مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي المتشابه اللفظي في بعض مواضع سورة النساء الحلقة الثالثة والعشرون

تعريف المتشابه اللفظي  في القرآن الكريم:

المتشابه في اللغة:

ذكر علماء اللغة أن المتشابه يطلق على ما تماثل من الأشياء وأشبه بعضه بعضا وعلى ما يلتبس من الأمور، قال ابن فارس:«الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونا ووصفا»يقال: شِبْهٌ وَشَبَهٌ وَشَبِيهٌ [1] وفرق الجوهري بين المشتبه والمتشابه فقال: المُشْتَبِهات من الأمور: المشْكِلاتُ، والمُتشابِهاتُ: المُتَماثِلاتُ، وتَشَبَّهَ فلان بكذا، والتَّشْبيهُ: التمثيلُ، وأَشْبَهْتُ فلاناً وشابَهْتُهُ، واشْتَبَهَ عليّ الشيء.[2] قال المناوي في كتابه الموسوم بــ«التوقيف على مهمات التعاريف» «المتشابه: المشكل الذي يحتاج فيه إلى فكر وتأمل»[3]

المتشابه اصطلاحا:

للمتشابه معنى واسع، لكن المقصود هنا هو المتشابه اللفظي في القرآن الكريم الذي تتجلى فيه بلاغة القرآن وجمال نظمه وروعة بيانه، ومن أوضح التعاريف له ما بينه الطبري بقوله:« المتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور في قصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني» [4] وكذلك ماذكره الزركشي في البرهان بقوله:«إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة» [5] وتبعه السيوطي فقال:«والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة بل تأتي في موضع واحد مقدما، وفي آخر مؤخرا كقوله في البقرة:«وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ» وَفِي الْأَعْرَافِ:«وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً» وفي البقرة:«وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» وسائر القرآن «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أو في موضع بزيادة، وفي آخر بدونها نحو: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ» في البقرة، وفي يس «وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ»كما كان الحال كذلك عند أبي البقاء الكفوي في كتابه «الكليات» بقوله:« ومن المتشابه إيراد القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة في التقديم والتأخير والزيادة والترك والتعريف والتنكير والجمع والإفراد والإدغام والفك وتبديل حرف بحرف آخر وقيل المحكم ما لا يتوقف معرفته على البيان والمتشابه ما لا يرجى بيانه»[6]

ومن خلال النظر والتأمل نخلص من هذه التعاريف أن المتشابه اللفظي في القرآن الكريم هو تشابه أو تماثل بين آيتين أو عدة آيات في حرف أو كلمة أو جملة أو جمل بسبب تقديم أو تأخير، أو تعريف وتنكير، أو حذف وذكر أو جمع وإفراد ونحوه من وجوه التشابه مع أو عدم اختلاف المعنى بين تلك الآيات بحسب سياق كل لفظة وجملة، ومقتضى كل مقام وموضع، وفي هذا المقال سنبين إن شاء الله تعالى الاختلاف بين الآيات المتشابهة واستخراج الفروق الدلالية بينها، وللوقوف على جملة التفسيرات في توجيه متشابهات الكتاب العزيز في سورة النساء واستخراج لطائف النظم منها نتأمل الآيات التالية:

الموضع الأول من المتشابه اللفظي في سورة النساء:

قال تعالى:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» [النساء:1]

يتشابه مع قوله تعالى:«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين»[الأعراف:189]

ومع قوله تعالى:«وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُون»[النحل:72]

وقوله تعالى:«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون»[الروم:21]

وقوله تعالى:«خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون»[الزُّمَر:6]

ومع قوله تعالى: «فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير»[الشورى:11]

إن المتأمل في هذه الآيات يجدر به أن يسأل عن وجه تخصيص جميع الآيات بالفعل«جعل» بينما اختصت آية النساء بالفعل«خلق» ثم ما سبب التعبير بــ «ثم» في آية الزمر عوضا عن «الواو»، وترك الوصل في الشورى؟

أجاب الغرناطي على جملة من هذه التساؤلات فكان جوابه عن الأول«الآية الأولى منها: قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء» وفى سورة الأعراف: «هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها» وفى سورة الزمر: «خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها» فيها ثلاث تساؤلات؛ أحدها: الفرق بين «الخلق» و«الجعل»، والثاني: وجه تخصيص الأخيرتين بــ«جعل» والأولى بــ«خلق»، والثالث: وجه ورود «ثم» في آية الزمر عوضا عن «الواو».

والجواب عن الأول أن العبارة بـ«خلق» واردة على ما ينبغى، ومطابقة للمعنى المقصود وهو المراد بــ«جعل» إلا أن «جعل» ثانية عنها لتوقف الجعل على ما يتقدمه، لأن العبارة بـ «خلق» تكون عند المتسرعين عن عدم سابق، حيث لا تتقدم مادة ولا سبب محسوس،وأما «جعل» فتتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب، ولا يرد في الكتاب العزيز لفظ جعل في الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون فيه ما يكون عنه الجعل أو منه سببا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثاني بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه الثاني»[7]

وجوابه عن زيادة«ثم» في الزمر خلافا لتلائم قصد الامتنان على الإنسان وتفاوت آية خلق الإنسان مع خلق زوجه منه، قال: «فإن قلت: فقد كان الوجه على هذا أنه لو قيل: «ثم أنزل لكم من الأنعام» قلت: هذه نعمة لا تفتقر لبيان أمرها إلى التنبيه بــ«ثم»، وليست موضع تغفل أو تخف، وإنما موضع «ثم» حيث يراد الاعتناء والتنبيه على قدر المعطوف بها لاحتمال أن يخفى، فإذا كان غير خاف وبين الاستقلال بنفسه لم يفتقر إلى هذا، ومن حيث قصد معنى الامتنان كانت «جعل» أولى لما تقدم من معناها، فقد وضح ورود كل آية من الثلاث على ما يناسب المقصود من كل واحدة»[8].

أما التعبير بــ «ثم»فقد قال الزمخشري في كشافه:« فإن قلت: ما وجه قوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان  من جملة الآيات التي عددها دالا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بــ«ثم» على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود» [9]

الموضع الثاني من المتشابه اللفظي في سورة النساء:

ورد في سورة النساء قوله تعالى:«تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»[النساء:13] وهنا نتساءل لماذا اقترن لفظ «أبدا»في خلود الكافرين في النار وأحيانا لا ترد؟ فكلمة «أبدا» ترد أحيانا مع أهل النار، وأحيانا مع أهل الجنة، وأحيانا يذكر الخلود من دونها، قال تعالى في سورة البينة:«جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه» [البيِّنة:8] وكذلك في سورة الجن في قوله تعالى:«إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا »[الجن:23] وكذلك في سورة الأحزاب«خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا» [الأحزاب:65]، ومن المواضع التي ذكرت بحذف لفظ «أبدا» مع ذكر الفوز العظيم قوله تعالى: «أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»[التوبة:89] وقوله تعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»[الحديد:12] وقوله تعالى:«ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم  تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»[الصف: 12-10]

أما الآيات التي وردت بذكر كلمة«أبدا» مع ذكر الفوز العظيم، فهي:قال تعالى: «قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»[المائدة:119] وقوله تعالى:« وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم» [التوبة:100]وقوله تعالى:« يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم» [التغابن:9] ومن خلال هذه الآيات نتساءل عن سر ذكر وحذف لفظ «أبدا» وهذا ما سنجيب عليه في هذا الموضع.

تحدث الخطيب الإسكافي عن حذف لفظ التأبيد في آية التوبة وآية المجادلة:«لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون»[المجادلة:22] وبين أن ما تقدمها يدل على التأبيد، فلما طال الكلام في مدحهم والثناء عليهم حذف«أبدا» لدلالة ما قبله عليه، يقول:« وأما الجواب عن حذف «أبدا» في بعضها والإتيان في بعضها؛ فهو أنها إنما حذفت عن أولى الآيتين اللتين في براءة وآخر آية في سورة المجادلة، لأنه ذكر قبل الآية التي في سورة براءة، « وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون »[التوبة:88] وبعد الآية التي في آخر سورة المجادلة «رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون»[المجادلة:22] فلأن في خالدين ما يدل على التأبيد، ثم قد نزل منزلته أخبار هي في مدحهم وهي قوله:« رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ » فلما تظاهر فيها مثل عدة هذه الأخبار التي هي ثناء من الله جل ذكره عليهم، ومدح لهم، وطال الكلام بها، فاستغنى بذكر «خالدين» عن ذكر قوله «أبدا» وحسن حذفه ولم يحسن في المواضع الأخر التي لم تتظاهر فيها مثل عدة هذه الأخبار الموجبة لهم دار الخلد ودوام النعيم.[10]

ثم تحدث عن الحذف في آية النساء، فيرى أن سياق الآية، وكذلك ما بعدها استغني فيهما بقوله«خالدين»و«خالدا» عن ذكر لفظ التأبيد، ولو ذكر لطال الكلام، ذلك أنه في هذه السورة لم يذكر «أبدا»؛ لأنه ذكر بعده في مقابلة«خالدين»كلمة:«خالدا» في قوله تعالى:«وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين»[النساء:14] ولم يقل «أبدا» فلو ذكر فيهما«أبدا» لطال الكلام، قال الخطيب الإسكافي:« وأما في سورة النساء فإنها لم تذكر أبدا لأنه بعده في مقابلة «خالدين فيها» قوله «خالدا فيها» ولم يقل «أبدا» فلو ذكر فيهما «أبدا» لطال الكلام، فاستغنى بقوله «خالدين» و«خالدا» فيهما عن أبدا»[11]

أما الحذف في سورة المجادلة فلأنه طال الكلام في مدح المؤمنين فاستغني بقوله:«خالدين، وكذلك زيادة الضمير المنفصل بعده عن لفظ التأبيد، [12] يقول الخطيب الإسكافي:« وأما في سورة الحديد فلأنه ذكر قبله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم»، [الحديد:12]، فلما طال الكلام في مدحهم وذكر بعد ذلك تأكيدا بقول الله تعالى هو استغنى بقوله «خالدين» عن «أبدا»، وهذا الجواب عن إدخال «هو» بعد «ذلك» لأنه ذكر ذلك بدلا وتأكيدا عن «أبدا» وليس كذلك في المواضع الأخر. [13]

ونفهم من توجيه الإسكافي أنه علل الآيات التي ورد فيها الحذف دون التي ورد فيها الذكر، ومجمل توجيهه أنه طول الكلام ودلالة لفظ الخلود سبب في الحذف، وأرى أن هذا لا يكفي في توجيه النصوص، فجميع الآيات ورد فيها ذكر الخلود سواء التي ذكر فيها لفظ التأبيد أو التي حذف منها[14]

أما ابن الزبير الغرناطي فكان حديثه على عكس طريقة الإسكافي، فقد كانت نظرته للآيات الأربع التي اختصت بذكر التأبيد، فيرى أن آية سورة المائدة، وكذلك الآية الثانية من سورة التوبة قد بنيتا على الإطناب فناسبهما ذكر اللفظ، يقول:« لما كان المشار إليهم في الآيتين هم الأسوة والقدوة لمن سواهم ناسب حالهم الإطناب فذكر الرضا والتأييد» [15]

أما سر ذكر اللفظ في قوله تعالى في آية سورة الطلاق فهو ما تكرر في هذه السورة من غايات بينها قوله تعالى: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا»[الطلاق:3] فلما أشارت آي السور إلى غايات ونهايات، ناسب ذلك التعريف بأن خلود الجنة متأبد لا انتهاء له ولم يجمع بينه وبين ذكر الرضا إذ لم يجتمع لمن ذكر هنا ما اجتمع لأولئك الموصوفين في آية المائدة وثانية براءة ولم يبلغوا مبلغهم.[16]

أما آية البينة فهي على« حكم مقتضى الترتيب الثابت آخر آية ذكر فيها حال المؤمنين في الجزاء الأخروى معقبا به ذكر جزاء من كان في طرف من حالهم من مستوجبي النار على التأييد، فكانت هذه الآية مظنة استيفاء للحال فوردت ورود الآيتين قبلها» [17]

أما ابن جماعة اقتصر توجيهه على آية المائدة وآية المجادلة فقد ذكر أنه لما تقدم وصفهم بالصدق، ونفعه إياهم يوم القيامة بالخلود في الجنة أكده بقوله: «أبدا» ولما تقدم في المجادلة كتب الإيمان في قلوبهم وتأييدهم بروح منه أكده بقوله: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» [18]

كما ذكر الكرماني في توجيه آية النساء أنها اختلفت عن آية التوبة لوجهين، بقوله:« لم يكونا في براءة أحدهما: موافقة لما قبلها وهي جملة مبدوءة بالواو وذلك قوله «ومن يطع الله»والثاني: موافقة لما بعدها وهو قوله «وله» بعد قوله «خالدا فيها»وفي براءة «أعد الله» بغير واو ولذلك قال «ذلك» بغير واو»[19]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 3/243.

[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين- بيروت 6/2236.

[3] التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، عالم الكتب، الطبعة الأولى،ص:295.

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر الطبري، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: 1422-2001، 5/197.

[5] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية 1/112.

[6] الكليات، أبي البقاء الكفوي، 1/1361.

[7] ملاك التأويل، 1/97.

[8]ملاك التأويل،1/99.

[9] الكشاف، 4/113-114.

[10] المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية،صالح عبد الله محمد الشثري،ص:351. درة التنزيل وغرة التأويل 1/473-474.

[11] درة التنزيل وغرة التأويل، 1/475.

[12] المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، ص:352

 [13] درة التنزيل وغرة التأويل 1/473-474.

[14]المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية،ص:52.

[15]ملاك التأويل، ابن الزبير الغرناطي 1/101.

[16] ملاك التأويل 1/102.

[17] ملاك التأويل 1/101.

[18] كشف المعاني في المتشابه من المثاني، ابن جماعة، 1/153.

[19] أسرار التكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان،الكرماني،تح: عبد القادر أحمد عطا، دار الفضيلة، ص:1/95.

                     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق