الصدق في اللغة :"الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة في الشيء قولا وغيره . من ذلك الصدق، خلاف الكذب، سمي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له، فهو باطل . وأصل هذا من قولهم شيء صَدْق أي صلب ... والصديق الملازم للصدق "[1]
الصدق في القرآن الكريم :
ورد مفهوم الصدق في القرآن الكريم بصيغ متعددة فتارة بالفعل أو المصدر، ومنه الآيات الكريمة :
قال الله عز وجل:"فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون "[2]
وقوله تعالى : "طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمرُ فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم"[3]
وفي قوله عز من قائل : "أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" [4]
ووعد الصدق " نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الايمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشئ إلى نفسه، لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى: " حق اليقين "[5]. وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف.[6]
كما ورد مفهوم الصدق في القرآن الكريم تارة أخرى بصيغة اسم الفاعل الدال على الجماعة كما في قوله عز من قائل:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "[7]
وكذلك في قوله سبحانه : "والصادقين والصادقات"[8] .
ومنه قوله عز وجل : " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم"[9] .
وجاء في معنى"صدقهم أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه. وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم".[10]
كما ورد مفهوم الصدق في القرآن الكريم بصيغة اسم الفاعل الدال على المبالغة في الفعل وهي " الصديق "، من ذلك قوله تعالى : " يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون"[11]
وقوله عز وجل : " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا "[12].
وفي قوله سبحانه : " والذين أمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "[13]
ومن الصفات التي يعرف بها الصادقون من غيرهم : الإيمان واليقين ثم المجاهدة بالأموال والأنفس في سبيل الله مصداقا لقوله عز وجل : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"[14] .
وقوله سبحانه وتعالى" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"[15]
إن الآيات الكريمة التي وردت في الصدق تدل على أنه مدعاة فوز العبد بخير الدنيا والآخرة، إذ إنه خصلة محمودة أمرنا بها الحق سبحانه وتعالى، لما لها من مزايا خلقية تنعكس على حياة الفرد والمجتمع، فهو مفتاح الرقي وسر السمو وكنز النفوس، فبمحافظتها عليه تنال أعلى المراتب في الأقوال والأفعال والعزائم، ومن ثمة فهو علامة على ثبات إيمان الفرد وصفاء سريرته .
الصدق في الحديث النبوي الشريف :
عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا "[16].
عن عبد الله بن مسعود كان يقول:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة . وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ألا ترى أنه يقال صدَقَ وبَرَّ وكَذَبَ وَفَجَرَ." [17]
عن "يزيد بن أبى مريم قال سمعت أبا الحوراء قال : قلت للحسن بن على ما تذكر من النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان يقول دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة"[18]
والسنة النبوية تؤكد كل تلك الفوائد التي ذكرها القرآن الكريم للصدق، فهو الهادي إلى البر ومنه إلى الجنة، لذلك سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النبراس المنير الذي يوصل إلى رضوان الله عز وجل وحسن الاقتداء برسوله الأكرم الصادق الأمين .
أقوال الصوفية في الصدق :
لعل نشدان الصوفية لمقام الصدق ينبثق من إدراكهم لما لأهل هذه الخصلة من حظوة عند رب العزة، فهي طريق العفو والنجاة، وسبيل القرب والفلاح، لذلك أفردوا في تعريف هذا المقام ومعالمه الكثير والكثير، فمن أقوالهم في الصدق : الصدق لغة : مطابقة الحكم للواقع، وفي اصطلاح أهل الحقيقة : قول الحق في مواطن الهلاك، وقيل : أن تصدق في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب .
قال الكشيري الصدق : ألا تكون في أحوالك شوب، ولا في اعتقادك ريب، ولا في أعمالك عيب، وقيل : الصدق : هو ضد الكذب، وهو الإبانة عما يخبر به على ما كان .[19]
ومن الأقوال التي عرفت الصدق وسطرت علاماته وأحاطت بثماره ما ذكره سيدي أحمد بن عجيبة في معراج التشوف إلى حقائق التصوف :"الصدق إسقاط حظوظ النفس في الوجهة إلى الله تعالى تعويلا على ثلج اليقين، أو استواء الظاهر والباطن في الأقوال والأفعال والأحوال، و ملازمة الكتمان غيرة على أسرار الرحمن وحاصله : تصفية الباطن من الالتفات إلى الغير بالكلية . والفرق بينه وبين الإخلاص، أن الإخلاص ينقي الشرك الجلي والخفي، والصدق ينقي النفاق والمداهنة بالكلية .
وعلامة الصدق، استواء السر والعلانية، فلا يبالي صاحب الصدق بكشف ما يكره إطلاع النفس عليه، ولا يستحيي من ظهوره لغيره اكتفاء بعلم الله به . فصدق العامة، تصفية الأعمال من طلب الأعواض . وصدق الخاصة : تصفية الأحوال من قصد غير الله . وصدق خاصة الخاصة : تصفية مشرب التوحيد من الالتفات إلى ما سوى الله . ويقال لصاحب المقام الأول صادق . وللثاني والثالث ِصدّيق . ويقال لمن عظم تصديقه : صدّيق أيضا . فالصدّيق يطلق على من عظم صدقه أو تصديقه[20] .
وقد ذكر ابن عطاء الله أن الصدق من مستلزمات التوجه لله عز وجل بالدعاء، فجعله من أجنحته كناية على أنه يصعد به إلى الحق عز وجل، فيقول : " إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح.
فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم "[21].
وقد جاء في الرسالة القشيرية : " الصدق عماد الأمر وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة للنبوة، قال الله تعالى" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا[22] "[23].
وقد صنفه القاشاني في باب الأخلاق " وأصله في هذا الباب : صدق القصد المصحح للسير في طريق الولاية. وصورته في البدايات : الصدق في الأقوال والأعمال . وفي الأبواب : الصدق في النيات والدواعي . وفي المعاملات : الصدق في الرعاية والمراقبة وما يليهما من الأعمال القلبية . ودرجته في الأصول: المبالغة في الجد وعدم الالتفات إلى ترفيه الرخص "[24].
الهوامش:
[1] ـ مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا، راجعه وعلق عليه أنس محمد الشامي، دار الحديث،ط.2008،ص.505
[2] ـ سورة الزمر،الآية32ـ 33
[3] ـ سورة محمد، الآية 21
[4]ـ سورة الأحقاف، الآية 16
[5] ـ سورة الواقعة، الآية 95 .
[6] ـ الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، مراجعة وضبط وتعليق محمد إبراهيم الحفناوي، محمود حامد عثمان، ط.2007، دار الحديث، ج.8، ص.479.
[7] ـ سورة التوبة، الآية 119
[8] ـ سورة الأحزاب،الآية 35
[9] ـ سورة المائدة، الآية 119
[10] ـ الجامع لأحكام القرآن، ج.3، ص.700.
[12] سورة النساء، الآية 69
[13]سورة الحديد، الآية 19
[14] سورة الحجرات، الآية 15
[15] سورة الحشر، الآية 8.
[16] صحيح الأدب المفرد للبخاري، محمد ناصر الدين الالباني، ط.4، مكتبة الدليل، ص.159، رقم 386
[17] موطأ مالك، ج.2، ص.588، رقم 2829 .
[18] السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ضبط وتعليق إسلام منصور عبد الحميد، ط.2008، دار الحديث، ج.5، ص.707، رقم، 10819.
[19] التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني،حققه وعلق عليه نصر الدين التونسي، شركة القدس للتصدير، ط.1، ص.218.
[20] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، عبدالله أحمد بن عجيبة، تقديم وتحقيق عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي، ص 34ـ 35.
[21] الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، مراجعة وضبط وتعليق محمد إبراهيم الحفناوي، محمود حامد عثمان، ط.2007، دار الحديث،ج.1، ص. 679.
[22] سورة النساء، الآية 69.
[23] الرسالة القشيرية، ابو القاسم القشيري، تحقيق عبد الحليم محمود، مؤسسة دار الشعب، ط.1989 ص.366 .
[24] اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق القاشاني، ضبطه وصححه وعلق عليه ابراهيم الكيلاني، دار الكتب العلمية، ط.2005، ص.119.