال!!”.

إن أوربا قد حولت الإنسان عن مسيرته باتجاه “الضوابط المنهجيَّة للتفكير الإنسانيّ المشترك” لتدخله عالم الاستعمار فصادرت توجُّهاته المعرفيَّة نحو الوحدة الإنسانيَّة، أو ما يهيئ لها في الأقل.

ثم تسلَّمت أمريكا الراية من أوربا لتحول تلك الاتجاهات -كلَّها- إلى عولمة مفتعلة قائمة على مطامع شركاتها الكبرى وجشعها، وسياسات توظيف النفوذ السياسيّ لخدمتها.

والقرآن -وحده- الذي يستطيع تخليص الاتجاهات العلميَّة والضوابط المنهجيَّة وإعادتها إلى جادة الهدى والحق من جديد لتحقيق عالميَّة القيم: “الهدىٰ، والحق، والتوحيد، والتزكية، والعمران، والعدل، والحريَّة، والإحسان، وتحمُّل وأداء الأمانة، ونبذ الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عن البشريَّة، وإباحة الطيبِّات والمشاركة فيها، واعتبار الأرض منزلاً واسعاً للبشريَّة يتسَّع لها كلّها”: فلا تحتاج إلى الحروب، بل تدخل في السلم كافَّة.

وبذلك يحقّق القرآن المجيد “عالميّة الانتماء الإنسانيّ والتفاعل” و”عالميَّة القواعد المنهجيَّة المشتركة الضابطة للتفكير الإنسانيّ”.

ترى هل أدرك الشيطان وأعوانه بين البشر هذه القدرة الكامنّة في القرآن فبدأوا عليه حرباً معلنة تتناول تاريخ نزوله وجمعه وتدوينه وبلاغته ونظمه وفصاحته بسهام قتَّالة تحاول أن تتسربل بمظاهر علميَّة أو منهجيَّة خادمة، وليس لها من ذلك شيء؟! وهنا تبدو أهميَّة وثقل “مهمة القرآن وحملة القرآن”، هل سيحملونه بالطريقة الحماريٌة مثل أبناء العمومة الذين حمٌَلوا التوراة ثم لم يحملوها، أو لأنهم سوف يحملونه بالطريقة الإنسانيَّة مثل الأنبياء؟! ولعل الغرب يحاول أن ينفي الله عن العالم لكي يحلّ في إهابه، وبدلاً عن قيم الله المشتركة التي يمكن أن تمثل قواعد منهجيّة للفكر والتناول غير مفصولين عن أخلاقيّات العلم أو المعرفة ذهب يؤسس قواعد عالميّة للتبعيّة، من خلال مشروعه الاستعماريّ الجديد، لكي يبرر حسب تعبير “فروم” (التملّك) الذي هو سلب لإيجابيّة (المشاركة).

إنَّ نزعة المركزيّة الغربيَّة وتهميش العالم -كلّه- ليكون مجرّد أطراف تدور بتبعيّة مطلقة حوله نزعة مدّمرة. ولعل من سوء طالع العالم أن تتسلم المركزيّة الغربيَّة قيادته التي انحرفت بالدين، ثم انحرفت بالعلم، وها هي تمارس انحرافاتها في التقنيّة.

هذه الانحرافات التي تهدّد العالم -كلّه- إنسانه وأرضه ونسله وزرعه وسماءه وأرضه. وكل أشكال الحياة فيه.

فمتى يدركون ذلك؟ ومتى يستيقظ أهل القرآن؟ ما السبيل إلى إعادة القرآن المجيد إلى مركز الدائرة؟

مراجعة علوم القرآن

إنَّ على حملة القرآن القيام بواجب “التخلية ثم التحلية” التخلية: نعني بها تنقية تراثنا في علوم القرآن وغربلته، ونقده نقد الصياريف بـ”المنهج القرآنيّ” ذاته. فما من أحد يعرف آثار القرآن وأهميَّته مثل الشيطان وأعوانه من البشر الذين يمثّلون ظاهرة شيطانيَّة موازية على وجه الأرض. لذلك فقد حاولوا  أن يحولوا بين القرآن وبصائر الناس بإسرائيليَّاتهم، وتحريفاتهم وتأويلاتهم، وها هم يحاولون إحياء اسرائيليَّاتهم القديمة ويضيفون إليها إسرائيلّياتهم الحديثة بعد دسها في حل “العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة”.

إنَّ القرآن المجيد “بكونيّته” يمكن أن يبني ويؤسس “الإطار الكونيّ الشامل للفكر الإنسانيّ”، ويصدّق على العلم ومنهجه ومنطقه، ويهيمن ويوجِّه الجهود الإنسانيَّة بشكل جماعيّ لتطوير الأرض وإعمارها وإنماء ما فيها، ويمكّنها من مواجهة الأزمات العالميَّة الراهنة -مثل أزمة التلوّث البيئيّ، وأزمة وسائل الدمار الشامل، وأزمة الغذاء والدواء، والموارد، والصراع، وانتشار الجرائم، وتفكك الأسرة، وسائر المسلسل الذي تعاني البشريَّة كلّها منه.

كما أنَّ القرآن الكريم هو الذي يستطيع أن يبدِّل الصراع بين الأنساق الثقافيَّة والحضاريَّة البشريَّة بالحوار البنَّاء الذي استنَّ منهجه وأسَّس له وحققه بنجاح.

والقرآن هو الذي يجعل للحياة غايّة وهدفاً فينأى بالإنسان عن العبثيّة والعدميّة.

والقرآن -وحده- الكتاب المعادل الموضوعيُّ للوجود الكونيّ وحركته. وبذلك يستطيع القرآن تمكين البشريَّة من تعديل مسارها العلميّ باستعادة المعطيات العلميّة المنهجيّة، وإعادة بنائها كونيّاً، بعد أن يستوعب “المنهجيَّة العلميَّة” التي تولت ضبط العقل الموضوعيّ بقواعدها، ثم يتجاوزها باتجاه “المنهجيّة الكونيَّة” التي تستطيع أن تتعالىٰ على “النسبيَّة الاحتماليَّة” و”فلسفة العلوم الطبيعيَّة” وتشدهما إلى آفاقها الرحبة الواسعة المستمدة من الكتاب الكونيّ الذي يعيد حضور الأبعاد الغائبة عن الدوائر العلميّة والمعرفيَّة المعاصرة إليها، وبذلك يمكّنها من تجاوز أزمة المنهج والمنطق، والانشطارات المتنوعة، ويربطها بغائيّتها بداية وسيروة ونهاية. ويجعل العلم والتقنيّة وسائر منتجاتها في خدمة الأسرة الإنسانيَّة -كلّها- لا المركز الغربيّ وحده ليوظف ذلك في استعباد الآخرين من أبناء آدم.

إن القرآن المجيد يتناول “علوم العصر ومعارفه” كما تكونت في مراحلها المختلفة، وكما هي في وضعيّتها وموضوعيَّتها وأرضيَّتها وجزئيّتها واحتماليَّتها ونسبيَّتها لتنقيّتها وإصلاحها والتصديق عليها وإضافة الأبعاد الغائبة إليها ليعاد بناؤها كونيّاً فهو لا يرفضها، ولا يتصادم معها، ولا يتجاهلها: فضلاً عن أن ينسفها نسفاً كما قد يتوهم البعض ليصنع بدائل لها من نقطة البدء.

القرآن والكون

إنَّ القرآن المجيد قد تعامل مع الكون من جميع جوانبه، فقد تعامل معه باعتباره لا متناهياً في كبره واتّساعه وتوليده وصيرورته وفقاً لقوانين تجعله رغم ذلك محدّداً مسخَراً خاضعاً لسلطان الله سبحانه وتعالى وعلمه عز وجل المحيط به. كما يحيط علم الله الشامل المطلق، ويسيطر السنن الكونيَّة التي وضعها على ما لا يقف في صغره عند حد يصل به إلى “التلاشيّ”، فهناك دورة الحياة التي تشمل “الذرة والمجرة”، ويبيِّن سبحانه وتعالى: أنَّ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وكيف لا يكون كذلك وهو جل جلاله قد قال: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى) (طه: 54) وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف: 24) وقال جل جلاله: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر: 56) فبالرغم من أنَّ الإنسان قد يغتر بنفسه فيمشي في الأرض مرحاً فإنَّه لن يخرق الأرض، وقد يطاول السماء لكنَّه لن يبلغ الجبال طولاً. وإذا كان قد فارق الطبيعة بالاستخلاف وحمل الأمانة فإنَّه لم يفارقها في كونه خلق منها وإليها يعود، ومنها يخرج للحياة الآخرة مرة آخرى.

بيان ضرورة المنهج القرآنيّ من نواحٍ عديدة

المنهج القرآنيّ ضروريُّ للتعامل مع القرآن، وإن كان المنهج ذاته مستنبطاً من القرآن، وذلك لأسباب عديدة:

أولاً: المنهج القرآنيّ يصوغ الإشكاليّات التي تواجه الإنسان صياغة منهجيّة دقيقة، ويساعده في حسن توجيه تلك الإشكاليّات إلى القرآن المجيد لاستنطاقه الجواب بعد العروج إلى عليائه.

ثانياً: المنهج القرآنيّ يراجع ما بني حول القرآن المجيد من تراث، ويقدمه إليه لتصديقه بعد نقده وإعادته إلى حالة الصدق، ثم الهيمنة عليه، واستيعابه وتجاوزه بحيث تكون الهيمنة والمرجعيَّة دائماً للقرآن على كل ما عداه، ويكون الحجة والناطق بالحق على كل ما سواه.

ثالثاً: المنهج القرآنيّ يساعد في تكوين الرؤية المطلوبة لبناء الحاضر وتأسيس المستقبل على ماض قد تمت تنقيته وتعريضه لتصديق القرآن وهيمنته وحاضر هيمنت عليه قيم القرآن ومقاصده العليا الحاكمة “التوحيد والتزكية والعمران”.

رابعاً: المنهج القرآنيّ يمكِّن الباحثين الجادّين من تحديد فترات التوقُّف والانقطاع في تاريخنا وتراثنا، وإن كانت هناك دعوى تنكر القول بحدوث توقف أو انقطاع، وتنفي مقولة إغلاق باب الاجتهاد وشيوع التقليد في هذه القرون وتستشهد بوجود علماء ومجدِّدين أفراد في تلك الإعصار. وبقطع النظر عن هذا الجدل فإنّنا بحاجة إلى تقديم المنهج القرآنيّ لاستيعابها بوصل ما انقطع ثم تجاوزها. مثل فترة القرن الرابع ثم نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن مع معرفة أسبابها وكيفيّات حدوثها وآثارها.

خامساً: المنهج القرآنيّ يساعد في الكشف عن القراءة التجزيئيَّة والمعضَّاة وتجاوزها إلى القراءة الجامعة و”الجمع بين القراءتين”.

سادساً: المنهج القرآنيّ يخلص الإسلام من كل الشبهات التي وُجهت إليه ويبرؤه من آراء الناس التي نالت التقديس، وحملت عليه!

شيء من وجوه الاختلاف بين منهجنا ومنهج غيرنا:

1. منهجنا قرآنيّ، من القرآن ينطلق وإليه يعود، والقرآن مصدر المنهج -كما أشرنا- لأنّ المنهج من الكليَّات، كما أنّ المنهج من المقاصد والقيم من وجه آخر، ومصدر ذلك كلّه هو القرآن.

2. منهجنا يبدأ بـ”الجمع بين القرائتين” قراءة الوحي وقراءة الكون، فالوحي ينبه إلى ما في الكون من عناصر ومؤثِّرات، وإلى ترابط الأسباب بالمسبَّبات، وبين فعل الغيب في الواقع، وكيف يمكن رصد آثار هذا الفعل، وأين يبدأ الدور الإنسانيّ وأين ينتهيّ أو يتوقَّف. والكون يساعد على فهم الوحي والوعي عليه وعلى قضاياه، وحسن قرائته، وكيفيَّة استدعائه للحضور الدائم والشهود المستمر لترشيد المسيرة الكونيَّة، وتحقيق أهداف وغايات الحق من الخلق.

3.  بالجمع بين القرائتين نربط بين الغيب والواقع.

4. بالجمع بين القرائتين نستخلص من القرآن محدّدات يُقرأ الواقع بها.

5. وبالجمع بين القرائتين نتمكن من الصياغة الدقيقة لإشكاليّات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في “وحدته البنائيَّة” للوصول إلى هديه في معالجتها.

كيف نستخلص المحدّدات الموضوعيَّة من القرآن؟

إنّ المجتهد حين تعرض عليه نازلة من النوازل ينظر فيها وبعد أن يلم بها وبجوانبها المختلفة يقرأ القرآن -كلّه- وبدون ملاحظاته ثم يجمع كل ما يتعلق بها من آيات الكتاب الكريم بعد أن يكون قد أدرك سياقها وسباقها. ثم بيانها من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف علّمها لحل التلقيّ، ودرّبهم على اتباعها، ومعرفة آثارها في جيل التلقي، ثم يبدأ النظر للكشف عن الحكم الذي يمكن أن يحكم به على الواقعة الحادثة بعد تقييمها، وتحديد ما فيها من مصالح أو مفاسد، وملاحظتنا على هذا أنه في هذه الحالة يصبح قارئاً أقرب إلى الانتقائيَّة الموضوعيَّة وهذا فيه تجاوز للقراءة الشاملة للقرآن في “وحدته البنائيَّة”.

في حالتنا هذه على الباحث أن يصوغ سؤاله أو إشكاله، إذ أنَّ ذلك السؤال أو الإشكال بمثابة النازلة، وهو تصور لها في كل الأحوال، ثم يعرج بها إلى القرآن. فالسؤال أو الإشكال الذي يخرج الباحث به عليه أن يوجهه إلى القرآن المجيد، وفي عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواقع يفرز مشكلاته وينزل مشكلاته وينزل القرآن الكريم لمعالجة تلك الإشكالات والإجابة عن تلك الأسئلة؛ فعلى سبيل المثال: أهناك “مصادفة” في الوجود الكونيّ والإنسانيّ وحركتهما؟، أم لا مصادفة وكل شيء بتقدير وحساب؟ وعلى المجتهد الباحث أن يوجه هذا السؤال إلى القرآن، ثم يبدأ باستقراء آيات الكتاب الكريم آية آية لا بحسب الموضوع ولكن بحسب وحدة القرآن البنائيَّة ليجد في النهاية استحالة القول بوجود المصادفة أو قبولها، لا على مستوى عالم الأمر في بداية الخلق كلّه (مَا خَلَقْنَاهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الدخان: 37 و(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ) (ال عمران: 191) و(أَفَحَسِبْتُمُ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمُ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المومنون: 116).

ولا على مستوى عالم الإرادة (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى) (طه: 40) ولم تأت مصادفة وكذلك قصة لقاء العبد الصالح وموسى عليه السلام وفقد السمكة وغير ذلك.

ولا على مستوى عالم المشيئة: فكل مخلوق أو حركة أو سكنة في حساب وتقدير وتدبير (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ اَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الاَرْضِ يَاتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 15) وحين تنتفي “المصادفة”  تنتفي “العبثيَّة” كذلك، وتستدعى “الغائيَّة”، قال جل جلاله: (أَفَحَسِبْتُمُ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمُ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) (المومنون: 115) (أَيَحْسِبُ الاِنسَانُ أَنْ يُّتْرَكَ سُدًى) (القيامة: 35).

وبذات الطريقة يمكن أن نستمر بصياغة أسئلتنا وإشكاليّاتنا وتوجيهها إلى القرآن الكريم. هل هناك سببيَّة أو لا؟ وهل هي مطلقة أو لا؟ وسوف نجد القرآن الكريم يجيب على كل الأسئلة بما يشفي العقول والقلوب، ويمكِّننا من الكشف عن القوانين والسنن والمحدِّدات المنهجيَّة وفقاً لسقفنا المعرفيّ العالمي الراهن.

أهناك حريَّة إنسانيَّة في اختيار القول والفعل والموقف والمعتقد أم أنَّ الإنسان مسيّر بالسنن والقوانين الكونيَّة والاجتماعيَّة؟ وأنّه لا يملك من أمره شيئاً.

وإذا أردنا أن نستنطق القرآن للإفصاح عن التشريع، وما إذا كانت الشريعة متضمنة الحرج والمشقة فتستقرئ محدِّداته النظريَّة في “مجال العقوبات المتضمِّنة للحرج والتشريعات التي قد يرى البعض أنها متجاوزة للقدرات البشريَّة”، نجد أنَّ خصائص الشريعة كما ذكرها القرآن الكريم توضح لنا أنه سبحانه وتعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 285)، (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 184) وتقدم لنا الجواب الشافي وتوصِّل إليه: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ…  آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيء الاُمِّيِّ الَّذِي يُومِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) (الأعراف: 155-158) مع امتناع التكليف بما لا يطاق في هذه الشريعة (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا اِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 285) (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا اِِلَّا مَا ءاتَاهَا) (الطلاق: 7)، وامتناع وجود الحرج في أيّ من تشريعاتها (ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 76) (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُّخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الاِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وتغيير طبيعة التكليف فيها؛ من التكليف بمعنى إلزام ما فيه كلفة إلى “التشريف الإلهيّ” .

كل ذلك لا يسمح بتصور وجود العقوبات المشدّدة كالرجم، فالعقوبات المشدّدة تعد أو تسلك في دائرة الانتقام والتنكيل والتكفير وحيث ورد التكفير؛ (بمعنى الكفارة) في القرآن فإنَّه يرد بلفظه كما في كفارة اليمين تغليظاً للحنث بالقسم باسم الله، حيث أريد التنكيل فإنَّه لا يذكر بلفظه كما في كفارة اليمين تغليظاً للحنث، وحين أريد التنكيل ذكر بلفظه كما في جلد الزاني والزانية، (نَكَالاً مِّنَ اللّهِ) (المائدة: 40) وفيه تغليظ لجريمة الزنىٰ، وتحذير وإنذار لسوى الزانيين وزجر لهما وللآخرين عن الوقوع في مثل ما وقع فيه الزناة؛ فهي في الجملة واقعة في دائرة التطهير والتزكية والتربية وتكامل التوبة وتطهير المجتمع من الفاحشة.

إذ أنَّ استقراء آيات الكتاب الكريم ذات العلاقة بتلك العقوبات يؤكد أنَّ مقصد التشريع الأعلى بعد التوحيد هو التزكية: تزكية الفرد، والأسرة، والمجتمع، والبيئة وهي مقصد كليٌّ ومطلق يشمل التشريع العقابيّ، كما يشمل سواه.

و”التزكية” إحدى القيم الثلاثة الحاكمة، والمقاصد الشرعيَّة العليّا، وعقوبات النكال لا تؤديّ إلى التزكية بمفهومها هذا، بل تؤدي إلى مقابلة العطاء الإلهيّ الغيبيّ الخارق للسنن الكونيَّة، المتجاوز لها بنكال وعذاب بئيس، إذ أنَّ خرق الأوامر الإلهيَّة بعد كل ذلك العطاء ومقابلته بالمعصية بدلاً من أن يقابل بالطاعة المطلقة يستحق مرتكبوه أن يواجهوا بذلك العذاب والنكال.

فموسى أعطىٰ تسع آيات حسيَّة، فقد أنقذ بني إسرائيل من أبشع أنواع الاستبداد التي أذهبت إنسانيَّتهم، ودمرَّت آدميَّتهم، وكل ذلك كان يتم بخوارق يشاهدونها ويحسُّون بها مثل فلق البحر لعبورهم، وإغراق أعدائهم وانبجاس الماء من الصخر بعصا موسى لسقياهم، ونـزول المنّ والسلوىٰ طعاماً شهيّاً من السماء دون جهد منهم: فمن العدل أن تقابل تلك الخوارق  بطاعة الله والإخبات له، لا بالتمرُّد عليه ومخالفة أمره، فإذا عصوا فإنَّ من المناسب أن يواجهوا بعقوبات تنكيليَّة رادعة: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ) (المائدة: 34) فيجب أن يقتل ولا عفو ولا نـزول إلى مستوى الدية.

ومَن زنا فعقوبته الرجم ولابد ولا عفو ولا تخفيف بجلدٍ ولا بغيره. ومن سرق قطع ولا شيء دون ذلك.

ومن أفسد في الأرض وأخاف الناس في طرقهم ومعاقد عمرانهم يقتل أو يصلب أو تقطع يداه ورجلاه من خلاف أو ينفىٰ من الأرض”.

تلك هي عقوبات شريعة الإصر والأغلال التي يبدو العدل فيها ظاهراً في مقابلة “خوارق العطاء الإلهيّ” للقوم.

أما الشريعة الإسلاميَّة فقد اختلفت في جانب كبير في مقاصدها وغاياتها عن شريعة بني إسرائيل لأنّها شريعة عالميَّة عامَّة شاملة صالحة لأن قد تبنّاها البشريَّة لّها في أي زمان وأي مكان، وليست شريعة حصريَّة منحصرة في قوم أو شعب. لم تكن هناك خوارق ومعاجز حسِّيّة مباشرة وظاهرة يراها الشعب العربيّ -كلُّه- أو يسمعها، أو يحسُّ بها إحساساً ماديّاً كاملاً، ولم تقم العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وبين المسلمين على أساس الحاكميَّة الإلهيَّة المباشرة، والعطاء الإلهيّ الخارق.

فالعرب كانوا في صحراء قاحلة، ومكة تقع في واد غير ذي زرع، والعرب تحدَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيّاً ورسولاً؛ تحدَّوه أن يأيتهم بمثل ما جاء موسى قومه به من آيات ليؤمنوا به، فلم يفجر لهم ينابيع الماء، ولم ينّزل عليهم المن والسلوىٰ لا في مكة ولا في المدينة، ولا في شعب أبي طالب الذين حوصروا فيه حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر.

بل أكد عليهم ضرورة التعامل مع معجزة القرآن فقط والاكتفاء به (قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الاِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الاِسراء: 88)، وقال عز وجل: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْاَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْاَوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْاَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الاِسراء: 59) فقد بيَّنت الآية التالية لها أنّ قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدهم التخويف إلا طغياناً كبيراً (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمُ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الاِسراء: 60)، وأيضاً (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ اِنَّمَا الْاَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، اَوَ لَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ) (العنكبوت: 50-51)؛ فالقرآن هو المعجزة الكبرىٰ، وهو المعجزة الوحيدة التي جرى التحدِّي بها.

وهي المعجزة الشاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحدىّ العالمين كافَّّة بها. وكل ما أورده الرواة والمحدّثون والقصَّاصون -بعد ذلك- خاضع لهيمنة القرآن وتصديقه، وكلمته هي الفاصلة في ذلك -كلّه- لا تعلو عليها كلمة أخرى، وبذلك يتحدَّد المرجع الأول، ويتم تكريسه ميداناً لنظر الإنسان للوصول إلى معرفة الله، والإيمان به وبرسله والانطلاق في آفاق المعرفة بعد ذلك في ضوء وهدى أنواره.

تحديد العلاقة منهجيّاً بين الكتاب والسنَّة

حين نتحدث عن المنهج المعرفيّ القرآنيّ يتبادر إلى ذهن البعض سؤال: وماذا عن السُنَّة النبويَّة، من قول وفعل وتقرير؟ ألا تعدّ مصدراً موازياً للقرآن في مجال بناء المنهج واستيعابه وتجاوزه أو مكملاً. وهل يمكن للسنّة أن تستقل في بناء “المنهج”؟

إننا هنا بإزاء منهج دوّار للحوار المتبادل يستدعى فيه النصّ القارئ في حين يستدعى القارئ النصّ. إنّ المعنى شركة بين آنيَّة وعي القارئ وزمنيَّة وعيّ النصّ (وذلك باعتبار هذه الزمنيَّة النصيَّة فعلاً من أفعال الديمومة). وهذا هو السرُّ في كون النصّ يطرح شبكة دلالاته على استجاباتها المختلفة في كل زمان ومكان. ويكتشف عن معانيه باستيعاب للزمان والمكان دون أن يستوعبه أيُّ منهما.

هنا أمام هذا الإشكال الذي لا يمكن تجاهله لا بد من تحديد العلاقة بين الكتاب والسنة تحديداً منهجيّاً، فما طبيعة العلاقة بين الكتاب والسنة في الدائرة المنهجيّة، وتأكيدنا على الإطار المنهجيّ؛ لئلا يستحضر الباحث الإطار الفقهيّ أو الكلاميّ أو أيَّ إطار آخر قد تأخذ العلاقة فيه شكلاً مغايراً فيضطرب فهمه لما نقول.

كانت قضيّة “العلاقة بين الكتاب والسنة” ولا تزال من أخطر قضايانا المعرفيَّة. بالرغم من وضوحها قرآنيّاً وقد اضطربت فيها أقوال ومذاهب الناس اضطراباً لا مزيد عليه، مما زاد الموضوع غموضاً وتعقيّداً شأنها في ذلك شأن كثير من القضايا السهلة الميسَّرة التي دخلها التعقيد نتيجة الجدل والسجال الذي دار تبعيداً عن الأسباب الموضوعيَّة:

1. لأنّه ما من عالم من علماء الأمَّة؛ بقطع النظر عن انتمائه المذهبيّ أو الطائفيّ ينكر “حجيَّة السنَّة”. أو ينفي كونها بياناً عمليّاً تطبيقيّاً لمنهج الاتّباع المعصوم للكتاب الكريم ملزماً لا يستغنى عنه في هذا المجال عندما نفتقد بيان القرآن للقرآن كما نص على ذلك الإمام الشافعيّ في الرسالة.

2. لم يخالف أحد من أهل العلم يعتدُّ بعلمه وبانتمائه إلى أهل العلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله بتلاوة الكتاب على الناس، وتعليمهم إيّاه وتزكيتهم وتطهيرهم به، وذلك يقتضي ولا شك أن تكون أقواله وأفعاله وسائر تصرّفاته دائرة حول محور الكتاب، فأقواله بيان وتوضيح لمنهج التلاوة والترتيل والتدبّر، وأفعاله تطبيق لذلك المنهج، وتصرُّفاته وسلوكيَّاته بيان وتطبيق وتقديم للنموذج والمثال لتتاح للبشريَّة فرص التأسِّي به صلى الله عليه وسلم. ولذلك قالت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان خلقه القرآن”  جواباً عن سؤال وجِّه إليها حول خلقه صلى الله عليه وسلم. وفي الحكم أمر أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وفي التعليم يعلمهم الكتاب والحكمة التي يشتمل عليها وبه يزكيهم ويطهرهم.

3. لم يقع خلاف في أنَّ للسنَّة التشريعيَّة -كلِّها- أصولاً في القرآن بقول الإمام الشافعيّ: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاّ وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”  وما لم يدل عليه دليل جزئيٌّ مباشر، وجاءت به السنَّة فإنّه بقليل من التدبّر يمكن أن يندرج تحت كليَّات القرآن ومقاصده، ولكنَّ الجدال والسجال بين “أهل الرأيّ وأهل الحديث” أفرز مقولة “استقلال السنّة بالتشريع”، كما أنَّ “العقل الفقهيّ” أبرز التراتب بين الأدلة لأغراض تعليميَّة فاعتبر الكتاب دليلاً ومصدراً أول، والسنة دليلاً ومصدراً ثانياً تأثراً بمبدأ “القطع والظن” وتستقيم المنظومة التي أسسها “العقل الفقهيّ” لمفهوم الخطاب ومستوياته وتقسيماته. وذلك قد يكون أول تمييز برز للساحة الفكريّة بين الكتاب والسنّة أدى إلى بروز إشكاليَّة العلاقة بينهما.

4. لم يقع خلاف بأنَّ ما يثبت صدوره عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً نطق به -فدته نفسيّ- أو فعلاً قام به، أو أمراً أقره وثبت بشكل لا مراء فيه لا يمكن لأحد من أهل دين الله أن يتجاهله أو يتجاوزه، أو يرفض الاهتمام به، أو ينفي حجيَّته في منهج الاتّباع والتأسِّي بحسبه.

5. لكنّ أخطر ما اشتد الخلاف فيه واحتدم الجدال حوله؛ خاصَّة فيما لم يكن من السنَّة التشريعيَّة التي لها في الكتاب أصول تدل عليها، وتستدعى بيانها وتطبيقها، تلك الطرق والوسائل التي تروى السنن بها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس، وهي طرق الإسناد وعنها برزت “إشكاليّة خبر الواحد” والجدل الكثير الذي دار حول حجيَّته وميادين ومجالات تلك الحجيَّة. و”إشكاليّة الرواية بالمعنى التي تقوم على فهم الراوي لا على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس” و”إشكاليّة صحة الإسناد مع تعرُّض المتن إلى شذوذ أو علة قادحة، أو عدم الصمود أمام مقاييس نقد المتون” وما إلى ذلك.

6. إن آيات الأحكام في القرآن المجيد لا تجاوز نسبتها عشرة في المائة، وأحاديث الأحكام بالنسبة لسنن وسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لا تبلغ هذه النسبة. وما بقى ففيه قصص وأمثال ومواعظ وتعليم وإفتاء وتاريخ إضافة إلى الممارسات الحياتيّة العاديّة. وهذه أمور تربويّة وتكوينيَّة، لا تندرج تحت الأحكام التكليفيّة إلاّ إذا ورد الدليل المستقل بإدراجها. فيفترض أن تستخلص منها العبر والدروس والمناهج بكثير من المرونة التي نفتقدها في آيات وأحاديث الأحكام.

فإذا لوحظت هذه الأمور، تبيَّن أنَّ الجدل التاريخيّ بين الأصوليّين والفقهاء من أهل الرأيّ وأهل الحديث إنّما هو جدل وسجال خاصٌّ بأحاديث الأحكام أو في السنن التشريعيَّة، وأنَّ كلاً من الفريقين وضع في مذهبه من الشروط والمواصفات ما يجعله يصل إلى الثلج والقناعة التامَّة بصحَّة الحديث لكي يتخذ منه بياناً لما جاء في أصل الكتاب قبل أن يلجأ إلى الذهاب إلى البيان بالاجتهاد. فإنّ الخلاف يبدو -آنذاك- يسير الخطب، قليل الخطر، لا يحتاج إلى اللُّجوء إلى التكفير والتفسيق والعياذ بالله التي برزت فيما بعد اشتداد الجدال بين الفريقين.

ولعل مما زاد في تعقيد هذا الموضوع إبراز عدم الفروق بين الكتاب والسنة في بعض المجالات بالشكل المناسب، فتسمية “السنَّة” في المجال الفقهيّ بالمصدر الثاني للتشريع تسمية لجأ “العقل الفقهيُّ” إليها -كما أسلفنا- وهو يحاول أن يقيم نوعاً من التراتب بين الأدلة أو مصادر الفقه؛ فيوضح ما هو أولاً وما هو ثانياً للمجتهد والفقيه، وذلك بعد أن نسب العقل الفقهيّ للسنّة صلاحيّة التشريع استقلالاً عن الكتاب، لا بياناً له، وتطبيقاً لما أنشأه من أحكام، وهو موضوع اختلاف كبير ونقاش بينهم كما ذكرنا.

وحين برز الجدل حول “حجيّة خبر الواحد” لجأ “العقل الفقهيُّ” نفسه إلى التسوية بين الكتاب والسنَّة في كونهما وحياً، بحيث تم تجاهل الفروق الجوهريَّة بين الكتاب الكريم والسنة النبويَّة، وعدّت كل الفروق بمثابة الفروق الشكليَّة لم يفرِّقوا بين الكتاب والسنَّة إلاّ في الإعجاز والتحدّي والتعبُّد بالتلاوة وتجاوز لوازم الحكم من إنشاء وكشف عن الحكم. وذلك لحمل السنَّة على الكتاب والتسوية بينهما في الحجيَّة. وحين جاءوا إلى أمور لم يتعرّض القرآن المجيد لها ووردت بها بعض الروايات كقضايا “الرجم والردة” عدوا السنّة دليلاً مستقلاً يكون قاضيّاً أحياناً على الكتاب، وناسخاً له، ومخصّصاً ومستقلاً بإنشاء الأحكام، لا كاشفاً عن أحكام القرآن ومبيّناً لكيفيّة تطبيقها تنـزيلها في الواقع لما ورد القرآن الكريم بذلك، وكل ذلك من الأمور الخلافيّة بين العلماء.

ومن هنا نستطيع أن ندرك إلى أي مدى كان تصور العلاقة بين الكتاب والسنة مضطرباً لدى الكثيرين، وفي محاولتنا لتحديد هذه العلاقة منهجيّاً نود ملاحظة الآتي:

أولا: اعتماد السنَّة على مناهج الرواية، وهي مناهج تقوم أولاً وقبل كل شيء على عدالة الناقلين الرواة، والثقة بهم، وكل أولئك أمور نسبيَّة تختلف شروطها من محدث إلى آخر، والجانب الذاتيُّ فيها بارز. والقرآن يعتمد في إثباته وتحدي العالمين على النظم والأسلوب والإعجاز والتحديّ ويعطي الرواية دوراً مسانداً، فلا يمكن للعقل الفطريّ أو الطبيعيّ أن يواجهاه بغير الخضوع والاستسلام، إذ هما أعجز من أن يواجه تحديه بغير ذلك.

أما العقل العلميّ المعاصر فقد أبدى أنّه لا يستطيع قبول الرواية المجرَّدة من غير أن يضمَّ إليها أموراً أخرى مثل المعزّزات الآثاريّة، وإمكان المرور من القنوات المنهجيَّة المناسبة، ولذلك فإنّ هذا العقل سيجد مجالاً واسعاً للتحاور مع القرآن المجيد، والعروج إلى عليائه سواء على مستوى فلسفة العلم أو منهجه أو منطقه أو بعض تفاصيله التي تمثّل نماذج وأمثلة للمحدّدات النظريَّة، وصحيح السنة الذي يمثِّل منهجاً وبياناً أو توضيحيّاً عمليّاً أو تطبيقيّاً لما ورد في القرآن سوف يحمله القرآن ذاته، وبالجمع بين القرآن والسنة وهو مهيمن عليه ومصدِّق. بل إنّ القرآن ليستوعب العلم بحيث يعالج له أزماته على المستويات الثلاثة كذلك: الفلسفة والمنهج والمنطق. وذلك جانب من جوانب معجزة القرآن التي تتحدَّى علماء الأمّة والعالمين في مختلف التخصُّصات العلميّة ليتمكّنوا من تقديم القرآن إلى العالم المعاصر. ودور الرواية كما أسَّس لها العالم التراثيّ في هذا المجال دور مساند. لتراجع دور الرواية في هذا العصر وما يليه عن دور العلم وذلك لا يضيرنا حين تثبت البشريّة صحة اعتقادنا بصلاحيّة القرآن لكل زمان ومكان وقدرته على استيعاب العلم وتجاوزه.

ثانيا: لقد ثار بين المتقدِّمين جدل طريف لابد من استحضاره في هذا المجال حول ما تفيده الروايّة من قطع أو ظن؟ ؛ فذهب البعض إلى إفادة التواتر القطع، وإفادة أخبار الآحاد الظن، وسواء أكانت الرواية تواتراً أو آحاداً فإنَّها لن تمر، إذا كانت على مناقضة “العقل العلميّ أو المنهج العالميّ أو المنطق العلميّ كذلك”، أو “ثوابت العلم والمنهج”. وهنا تصبح عمليَّة تحديد ما هو غيب مطلق وما هو غيب نسبيٌّ، وما هو من عالم الغيب أو من عالم الشهادة أموراً في غاية الأهميَّة: فلابد من وضع الخطوط الفاصلة بين الجميع: فعالم الغيب المطلق هو عالم الإيمان “الأمر”، وعالم الغيب النسبيّ “الإرادة” هو العالم الذي نكتشفه  ونستكشفه بما يتيحه لنا الله سبحانه وتعالى من معارف وقوىٰ. وعالم الشهادة مسخَّر لنا لنمارس دورنا الاستخلافيّ العمرانيّ فيه، ولكل وسائله وأدواته ومناهجه، وطرائقه.

ثالثا: لقد أثَّر الخلط بين هذه العوامل ومسائلها، أو الانتقال السريع غير العلميّ بينها لكسب معارك الجدل غير المنضبط بضوابط العلم، أو الخلط بين المعارف العرفانيّة التأمليّة والمعرفة الموضوعيّة تأثيراً سلبيَّاً في إثارة الغبش حول تلك العلاقة وحول المعرفة ذاتها، وعلى سبيل المثال: يقسم ابن عربي المعرفة إلى ثلاثة مراتب:

1. معرفة اليقظة -وهي عنده- المعرفة المباشرة، أو الحسيّة؛ وهي المعرفة التي يتداولها الناس ويتناقلونها.

2. المعرفة التأويليّة، أو الرمزيّة؛ وهي المعرفة التي يحصل عليها الصالحون من رؤاهم ومناماتهم أو حالات الكشف والمشاهدة التي يتحدثون عنها.

3. المعرفة التي تحدث بعد الموت فيعتبرها “المعرفة الحقيقيَّة” حيث إنها تحدث بعد كشف سائر الحجب التي تقيد القدرات المعرفية لدى الإنسان.

وابن عربي قد وضع منهجاً -في نظره- في ضبط هذه الأنواع والترقيّ فيها، لكن هل يمكن اعتبار هذا المنهج منهجاً بالمعنى الذي نعرفه للمنهج؟ الجواب: لا؛ لأنَّه منهج لا يقدم لنا قوانين موضوعيّة يمكن أن تدرس ويتعلّمها الباحثون، ويتناقلونها فتضبطها المعارف المختلفة بمراتبها المتعددة، وتأخذ الصفة الموضوعيّة.

4. فمنهج الاعتماد على الرواية وحدها فقط إذا أطلقنا عليه مصطلح “منهج” فإنَّ المراد به المنهج بمعناه اللغويّ لا بمعناه الفلسفيّ؛ وهو قد يتصادم مع دعوانا بوجود منهج معرفيّ في القرآن، فإنّه لا يستقيم القول بوجود “منهج” في القرآن والقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي خوارق حسَّية متحدَّى بها كالخوارق التي أعطيّها موسى وعيسى ومن سبقهما من رسل وأنبياء كما جاء في بعض الروايات؛ فهو قد خاطب العقل الإنسانيّ بخطاب يستطيع العقل الإنسانيّ التحاور معه، وإن كان يعجز عن الاستجابة لتحديه والإنسان بمثله، وتبقى مسألة التفصيل، والأمر والنهيّ، وبيان المستحب والمكروه، وتحديد المعروف والمنكر، في السنَّة النبويَّة، قولاً وفعلاً، على جانب عظيم من الأهميَّة والاعتبار لقوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس: “ألا إنَّني أوتيت القرآن ومثله معه، من البيان وطاقات البيان، ألا إن من رغب عن سنتيّ فليس مني” .

فليس من مشروعنا أو من أهدافه في شيء نبذ قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وفعله أو استبعاده وتهميشه لأننا نعرف أكثر من غيرنا أن النبي عليه السلام قد تنبَّأ بقوم سماهم “القرآنيون” يقولون ما وجدناه في كتاب الله أتيناه وما لم نجده لم نأته، وأنه سماهم “كلاب النار”.

وكل ما في الأمر أننا معنيون هنا بترسيم منهج علميّ ذي مصدر ثابت لا يختلف عليه أحد، وتوضيح معالمه، وإجراءاته، ومقارباته والسنة تساعدنا في هذا.

أما القرآن فيؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤت غير القرآن معجزة متحدَّى بها، فهو الذي تحدَّى الناسَ به وثبت عجزهم، وجاهدهم به فانتصر عليهم، ونفى عنهم الإصر والأغلال، وأودع فيه المنهج والشرعة، والمنطق والقوانين والسنن الكونيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة الفرديَّة، وسواها.

ومن هنا كان القرآن كافيّاً للناس، في هذا المجال، بحيث لم يغادر حاجة من حاجاتهم إلا أحصاها (وَقَالُواْ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلِ اِنَّمَا الْاَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَ لَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ) (العنكبوت: 50-51) وحين نربط بين هاتين الآيتيّن وآيات سورة الإسراء 59 و60 و88 و89 و96، وسورة طه 133، وسورة الفرقان 7-10، و10-22. إن هذه الآيات وكثيراً غيرها تدل دلالة قاطعة على أنَّ هذا القرآن يهديّ للتي هي أقوم من خلال المنهج لا من خلال الخوارق الزائلة التي تحدث في لحظات عابرة ثم تنتهي. وإذا رواها الناس أو تناقلوها أضفوا عليها من أخيلتهم وحذفوا منها ما شاؤوا. والقرآن قد وضع حدّاً فاصلاً بين الآيات الحسيَّة التي تبهى العقول، وتخضع الأعناق إلى قرآن يدفع العقول والقلوب إلى الحوار.

فبالمنهج استرجع القرآن المجيد تراث النبيِّين -جميعاً- ونقده وبرَّأه مما أضافوا وزادوا عليه، وهيمن عليه كذلك وأضافه إلى حقائقه المتّصلة بعالم المشيئة العالم الطبيعيّ فيتعامل الإنسان مع الواقع، ويكتشف السنن الحاكمة له ويقوم بتوظيفها، فتنتج في إطار “جدل وتفاعل الغيب والإنسان والطبيعة”. في حين يتخيَّل الغافلون من بني آدم أنَّها تنتج ما تنتج، وحدها، مجبورة من تلك الحتميَّة حيث لا يكتشف الغافلون السادرون فعل الغيب في عالم الشهادة.

إن القرآن المجيد قد أوجد ضوابط وقواعد لتأسيس الفهم المشترك بين البشر، وفسَّر كل التجارب التاريخيّة التي تناولها بتلك الضوابط العقليَّة.

ولا يحمل ما نقول أيّ تجاهل أو رفض للسنن التي وردت في الإخبار عن خوارق حسيّة، لأنّ اهتمامنا منصبٌّ على تحديد ما تحدى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس به ولم يقل أحد على الإطلاق بأنَّ التحديّ قد وقع بغير القرآن المجيد.

وبذلك أسّس وبنى “قواعد الفهم المشترك” الذي يمكن أن يؤديّ إلى تأسيس إطار عالميّ للفكر الإنسانيّ لتنصبّ جهود الإنسان -كلهُّا- في إطار الوفاء بمهمة الاستخلاف وتسخير عالم المشيئة والمسخَّرات خاصّةً لتحقيق العمران.

وتلك الضوابط التي قدمها القرآن المجيد -هي- الضوابط التي بمقتضاها يمكن أن تؤسِّس علوم العمران المختلفة، فتؤدّي إلى عمران حقيقيّ لا إلى تأسيس حضارات للدمار واستلاب الإنسان والطبيعة معاً، وتزعم أنّها لا تتجاهل اللاّهوت.

آفات القراءة

هنا لابد من أن ننبه أنفسنا إلى “منهجيَّة القرآن التي نقرأ بها القرآن نفسه” لنستطيع الوصول إلى إجاباته الدقيقة عن هذه الأسئلة؛ فالقراءة ذاتها لابد من تخليصها من ثلاثة آفات تكاد تلازم قراءة النصوص عامَّة والنصوص السماويّة خاصَّة، أولها: الانتقائيّة والتحيُّز. وثانيها: القراءة الجزئيّة، قد تكون القراءة الجزئيّة غير بعيدة عن منطق الوحدة البنائيَّة حتى لو بدت على نقيض ذلك.

وتوضيح هذا الأمر يرجع إلى ما يُسَمىَّ بخواص البنيّة، وتكييف هذه القراءة لإحدى هذه الخواص كالآتي: خواصّ البنية: 1. الشمول، 2. التوازن، 3. التحول. ويبدو أنَّ خاصيَّة التحول هي ما يعطي أفقاً حُرَّاً داخل لزوميَّة البنية بوصفها كياناً كليّاً مترابط الأجزاء على نحوٍ وجوبيّ.

ومن ثَمَّ فإن هذه الوحدة البنائيّة، رغم إقرارنا بها، والتزامنا بها، وتأكيدنا عليها تسمح فيما تسمح به، بنوعٍ من المرونة التي تُكْسِبُ نسيجها أو نظامها التعاقبيّ مكتسباتٍ خاصّةً تتعلق بالإيماءات الباطنة لبعض الآيات المفردة بعينها؛ وكأنَّها “آيات مفاتيح” لحقائق كبرى وهذا ما كشف عنه الصوفيّة في عدد من تفسيراتهم.. بعيداً عن “الوحدة البنائيَّة” و”الجمع بين القراءتين”.

وثالثها: القراءة المؤدلجة بحيث نصوغ أفكارنا وتصوراتنا ومعالجاتنا خارج دائرة القرآن وفقاً لأيديولوجيا تبنَّيناها، ثم نأتيّ القرآن نلتمس من آيات متفرقات فيه، أحياناً أو من أجزاء منها أحياناً أخرى دعماً وتأييداً وشواهد تؤيدنا في ذلك الفهم المؤدلج ويعضّده ويؤصّل له.

ومن ذلك ما يفعله “فكر المقاربات” الذي لا يزال الفكر الإسلاميّ يمارسه حتى الآن، فإذا أثارت الليبراليّة -مثلاً- “مسألة المرأة وحقوقها في الإسلام” سارع أصحاب هذا الفكر إلى إنزال الواقع على النصّ بالشكل اللاّمنهجيّ المتقدم ليتقبَّل القرآن الواقع الليبراليّ فيصبح التعدُّد ممنوعاً أو شبه ممنوع.

ولكن حين نتجه إلى القرآن بشكل منهجيّ نستحضر خلاله الرؤية القرآنيَّة الشاملة التي تبدأ مع بدء الخلق وتمر بالأسرة والشعوب والقبائل والمجتمع، وتستحضر القيم العليا لتقدِّم التصوُّر البديل المتفوّق في تقدير إنسانيّة المرأة، واحترام تكوين الأسرة الصغرىٰ مع الوحدات الكبرى فتحل وتعالج قضيّة التعدُّد أو الميراث أو الشهادة في ذلك الإطار الكونيّ؛ فلا يفسَّر القرآن بـ”الفكر الليبراليّ” ولا يخضع له، بل يقدم بديلاً متفوقاً عليه يستوعبه ويرقيه ويتجاوزه، وكذلك الحال مع الديمقراطيَّة، والبيئة ومشكلاتها، والفقر والمرض وغيرها. وذلك لأنّ القرآن -كما أكدنا- ولا نمل نؤكد يضم “منهجيَّة كونيَّة” وأنّه بذلك يتميز “بوحدة بنائيَّة” في كل آياته وفي سوره كافَّة، وهذه الوحدة تجعل من المحال أن يقع في القرآن تضارب أو اختلاف أو نسخ أو تعارض، وأنَّ كلماته، بل وحروفه لا يمكن أن تكون ميداناً للتأويلات الشاذَّة المتضاربة إذا تلي حق تلاوته.

فمفرداته منضبطة في دلالتها انضباط النجوم في مواقعها من السماء؛ لأنَّها مصطلحات ومفاهيم إلهيَّة، والفرق كبير بين اللُّغة التي يستخدمها وينطق بها الخالق البارئ المصوّر وبين اللُّغة التي يستخدمها البشر.

فالمفردة القرآنيّة أحكم وضعها في الآيات، كما أنَّ الآيات أحكم وضعها في السور لتكون -كلّها- كتاباً محكماً مفصَّلاً على علم الله سبحانه وتعالى متشابهاً مثاني يحدث من الآثار في العقل والنفس وفي الفرد والمجتمع ما لا يمكن لكلام آخر أن يحدثه مهما اجتهد المجتهدون في صياغته وبنائه، ومهما علت درجة فصاحته وبلاغته.

ومن هنا نستطيع أن نتبين أن الرزيّة الأولى كانت حين تم إسقاط أحكام اللسان العربيّ البشريّ المتداول على القرآن فأدّى ذلك إلى نسبة الترادف والاشتراك والتواطؤ والكناية والاستعارة والتورية والمجاز إليه، وأن هذه الأحكام حين طبقت عليه فتحت أبواباً واسعة للتأويلات التي تجاهلت منهجيّته وغطت عليها، وجعلت عمليَّات إدراك العائد المعرفيّ المحدَّد لكل كلمة من كلماته أمراً في غاية الصعوبة بعد أن ألقيت على لغته كل تلك القضايا وظلالها. وكان من الواجب أن تسمو الهمم إلى إعداد أحكام خاصة بلغة القرآن تتناسب وإعجازه وتميُّزه، وتستمد من داخل البنائيّة القرآنيّة نفسها.

فحين يقول تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ) (طه: 39) فهي يجب أن ترتبط بواحد من الأدلة التي بناها القرآن للاستدلال على الألوهيَّة، وذلك لأنَّ لدينا محدِّداً نظريّاً منهجيّاً أكد القرآن عليه؛ ألا وهو كونه سبحانه وتعالى أزليّاً منَّزهاً عن الجوارح وعن الشبيه والمثال، وما قد يلازم ذلك، وأن تستمد معناها منه لتفيد “العناية” دون أن تحتاج إلى إخضاعها لقوانين الكلام العربيّ المذكورة، فتقول: هي مجاز في العناية حقيقة في الجارحة.

أو أنَّها حقيقة في الجارحة لغة، وحقيقة في العناية شرعاً، أو غير ذلك مما يفتح باباً لتميّيع المفاهيم والمصطلحات والكلمات القرآنيَّة وإعطاء الفرصة لكل مفسّر أو فقيه أن يختار أو ينتقي المعنى الذي يرغبه فيضيع المنهج، ويصبح القرآن كتاباً لا يتحكم فيه نظمه وأسلوبه وعاداته في التعبير وسياقاته ومنطقه ومنهجه، بل يحكمه القاموس اللغويّ القائم على كلام البدو ومنطقهم.

أما إذا أخذت المفردة القرآنيّة معناها، والعائد المعرفيّ لها في إطار المنهج القرآنيّ ذاته، ومن ملاحظة نظمه وسياقه فإنها تنضبط في دلالتها المعرفيّة في إطار دليل كلّي -هو “دليل العناية”- عناية الله الأزليّ بعباده المؤمنين، والتأكيد على مزيد من العناية بذلك الذي تم اصطفاؤه للرسالة.

إن هذه الفكرة أو المسألة لم تكن بعيدة تماماً عن أذهان كبار فقهاء الصحابة الذين عايشوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس وصحبوه وشاهدوا حرصه التام على ضبط النصّ القرآنيّ بمنتهى الدقة، ومنعه القطعيّ من قراءته أو روايته بالمعنى، فذلك يؤكد أهميّة الكلمة القرآنيَّة في لغة القرآن، وكونها في مستوى المصطلح المفهوم لا يجوز تغييرها أو استبدالها بأيّ لفظ آخر، كما أنَّ المسارعة إلى جمع القرآن وحفظ بعض كلماته كما نزلت بقطع النظر عن فهمهم لمعناها -في إطار لغتهم القبليّة- أو عدمه، مثل كلمة (أبّاً) في سورة (عبس).

فكلمة (أبّاً) لم يفهمها القرشيّون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب الذي تساءل عنها، ثم أبدى ندماً على تساؤله ذلك.

وحين أخبره الهذليّون أنَّها من مفردات كلامهم وأنَّ معناها (التبن) لم يقل: فلنستبدل (أبّاً) التي لا يعرف غير الهذليّين معناها (بالتبن) التي هي أكثر شيوعاً ويعرف معظم العرب معناها، بل توجه إلى نفسه وقال قولته المشهورة: “ما ضرك يا ابن الخطاب أن تجهل كلمة في كتاب الله” يعني؛ هل أحطت به -كلّه- لتجعل من تلك الكلمة سؤالاً ضاغطاً عليك ؟!

وهكذا ينبغي أن يفكر في الآفاق وفي الأنفس حتى ترسخ في الأذهان والعقول والقلوب أن التغيُّرات التي تجري في عالم الخلق إنَّما هي تغيُّرات نوعيَّة تنبثق عن “صيرورة جدليّة” وأنَّ حضارة عصرنا هذا إنَّما هي حضارة تقوم على ضوابط علميّة للمنهج الوضعي. وهكذا سيكتشف العقل العلميّ أنَّ “الجمع بين القراءتين” على هذا المستوى الإدراكيّ كفيل بتقديم الحل الكافيّ والعلاج الشافيّ لأزمات هذا الواقع القائم على ما ذكرنا؛ لأنَّ ذلك الحل بمستوى الأزمة، لا أقل منها ولا مقارباً لها ولا مقارناً لها، بل هو مستوعب لها، ومتجاوز لأنَّه أرقى منها بكثير فيستوعب “الصيرورة وجدليّتها”، ويستوعب “التغيُّرات النوعيَّة”، ويستوعب “ضوابط المنهج العلميّ” ويستوعبها بعد أن يقوم بنقدها وبيان ما يعتريها من قصور ناجم في جملته عن الاعتماد على قراءة واحدة منفردة في الكون، وإهمال لقراءة الوحي الإلهيّ والقراءة به.

المنهجيَّة القرآنيَّة والتراث

وفي الوقت نفسه تقوم “المنهجيَّة المعرفيَّة القرآنيَّة” باستيعاب وتجاوز “العقليَّة السكونيَّة” التي انبثق عنها “فكر التكرار والتعاقب والتراكم والسببيَّة” بدلاً من “الصيرورة والتغيُّر النوعيّ وضوابط المنهج العلميَّة”.

إن “الفكر الماضويّ السكوني” القائم على ما ذكرنا قد انحرف بكثير من المفاهيم الإسلاميّة وقطعها عن غاياتها وبيئاتها، وفهمها بطريقة تعد غاية في القصور، منها “قضيّة التجديد” حيث ربطت التجديد بواحد (فرد من الناس) يأتي في كل قرن ليقوم بعمليّة التجديد، وفي ذلك إلغاء للصيرورة وللمتغيِّرات النوعيَّة وتجاهل لمجموعة كبيرة من السنن المرتبطة بها. فما يجري في قرن ما، أو في سنة يمكن تكراره وإعادة إنتاجه في قرن أو عقد أو سنة تالية، وفي إطار فرديّ، ولذلك فإن ابن عربيّ خرج بفكرة أن النبّوة لم تختم بل انتقلت إلى الولاية، فكأنَّها انعكست على الولاية التي تقوم بمهام التجديد  بديلاً عن تتابع النبوّات في الأمم الأخرى.

إن سنن الله وقوانينه وآياته في الآفاق وفي الأنفس تحكم الإنسان وتحكم المظاهر الطبيعيَّة كذلك. فمن أراد شيئاً فعليه أن يعمل على تحقيقه بمنهج وعلى علم؛ فلكسب الحروب والمعارك وسائلُها وأدواتها ومناهجها، ولتكوين الثروات وسائله وأدواته ومناهجه، وكذلك الحال في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة.

إن المحدّدات الثلاثة التي ذكرنا، وفي مقدّمتها “الجمع بين القراءتين” ستكشف لنا عن استيعاب القرآن المجيد لمبدأ “الصيرورة”، وأنَّ للصيرورة مدلولاً كونيّاً يستوعب المعنى الوضعيّ ويتجاوزه، وسنكتشف أنَّ القرآن المجيد حين أكد على أن سنن الله وقوانينه لا تتحول ولا تتبدل فإنَّ ذلك لم يكن لنفي التحولات والمتغيّرات النوعيَّة في الكون، بل لبيان أنَّ هذه السنن والقوانين مستقيمة بريئة من التناقض؛ فهناك سنَّة وقانون خلق الكون، وسنة وقانون خلق آدم، وسنة وقانون استخلافه واصطفائه، وهناك سنة وقانون الوحي وإنباء الرسل والأنبياء وإرسالهم إلى البشر، وهناك سنة وقانون اختصاص نيل العهد الإلهيّ بالمتقين، وأنّه “لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”، فتلك هي سنن الله، وليس في ذلك -كلّه- ما ينفيّ التغيّرات النوعيَّة.

مما تقدم يتَّضح أنَّ القرآن المجيد كتاب واحد في بنائه و”وحدته العضويّة”، وكل مفردة من مفرداته محفوظة بهذه “الوحدة البنائيَّة”، وأنَّ “الجمع بين القراءتين” أهم خطوة منهجيَّة وأبرز محدّد منهاجيّ يساعد على كشف وتحديد بقيّة المحدّدات المنهاجيّة القرآنيّة. واتضح لنا مما تقدم أن في مقدور القرآن العظيم الذي أنزله الله الأزليّ سبحانه وتعالى وجعله كتاباً كونيّاً مطلقاً محيطاً بالكون وحركته، ولكل لفظ من ألفاظه دلالة مصطلحيّة يكشف عنها من خلال “الوحدة البنائيّة” له، وبالقراءات المتدّبرة المتعقلة المتفكرة المتذكرة المرتلة.

وهذا “الجمع بين القراءتين” الذي أمرنا به ليس من قبيل التنويه بفضيلة من فضائل القرآن، بل لندرك أنّ الجمع إنّما هو خطوة منهجيّة تتوقف على معرفة منهجيّة وفلسفة العلوم الطبيعيَّة ليتم الجمع بينهما وبين منهجيّة القرآن المعرفية بالشكل المنهجيّ.

ثم أمّا بعد: إنَّني لم أرد بهذه الورقات أن أوضح جوانب المنهج المعرفيّ القرآنيّ؛ لأنّ توضيح ذلك واستقراءه أكبر بكثير من جهود وطاقات فرد أو أفراد؛ لكنَّني أردت أن أفتح الطريق أمام سائر أصناف علماء الأمَّة من فيزيائيين وطبيعيّين وعلماء اجتماعيّات وإنسانيّات، وعلوم ومعارف نقليَّة ليبحثوا في القرآن المجيد في ضوء هذه الخطوات لعلّنا نصل -ولو بعد حين- إلى الكشف عن “منهجيَّة القرآن المعرفيَّة” وننعم ببلورة قواعده، ومعالجة مشكلات “الأسرة الإنسانيَّة” به. فالقرآن كريم لا يتوقف عطاؤه، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد.

الهوامش

———————-

1. سنن ابن ماجه، حديث رقم: 45.

2.  راجع مرادنا بكل من القراءتين وبالجمع بينهما في دراستنا الوجيزة “الجمع بين القراءتين” وهي الحلقة الثانية من سلسلة “دراسات قرآنيَّة” التي صدرت عن مكتبة الشروق الدوليّة في القاهرة.

3. راجع دراستنا في “القيم الحاكمة” الحلقة الأولى في التوحيد. دار الهادي-بيروت.

4.  هناك أسئلة أساسيّة حول حياة الإنسان وخلقه وإيجاده وخالقه وغايته، تسمىّ “بالأسئلة النهائيَّة”، والإجابة الدقيقة عن تلك الأسئلة من شأنها أن تعبر عن “الرؤية الكليّة” للإنسان وبعبارة أخرى: ما تقدمه العقيدة من إجابات لتلك الأسئلة والرؤية التي تنبثق عن ذلك هي ما يطلق عليه “الرؤية الكليّة”. وقد يطلق عليها “التصور” كما كان اختيار سيد قطب يرحمه الله في عنوان كتابه “خصائص التصور الإسلامي”.

5.  لقائل أن يقول: إنَّ “قواعد المنطق” هي التي تستخدم لعصمة الذهن من الوقوع في الخطأ عند ممارسة التفكير، فهل تريدون بهذا التسوية بين المنهج والمنطق؟ والجواب: أنّ المنهج في جوهره: ترتيب مقدّمات صحيحة بحسب المطلوب للوصول إلى نتائج، فالمقدّمات تشتمل على المعلوم الذي يوصل إلى المجهول وهناك حوار وجدل كبيرين بين المتكلمين المسلمين في هذا الأمر تجده مفصّلاً بإسهاب كبير في كتاب المؤلف الإيجي “المواقف” المرصد الخامس في “النظر” الذي عرِّف بتعريفات كثيرة، منها: أنّه الفكر الذي يطلب به علم أو غلبة ظن، ومنها: أنّه “اكتساب المجهولات من المعلومات”.

فراجع ذلك -كلّه- في شرح المواقف لعضد الدين الإيجي بحواشيه، ط. منصورة، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1998م. (1/199ت: 257) ففيها فوائد جمة.

6. نقله التفتازاني عنه، وأورده العطار في حاشيته على جمع الجوامع، “2/428” القاهرة: ط مصطفى محمد.

7. وراجع “ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان” للشوكاني.

8. لمالك بن نبي يرحمه الله كتاب مهم يحمل هذا العنوان: “الظاهرة القرآنية” جدير بالقراءة والاطلاع مع مراعاة الفروق الدقيقة بين المنطلقات المنهجيَّّة والمنطلقات الحضاريَّة لمالك.

9. تفسير المصادفة : CHANCE وهي عند أرسطو العلة العرضيَّة المتبوعة بنتائج غير متوقعة تحمل طابع الغائيَّة، وقد بيَّن “كورنو” أنَّ المصادفة هي التلاقي الممكن بين حادثين أو أكثر تلاقياً عرضيّاً لا يمكن تفسيره بالعلل المعلومة وإن كان لكل حادثة، على حدة، علل تخصها. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، ص: 383-384.

10. هنا أمر في غاية الأهميَّة في بيان الفوارق بين “الشريعة القرآنيَّة” وسائر الشرائع الأخرى، وفهمه والالتزام به يغيَّر كثيراً من الأفكار اللاهوتيّة المنحرفة التي دست على الشرائع، وما هي منها، وقامت على أساس من ذلك نظريّات قانونيّة وتشريعيّة واجتماعيّة كثيرة، بل قد أصابت العقيدة، ومنطلقات العلاقة بين الله والإنسان بكثير من الاضطراب. وقد آن لها أن تصحح.

11. مسند أحمد، حديث رقم: 25338، 26044، 26564.

12. انظر الرسالة (48) ص: 35، ط. دار النفائس 1999م.

13. المحصول وكتب الحديث.

14. وموريس بوكاي الطبيب والمفكر الفرنسيّ استطاع في كتابه القيّم الذي ألّفه لبيان كيفيّة استيعاب القرآن المجيد للعلم، في الوقت الذي يظهر التناقض واضحاً بين العلم والعهدين القديم والجديد، انظر كتابه.

15.  تخريج الحديث والشرح والتأويل.

16. راجع المحصول في علم أصول الفقه للإمام الرازي بتحقيقنا: (1/219) وما بعدها، ط 2. مؤسسة الرسالة بيروت (1412هـ-1992م).

17. قال ابن عربي تحديداً إنَّ نبوة التشريع هي التي خُتِمَت، ولكن من الأولياء من هم أنبياء لا يأتون بتشريع جديد، ولكنَّهم يأتون على تشريع خاتم الأنبياء التشريعيّين (محمد عليه السلام)، والنبوة هنا تفصيل لباطن التشريع الحاوي لأسرارٍ لم يُصَرَّح بها آنذاك، كما أنها (أي النبوَّة) مقام بين القطبانيَّة ونبوة التشريع.

Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق