مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

معارضة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء 4

الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب و العلوم الانسانية فاس سايس.

 

 الضرب الثاني: نقل العمل المتصل المستمر زَمَناً بعد زمنٍ من عهده صلى الله عليه وسلم إلى عصر الإمام مالك رضي الله عنه، كنقل الوقوف والمزارعة، والأذان على المكان المرتفع، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية بالتسجيع والترجيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وعدم الزكاة في الخضروات، وغير ذلك من الأعمال. ويمكن أن يدخل في هذا العمل القديم قبل مقتل عثمان رضي الله عنه[1].

فهذا النقل وهذا العمل كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: “حجة يجب إتباعها، وسنة مُتَلَقَّاة بالقبول على الرأس والعينين، وإذا ظفر العالم بذلك قرَّت به عينه، واطمأنت إليه نفسه[2]

الضرب الثالث: نقلُ الأعيان وتعيين الأماكن، كنقلهم مقدار المدِّ والصاع، وتعيين موضع المنبر، وموقفه للصلاة، والقبر، والحجرة، ومسجد قباء، وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك، ونقل هذا جارٍ مجرى نقل مواضع المناسك كالصفا والمروة، ومنى، ومواضع الجمرات، ومزدلفة، وعرفة، ومواضع الإحرام كذي الحُلَيْفَة والجُحْفَة وغيرهما[3].

وحكم هذا القسم بأضربه الثلاثة وما يندرج تحته من أنواع حجة يجب الاعتماد عليه، ويلزم المصير إليه، ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، إذ أن هذا النقل محقق معلوم موجب للعلم القطعي، فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون. وإلى هذا رجع أبو يوسف وغيره من المخالفين ممن ناظر مالكا وغيره من أهل المدينة في مسألة الأوقاف[4]، والمد والصاع، حين شاهد النقل وتحققه. ومن هنا لا يجوز لمنصف أن ينكر حجية أقسام العمل النقلي، وإنما خالف في تلك المسائل من غير أهل المدينة من لم يبلغه النقل الذي بها[5].

وفي هذا النوع يقول أبو بكر بن العربي المعافري رحمه الله: “مهما اختلف الناس في إجماع أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجتمعون على نقله من طريق الأثر[6].

وفيه يقول أيضا القاضي عبد الوهاب: “ولا خلاف بين أصحابنا في هذا، ووافق عليه الصيرفي وغيره من أصحاب الشافعي…”[7]

قال القاضي عياض: “وقد خالف فيه بعض الشافعية عنادا، ولا راحة للمخالف في قوله: “إنّ ما هذا سبيله فهم وغيرهم من أهل الآفاق من البصرة، والكوفة، ومكة سواء؛ إذ قد نزل هذه البلاد، وكان بها جماعة من الصحابة ونُقلت السنن عنهم، والخبر المتواتر من أي وجه ورد لزم المصير إليه، ووقع العلم به، فصارت الحجة في النقل؛ فلم تختص المدينة بذلك، وسقطت المسألة”. وهذه من أقوى عُمَدهم.

فنقول لهم: كذلك نقول لو تُصُوِّرت المسألة في حق غيرهم، لكن لا يوجد مثل هذا النقل كذلك عند غيرهم ؛ فإن شرط نقل التواتر تساوي طرفيه ووسطه، وهذا موجود في أهل المدينة ونقلهم، الجماعة عن الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو العمل في عصره وإنما ينقل أهل البلاد غيرها عن جماعتهم حين يرجعون إلى الواحد أو الإثنين من الصحابة، فرجعت المسألة إلى خبر الآحاد…[8].

ويجوز أن تُفرض المسألة في عمل أهل مكة: في الأذان، ونقلهم المتواتر عن الأذان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بها. لكن يعارض هذا آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي مات عليه بالمدينة[9].

ولهذا قال مالك لمن ناظره في المسألة: “ما أدري ما أذان يوم ولا أذان صلاة ! هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن فيه من عهده صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، لم يحفظ عن أحد إنكار على مؤذن فيه ولا نسبته إلى تغيير”[10].

قال أبو الوليد الباجي رحمه الله عقب هذا الكلام: “وهذا لعمْري من أقوى الأدلة ومما لا يعارض بأخبار الآحاد، لأن الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر متصل في وقت كل صلاة، وأهل المدينة هم اليوم الذين كانوا بالأمس وعلموا صفة الأذان، فإذا أذن مؤذن اليوم ولم ينكر أحد أذانه ولا نسبه إلى تغيير، علم أن أذانه اليوم كأذانه بالأمس، لأنه يستحيل أن يغير الأذان فيتفق العدد الكثير والجم الغفير على ترك الإنكار عليه، ولو جاز أن يتفقوا على ذلك لجاز أن يتفقوا على ترك التكذيب لمن بدّل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيّر مسجده وعدل بالناس إلى غيره وأخفى كثيرا من مذهبه. وإذا استحال ذلك استحال هذا أيضا. ويستحيل أيضا أن يتفق العدد الكثير والجم الغفير على نسيان الأذان من وقت صلاة إلى وقت صلاة فثبت بذلك أن الأذان الذي كان فيه بالأمس هو الأذان الذي كان فيه اليوم إذا لم يظهر له منكر إلى أن وصل إلى زمن مالك رحمه الله”[11]

 

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص326 وما يليها.

 

 


[1]  ـ أنظر إعلام الموقعين: 2/282، ونظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي ص 81.

[2]  ـ نفسه.

[3]  ـ أنظر إعلام الموقعين: 2/282.

[4]  ـ أنظر ترتيب المدارك: 1/48ـ49.

[5]  ـ أنظر المصدر السابق: 1/49.

[6]  ـ أنظر العرف والعمل للجيدي ص 289.

[7]  ـ أنظر ترتيب المدارك: 1/49ـ50.

[8]  ـ نفسه.

[9]  ـ نفسه.

[10]  ـ أنظر إحكام الفصول ص 483ـ484.

[11]  ـ أنظر المصدر السابق ص 484ـ485.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق