مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

معالم السلوك السني

قال الجنيد:(الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام)[1]

وقال أيضا:(من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.)[2]

1- المجال التداولي للممارسة السلوكية في الإسلام:

إن تأصيل الخطاب السلوكي في الإسلام منطوقا ومفهوما،وشكلا وموضوعا،ومنهاجا وأخلاقا،وأصولا وفروعا،ووسيلة ومقصدا،والإحاطة بقضاياه وظواهره،وتحديد مكانته في منظومة العلوم الإسلامية،ورتبته في سلمها،يقتضي بيان علاقته بالأصول الشرعية،وتحديد المجال التداولي للممارسة السلوكية.

وحتى نستطيع فهم الخطاب السلوكي في الإسلام، واستيعاب مضامينه لابد من تقرير حقائق باعتبارها مسلمات تمكننا من فهم درجة هذا الخطاب، ووضعه في إطاره الصحيح والسليم، وهذه الحقائق هي:

– أن تحصيل أعلى الكمالات الأخلاقية والروحية من الأوامر التي يطالب بها المسلم، فإذا افتقدت كان ذلك نقصا في تحصيل الكمال السلوكي للمسلم.

– أن ثمرة الدخول في العمل الشرعي –انطلاقا من التأسي والإتباع- يستلزم كمال التحقق السلوكي.

– أن الغاية الكبرى لمفهوم السلوك في الإسلام هي تحقيق مقاصد الشارع و( المقصود الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا،كما هو عبد الله اضطرارا)[3]

والهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس[4]، وموافقة مقاصد الشارع في المنهج التربوي السلوكي في الإسلام يقتضي تجاوز العلائق والأهواء النفسانية، والتحرر من استرقاق الأوصاف البهيمية الشهوانية،( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)[5].

فالأعمال صور وروحها وجود الإخلاص فيها[6]، وفي الحديث 🙁 إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم،ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[7]، فوجود الإخلاص في العمل يكسب الفعل صفة التعبد، ووجود التعبد في الفعل يكسبه قبولا( ثوابا) في ميزان الله، وتصير ( تصرفات المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات)[8].

وخلو الفعل من الإخلاص يجرده من حقيقته، فيبقى رسما وصورة، وتصير الأعمال المشروعة التي تعمل للتوصل بها إلى حظوظ النفوس( غير متعبد بها إلا من حيث الحظ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد، فأشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال، والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها، فإذا أخذت من جهة الحظوظ سقط كونها متعبدا بها …فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد)[9].

إن تحقيق مقصد التعبد في السلوك يساهم في  صياغة الشخصية المسلمة السوية، وذلك عبر امتداد هذا المفهوم إلى جميع جوانب السلوك الإنساني، ما ظهر منه وما بطن،وإذا كان التعبد في حقيقته( هو الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال )[10]، فهو تجسيد للعبودية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم، وتحقيق للغاية السامية التي وجد من أجلها ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[11]، فهي عبادة يستوجبها جمال الله وجلاله، وهي خضوع بالجوارح والجوانح، فتحقيق التعبد يقتضي تعميق سلطان العقيدة على مستوى الوجدان والشعور النفسي للفرد،  لأنه كلما قوي سلطان العقيدة في باطن الفرد ووجدانه انعكس ذلك على جوارحه ونظم حياته، وطرق معاشه وكسبه، فيكون الفرد ربانيا في حركاته وسكناته، وذلك يتطلب تزكية الباطن، بتجلية الغفلة عن مرآة القلب،حتى تكون البصيرة حية، تهفو إلى خالقها، ويكون المسلم موصول العلاقة بخالقه، في حركته، وسكونه، وتكون علاقته بالأشياء محكومة بالقاعدة الذهبية التالية: إثبات العلاقة الحسية المادية بالأشياء، ونفي التعلق المعنوي الباطني بها. فامتداد التعبد في أعماق النفس الإنسانية يجعل رقابة الإنسان شاملة لسلوكه، قولا وفعلا وحالا.

ومن هذا المنظوريتأكد وجوب علاج الآفات السلوكية التي تؤدي إلى  انغلاق القلب عن المعاني السامية، وتتسبب في ذلك الانفصام النكد بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ومطالب الدين ومطالب الدنيا، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين أشواق الروح ونزعات النفس، وبين قيم التقوى الموجبة، وقيم الفجورالسالبة، يقول الغزالي:(لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات )[12].

إن غياب مقصد التعبد في السلوك الإنساني المعاصر جعل الإنسان أسير الجسد، يعيش كحمار الرحى، يتنقل من شهوة إلى أخرى، وهو لا يخرج عن مطالب البدن.ومن هنا تأتي أهمية رعاية حقوق الله في السلوك الإنساني، وذلك بتحقيق التناغم والانسجام بين البعد المذهبي، والبعد العقدي، والبعد السلوكي.

أما على المستوى المذهبي، فتحقيق الامتثال الكامل للأوامر والنواهي، حيث توافق صورة الطاعة حقيقة مقصدها، فتكون الاستجابة لتطبيق الأوامر والنواهي استجابة سوية، تكون فيها المواطأة بين الظاهر والباطن.

وأما على المستوى العقدي، فرعاية حق الله يقتضي تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى.

وأما على المستوى السلوكي، فالتحقق بالأخلاق السنية ورعايتها وتنميتها في الذات الإنسانية، حتى تصير وصفا يرسخ في النفس، فتصدر عنه الأفعال بيسر وسهولة، فهي جمع بين ما يقتضيه مقام الحق، وبين ما يستدعيه وصف الخلق، أو تقول هي امتثال لأوامر الربوبية في الباطن، بحسب أوصاف العبودية في الظاهر، فهي اتصاف بأخلاق الظاهر والباطن، والنظر إلى الأوامر والنواهي باعتبار ما يوجبه ظاهرها، وباعتبار ما يختزنه باطنها قال تعالى:( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)[13].

وقال تعالى:( وذروا ظاهر الإثم وباطنه)[14].

وإذا كان السلوك الإسلامي يمتح من شجرة العمل، فإن هذا يقتضي أن يأخذ من وسائل العمل أصوبها وأسلمها مقصدا،وأكثرها نفعا،وبقدر الدخول في العمل الشرعي، والتغلغل فيه، تنفتح للمسلم آفاق سلوكية يتجاوز بها التكلسات النفسية والركود الروحي، وتتفتق مدارك البصيرة عن فهم عميق لمراتب الدين، من إسلام وإيمان وإحسان كما في حديث جبريل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، ولذلك قال القرطبي:( هذا الحديث يصلح أن يقال أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة)[15] .

وقال القاضي عياض:( اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه)[16].

والفهم في الدين والفقه فيه شامل لفقه الجوارح وفقه السلوك.

إن جانب التعبد كبعد قيمي للسلوك يجعل المسلم يعيش الحضور الدائم مع الله، والمراقبة الكاملة لأحواله( أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[17]. وإن غفلة الإنسان المعاصر عن هذه الحقيقة جعلت هويته تتلخص في الصيغة الآتية:(أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك )[18].

إن المجال التداولي للسلوك الإسلامي هو التجربة الحية، فبها تحيا المعاني الروحية في النفس الإنسانية،وبها تصقل حقيقة السلوك، فلا يكون نتاج أوهام وتصورات ظنية ومجردة ،أو أفكار متخيلة، بل يغدو تجارب وحقائق وخبرات نافعة، تمد المسلم بفهوم عملية، تقربه من مضمون القيم الروحية قرب سالك قد خبر الجوهر، ونقح العمل، وصفى المعرفة، فكان سلوكه منخولا، لا قرب مدع ،حظه المقال والنظر المجرد، فيكون سلوكه منحولا.

إن السلوك الصحيح والسليم من الآفات يوسع مدارك المسلم وآفاق بصيرته لقيم ومعاني ومقاصد ما كان له أن يطلع عليها لولا هذا الاشتغال.

ثم إن الإسلام جعل الإنسان خليفة في الأرض، ومفهوم الاستخلاف يعبر عن المكانة الجلى التي يحظى بها الإنسان في سلم التفاضل القيمي للمخلوقات، فهو تكريم وتشريف إلهي للإنسان، وبيان لموقعه في المنظومة الكونية، ورتبته بين الموجودات، قال تعالى:( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر،ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)[19].

فالإنسان أرفع الكائنات وأعظمها، وقد سخر الله له الأكوان، علويها  وسفليها ومنحه السيادة عليها، قال تعالى:( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه)[20]، والاستخلاف من هذا المنظور تكليف وأمانة، فهو مهمة وجودية تجعل الإنسان مسؤولا أمام خالقه- سبحانه وتعالى- لأنه حامل للأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، ذلك أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على استيعاب مضمون الخلافة لتحقيق النيابة عن الحق على خير وجه، لأن مقصد الخلافة إعمار الأرض ( باستعمال مكارم الشريعة، ومكارم الشريعة هي الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، وفي الحكم والإحسان والفضل… ومن لا يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لاستعمار أرضه فالبهيمة خير منه.)[21]

إن الاستخلاف كأساس عقدي يمتد ليشمل جميع تصرفات الإنسان في تسخير الكون والانتفاع به، والالتزام بالمنهاج الذي رسمه له مستخلفه، فهو مفهوم مؤطر لسلوك الأفراد في تدبير شؤونهم، والوعي بمضمونه كإطار سلوكي تتأسس عليه تصرفات الفرد والمجتمع يعتبر أحد الغايات الأساسية التي يستهدفها الإسلام من أجل صياغة الشخصية الإنسانية صياغة سوية، قادرة على ترجمة هذا المضمون إلى واقع سلوكي.

فالاستخلاف من هذا المنظور يعتبر إطارا مذهبيا يوجه سلوك المسلم، ويربطه بالمنظومة الدينية،حتى تكتسي أفعاله وتصرفاته وأحواله دلالتها الشرعية، والنسق الشرعي يلتحم فيه البعد الديني بالدنيوي، وبذلك يؤسس المعاش على المعاد، وتتحرك الدوافع الإنسانية في إطار شرعي وأخلاقي، ويقع النظر في السلوك الإنساني من جهة العائد الديني الأخروي، والدنيوي المادي[22]، فليس السلوك ما تقتضيه  الهياكل الإنسانية بمظاهرها الخارجية الجثمانية، ولكن السلوك ما كان موافقا للشرع ظاهرا وباطنا، وذلك بتقدير الضرر والنفع الشرعيين المترتبين عنه، والنظر إلى منفعته القبلية والبعدية،( من حيث مواقع الوجود،ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها)[23].

وانطلاقا من هذه المنظومة المرجعية الدينية يصبح السلوك الحقيقي هو ما جلب منفعة ودفع ضررا شرعيا، ظاهرا وباطنا، آجلا وعاجلا، وزاد في الكمال الأخلاقي للمسلم، وليس ما جلب مصلحة عاجلة ودفع ألما نفسيا، ولذلك قد تتحد صورة السلوك بالنسبة للمكلفين، ويختلف معامله- ثوابه- في ميزان الشرع.

2- موقع السلوك في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم:

تعددت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها ما يتعلق بالتشريع، ومنها ما يتعلق بالفتوى، ومنها ما يتعلق بالقضاء، ومنها ما يتعلق بالإمارة، ومنها ما يتعلق بتزكية النفوس وهكذا.

وقدبين لنا القرآن أن من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس، ولامعنى للتزكية إلا أن يرتقي بها من الغفلة إلى اليقظة، ومن الموت إلى الحياة المعنوية، قال تعالى:( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)[24]، فالتزكية من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حقق ذلك الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة إذ قال:( وقد عرض لي الآن أن أعد من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يصدر عنها قول منه، أو فعل، اثني عشر حالا، منها ما وقع في كلام القرافي، ومنها ما لم يذكره، وهي التشريع ،والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد في الإرشاد)[25]، ثم قال بعد أن ذكر بعض التصرفات المتقدمة:( وأما حال طلب حمل النفوس على الأكمل من الأحوال، فذلك كثير من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه الراجعة إلى تكميل نفوس أصحابه، وحملهم على ما يليق بجلال مرتبتهم في الدين من الاتصاف بأكمل الأحوال… فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه مشرعا لهم بالخصوص، فكان يحملهم على أكمل الأحوال من شدّ أواصر الأخوة الإسلامية بأجلى مظاهرها والإغضاء عن زخرف الدنيا )[26].

فتكميل النفوس وتربيتها تحتاج إلى تحقيق المناط بحسب اختلاف النفوس، وفي ذلك يقول الشاطبي:( وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى، والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف، مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص غير المنحتم بوجه آخر: وهو النظر في ما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولايكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى عامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف.)[27]

ولتأصيل هذا المنهج في السلوك والتربية، وبيان معالمه ساق الشاطبي – رحمه الله – نماذج كثيرة من المنهاج النبوي، وقال في هذا السياق:( فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه، أو عمومه، لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل)[28].

ومن الأدلة التي ذكرها الشاطبي ما أخرجه النسائي عن أبي أمامة، قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت مرني بأمر آخذه عنك، قال:عليك بالصوم فإنه لامثل له.

وفي الترمذي، أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟

  قال:الذاكرون الله كثيرا والذاكرات.

وفي البزا، يا أبا ذر: ألا أدلك على خصلتين، هما خفيفتان على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما، عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما.

وفي مسلم: أي المسلمين خير؟

قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده.

وقال لأبي ذر: إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم.ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله.

وقد قال في الإمارة والحكم : إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن.

وقال: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح.

وقبل عليه السلام من أبي بكر ماله كله، وندب غيره إلى استبقاء بعضه، وقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك[29].

وفي الصحيح أن ناسا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا:نعم، قال: ذلك صريح الإيمان.

وفي حديث آخر: من وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ، وعن ابن عباس في مثله قال: إذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم[30].

قال الشاطبي –رحمه الله- ( فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأجوبة مختلفة، وأجاب ابن عباس بأمر آخر والعارض من نوع آخر…ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين وهو كثير)[31].

3- التجربة السلوكية بالمغرب( الخصائص والمميزات)

إن الجهل بجغرافية النفس  الإنسانية يوقعنا في متاهات سلوكية، تحجب عنا أنوار الكمالات الأخلاقية، فلا نلتفت إلى حقيقة التكليف السلوكي، وهو ما سماه الشاطبي بفقه الأوصاف الباطنة، وفقه الأوصاف الحميدة، يقول الشاطبي –رحمه الله- 🙁 ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر، والحسد، وحب الدنيا، والجاه، وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره،… وكذلك فقه الأوصاف الحميدة، كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل.)[32]

 فلا ندرك من الفعل السلوكي سوابقه وقرائنه ولواحقه، ولا نحيط بمراتبه الدنيا والعليا، ولا نتبين أثره في سلمية الأحكام الشرعية والأخلاقية، ولا نضبط علاقات التساند والتكامل التي يفرزها تراكم القيم السلوكية، ولا نستحضر متغيرات الزمان والمكان.

وإذا كان السلوك الحي هو ما كان يحمل دلالة تعبدية، فإن الكلام عنه يستدعي تحديد بعض خصائصه.

 ومن هذه الخصائص:

1-  أن هذا السلوك يكون صاحبه موصولا بأسباب الدين، أي أن صلة صاحبه بالله لا تنقطع، فهو دائم السلوك إلى الله، يعبر من الأكوان إلى المكون، ويراعي حقوق الله في كل شيء، ولا يلتفت إلى الحظوظ ، فسلوكه جامع، إذ طرفه الأدنى موصول بالإنسان( أدب سلوك مع الخلق)-، وطرفه الأعلى موصول بالإله،( أدب سلوك مع الحق).

ويترتب على هذه الصلة:

1-1 أن صاحبها يكون سلوكه كونيا( عالميا)، لأنه مأخوذ من الأصول الأخلاقية الدينية، ومبثوت بالخلقة في فطرته، ولا تعمل التربية الروحية إلا على تنمية ما يختزنه من قيم روحية، وكمالات أخلاقية، ولذلك فسلوكه طبيعي، وليس صناعيا، وسلوكه سلوك عمق، وليس سلوك سطح، وسلوك يقظة وليس سلوك غفلة.

1-2 أن منفعة هذا السلوك تعود  بالصلاح على الإنسانية، إذ هو سلوك يبتغي صاحبه التعرف على الحق، والأدب مع الخلق، فهو يرى في الآخر مظهرا من مظاهر تجلي الحكمة الإلهية في الخلق، فيقبل على أسباب التواصل والتعاقل معهم، ومحو كل الآفات التي تحول دون التواصل معهم، فلا يرى لنفسه مزية عليهم ، يقول الحكيم الترمذي:( ما استصغرت أحدا من المسلمين إلا وجدت نقصا في معرفتي)[33]، فقلبه يتسع لكل البشر، لا يبالي بالفروق بين الأجناس ولا بين الأعراق ولا بين المواطن، إلا ما كان منها مخالفا لمقتضى التقرب إلى مقصوده الأسمى.

2-  أن صاحبه يكون سلوكه نموذجيا: ذلك أن التغيير الذي يحدث في سلوك الفرد يتوجه إلى الأصل، وهو الهوية الأخلاقية للإنسان، وذلك لاستنادها إلى المبدأ التأنيسي الذي يأخذ بالمقتضيات الأخلاقية من أجل الإصلاح والتغيير، والمساهمة في تحصيل اليقظة السلوكية، والتخلق الأكمل، والتحقق التام، إذ ( الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق)[34].

فالممارسة السلوكية لمكارم الأخلاق تتنزل في أعلى رتبة سلم المصالح الضرورية، فلا سلوك بدون قيم روحية، ولاقيم روحية بدون دين، والسلوك أبلغ في الدلالة على التوجه الأخلاقي الذي تلابس فيه القيم الروحية سلوك الفرد ظاهرا وباطنا، فيتحقق بها على الوجه الأكمل ( سلوك القيم الحسنى).

وعلى هذا الأساس تكون درجة السلوك بحسب درجة علاقة الفرد بالاشتغال الشرعي، وبحسب رتبته في التحقق الوجداني بالخطاب الشرعي، فالمومن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا.

وقد اتصفت التجربة السلوكية بالمغرب بخصائص أساسية ثلاث، وهي:

1- خاصية التكامل: حيث جمعت بين التخلق والتفقه، وبين التجرد والتسبب، وبين مجاهدة العدو وجهاد النفس.

أما الجمع بين بين التفقه والتخلق، فمبناه على الأخذ بالمعنى الأصلي والواسع لمفهوم الفقه، وهو أن تكون أحكام الظاهر موافقة لأحكام الباطن، وهو ما يؤكد حرص جل السلوكيين المغاربة على الاهتمام والعناية بالعلوم الشرعية بمختلف أقسامها، حتى إن أكثرهم كانوا فقهاء ومحدثين، بل إنهم ساهموا في ابتكار أساليب وأدوات ومناهج وطرق لترسيخ العقيدة في نفوس الناس، يقول صاحب الترجمان المعرب:(حقيقة الحزب وهو الورد المعمول به تعبدا ونحوه، وهو في الاصطلاح مجموع أذكار وأدعية وتوجهات وضعت للذكر والتذكير، والتعوذ من الشر، وطلب الخير واستنتاج المعارف، وحصول العلم مع جمع القلب على الله سبحانه بذلك، قال الشيخ زروق: ولم تكن في الصدر الأول، ولا من بعدهم بقريب، لكن جرت على أيدي مشايخ الصوفية، وصالحي الأمة بحكم التصريف، والنظر السديد، شغلا للطالبين، وإعانة للمريدين، وتقوية للمحبين، وحرمة للمنتسبين، وترقية لهمم المتوجهين من العباد والزهاد، وأهل الطاعة والسداد، وفتحا للباب حتى يدخلها عوام المومنين، لما رأوا قصر الهمم، وضعف العزائم، وبعد النيات، ونقص القرائح، واستيلاء الغفلة ومرضى القلوب، وقلة اليقين)[35].

وأما الجمع بين التجرد والتسبب، فقد كان مبناه على التجرد من الحظوظ النفسية، والآفات الباطنية التي تلابس مقاصد المكلف، مع الأخذ بالأسباب والوسائل، ومن ثم كان أرباب السلوك بالمغرب يوصون تلاميذهم ويحثونهم على العمل وترك البطالة.

وأما جمعهم بين جهاد النفس وجهاد العدو، فيدل عليه تلك الرباطات التي أنشئت بغرض الدفاع عن حوزة المسلمين، والمشاركة إلى جانب الملوك والأمراء في صد الأعداء.

2-  الخاصية التداولية: ومبناها على طلب ما تحته عمل في الجانب الفقهي والعقائدي والسلوكي.

أما طلب ما تحته عمل في الفقه، فيدل عليه ابتعادهم عن الفقه الافتراضي، مع مراعاة طاقة الجمهور في التعقل والفقه، وهم في ذلك إنما كانوا مستلهمين لمنهج الإمام مالك رحمه الله.

وأما ما يتعلق بالعقائد، فيدل عليه ابتعادهم عن الجدل في الكلام، والاكتفاء بما جاء في الكتاب والسنة، دون الخوض في المسائل التفصيلية، إذ المقصود في التوحيد عندهم هو العمل التعبدي، وهو منهج الإمام أبي الحسن الأشعري،

( ماعرف بطريقة المتقدمين)، وما سطره ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة كتابه الرسالة.

وأما في الجانب السلوكي فقد ابتعدوا عن الآفات السلوكية التي تسربت إلى بعض الممارسات الأخلاقية، كالإشراق المستمد من النظر الفلسفي، والذي يأخذ بمبدأين، مبدأ إطلاق العقل، ومبدأ امتياز الفرد، وهو توجه يخالف ما عليه السلوكيون المغاربة الذين بنوا أصولهم على الكتاب والسنة، واختاروا طريقة الجنيد؛ ولذلك فالعقل مقيد بالشرع، ومحكوم بالنصوص، والفرد لا ينبغي أن يخرج عن جماعة المسلمين.

3- الخاصية التأنيسية: ويقصد بها الأخذ بالمقتضيات الأخلاقية من أجل الإصلاح والتغيير، وذلك باستثمار الوجود الإنساني من أجل تحصيل إنتاج أخلاقي، يستفيد من عوائده الفرد والمجتمع، وتحصل بفضله اليقظة الأخلاقية، ويتوسل التأنيس بأساليب تربوية تراعي مبدأ التيسير والوسطية ورفع الحرج، وذلك بتجديد مضمون السلوك التربوي.

 وتتحقق مقاصد التأنيس من خلال المبادئ التالية:

أ- ترسيخ القواعد الأخلاقية للعمل: وذلك بتعميق السلوك الروحي وجعله ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية،وذلك بالتأكيد على ضرورة دخول المكلف في العمل، مع توسيع هذا الاشتغال بالقواعد الأخلاقية التي تمد العامل بتجديد روحي.

ب‌- مخاطبة الفطرة الانسانية: حيث يتم التعامل مع الفطرة الانسانية، فيتولى أهل السلوك العناية بها تأديبا وتهذيبا، ويتعاهدونها بالذكر والتذكير، كما يعملون على تنمية ما تختزنه من قيم أخلاقية، وكمالات روحية.

ج‌- التدرج: حيث لا يعامل الناس معاملة واحدة، فالناس أصناف، منهم المبتدي،ومنهم المنتهي، ومنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات، إذ القصد إصلاح الخلائق،لا إطلاق الحقائق، ومن ثم فإن التدرج في السلوك التربوي يجعل الإنسان يقبل على الله بكليته، ويتدرج في التحقق بالكمالات الأخلاقية، دون نفور أوصدود.

د‌-  الواقعية: وتتجلى هذه الواقعية في الأخذ بوسائل تربوية تناسب العصر، وتراعي المتغيرات التي ظهرت مع تطور المستوى الفكري والحضاري للإنسان.

فالتأنيس لا يعمل على الفصل المادي للإنسان عن زمانه ومجتمعه، بل إنه يسعى إلى إدماج الفرد في مجتمعه، باعتباره فاعلا أخلاقيا، والعمل على تصحيح تحوله في هذا الاتجاه في هدوء وسكون[36].

الهوامش:


[1]– الرسالة القشيرية ص 46.

[2]– نفسه.

[3]– الموافقات :الشاطبي ج2 ص114.

[4]– إحياء علوم الدين:الغزالي ج5ص194.

[5]– سورة الأنعام الآيتان 164 و165.

[6]– وهو ما تشير إليه حكمة ابن عطاء الله الاسكندري في قوله:الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها.

[7]– رواه مسلم وابن ماجة وأورده السيوطي في الجامع الصغير ج1ص 74.

[8]– الموافقات ج2ص139.

[9]-الموافقات ج2ص144- 146.

[10]– الموافقات ج2ص115.

[11]– الذاريات الآية 56.

[12]– إحياء علوم الدين ج3ص55.

[13]– سورة الأنعام الآية 152.

[14]– سورة الانعام 121.

[15]– فتح الباري ج1ص116.

[16]– فتح الباري ج1ص150.

[17]– رواه البخاري في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان

[18]– الإنسان بين المظهر والجوهر،نتملك أو نكون،إريك فروم،ترجمة سعد زهران ص46 سلسلة عالم المعرفة العدد 140 ذو الحجة 1409هـ.

[19]– سورة الإسراء الآية 70.

[20] – سورة الجاثية الآية 12.

[21]– الذريعة إلى مكارم الشريعة:الراغب الأصفهاني ص 32.

[22]– قواعد الأحكام: العز بن عبدالسلام ج1ص 36.

[23]– الموافقات: الشاطبي ج2ص15.

[24]– سورةالجمعة الآية 3.

[25]– مقاصد الشريعة:محمد الطاهر بن عاشور ص30.

[26]– مقاصد الشريعة :الطاهر بن عاشور ص35.

[27]– الموافقات جج4 ص70.

[28]– الموافقات ج3ص 71.

[29]– رواه البخاري ومسلم وأبوداود.

[30]– رواه أبوداود.

[31]– الموافقات ج3 ص73/74.

[32]– الموافقات ج2ص74.

[33]– الرسالة القشيرية ص127.

[34]– الموافقات :للشاطبي ج2ص121.

[35]-.[1] الترجمان المعرب مخطوط الخزانة الوطنية رقم ورقة 10.

[36]– سؤال الأخلاق ص208.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق