مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قالوا في المدونة

المدونة وطـرق تلـقـينها

يقول أبو الحسن علي بن سعيد الرجراجي:

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

            الحمد لله الذي نوّر البصائر لإظهار الحق، وأعان وأغنى بقصده، وأيده على الإصرار على أضعاف الإيمان الذي صلى به الفؤاد، فأنطق به اللسان، وجعل جياد جزمنا تتألق في صدر الباطل، فترى بحوله وقوته أعمال السر الأذان يعلو في يوم الطعان.

          والصلاة على سيدنا محمد، نبيه الكريم المصطفى، ورسوله المقرب المجتبى، الآتي على فترة من الرسل، وإشعار بآخر الزمان، الآخذ بالحجز عن النار، يوم يكون أهل الإشراك في الأشراك، وأهل الإيمان في الأمان، المبعوث بالحق بشيرا، ونذيرا، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله بشهادة الفرقان، فأوضح السبيل ودفع العلل بما تلقاه، ووعاه في ليلة الإسراء، وبعدها من البيان، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله من بعده بأيد وشدة وجدة تلوح على أثر حفدة الذين لم يكن بهم شرف، ولا نام لهم طرف، ولا غمد لهم سيف حتى توفرت الدواعي على إكمال الدين الذي جعل الله لهم أهم شأن، وبهذا خاصموا الأمة طول مددهم بألسنة الخرسان، ولم يعدموا في الضالين المضلين فتنة بكرا تخطبها لهم كل حرب عوان.

         فالسعيد من حذا حذوهم، وجرى إلى غايتهم ملء العنان.

         وبعد فقد سألني بعض الطلبة المنتمين إلينا، المتعلقين بأذيالنا، الذين طالت صحبتهم معنا أن أجمع لهم بعض ما تعلق عليه اصطلاحنا في مجالس الدرس لمسائل المدونة من وضوح المشكلات، وتحصيل وجوه الاحتمالات، وبيان ما وقع فيه من المجملات، فصادف لسانه قلبا منا قريحا باتلام حصن الإسلام بموت فقهاء الأمة و سادات الأئمة، وانقطاع رفقة العلم بذهاب الدفاتر وخراب المحاضر في البوادي والحواضر مع تبلد الخاطر لكثرة ما يرد عليه من الخواطر لسبب فتنة المغرب و دكالة، ومن انضاف إليهما من أهل البغي والرذالة حتى أخربوا المغرب الأقصى، وهلك فيه من الخلق مالا يحصى.

         وقد منّ الله علي بالخلاص، لطفا منه وبرا ونعمة لا أحيط بها شكرا، ففررت لما رأيت نارا لا أطيق لها شررا ونفسا مني قد تركتها هذه النوبة وما بها إلا الرمق نجت برأسها، وتركت أعزة الأهل في أسرار الرفق فألقيت إليه هذه المعاذير، فلم تزده إلا إلحاحا، ولا نجحت فيه إلا إغراء وإفصاحا حتى بلغ الأمر مبلغا أحسست منه بالوقوع في مظنة الضنة عليه، ونعوذ بالله من البخل، ولا سيما بالعلم مع الأهل، فابتدرت حينئذ إلى إجابة الداعي، وتداعت مني إلى إسعاف بغيته الدواعي، فانتدبت إلى وضع كتاب ترجمته بكتاب مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل، لخصت فيه فصول الفوائد وحصلت فيه من أمهات القواعد ما لم يلق في كتب الأولين على هذا الضبط، ولم يصادف في مجالس البحث ما جرى للمتقدمين على ترتيب هذا النمط، وقد يختلف الإيراد بعد اتفاق المغزى والمراد قريب.

          هذا ولم أقصد الطعن في كلام المتقدمين و تصانيف المتأخرين، بل التمثيل الصحيح للسلف الأول، وللخلف النظم.

           والحامل على وضع هذا الكتاب: حمية على طوائف من المبتدئين تركوا شمس الضحى و اصطلاح المشايخ، وحاولوا الاستضاءة بالصبح أول ما يتنفس.

           وقد كان للقدماء رحمة الله عليهم في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي، واصطلاح قروي.

           فالاصطلاح العراقي: جعلوا مسائل المدونة كالأساس، وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير الدلائل برسم الجدليين، وأهل النظر من الأصوليين.

        وأما الاصطلاح القروي: فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، و التحرز عما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكتاب من اضطراب الجوابات، واختلاف المقالات مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع سياق الآثار، وترتيب أسانيد الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع من السماع وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها.

          فهذه سيرة القوم إلى أن أدرجوا رضوان الله عليهم ثم نجم بعدهم طوائف في أقصى المغرب ضلوا عن جادة الطريق، وتنكبوا عن مسالك التحقيق، وهجموا على أكبر يم وركبوا لجج البحر دون سفين، فوجدوا فلاة بغير دليل، ولا اهتدوا بسلوك السبيل، فاقتحموا على تدريس المدونة بغير إجازة من شيخ، ولا تحقيق من شرح حتى أن من سلك منهم نذرا حقيرا، وقدرا يسيرا بفرض وانتصب، وتعب ونصب نفسه إلى معرفة أسرارها واستخراج مكنونها.

          وسبب ذلك أن أبواب الدواعي مفتوحة للخائض مفتوحة وسياط التحسب عن متعاطيها مطروحة، فلله در القائل:

        لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها     ورخـصت حـتى رامـها كل مفـلس

“مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها “

لأبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي، 1/35 و ما يليها.تقديم فضيلةالشيخ علي علمي لقم اعتنى به أبو الفضل الدمياطي احمد بن علي، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق