بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، والصلاة والسلام على عبده الكريم وخاتِم أنبيائه المُرسَلين سيِّدِنا محمد، وعلى آله وصَحَابته الغُرِّ المَيامِين، وبعدُ:
فهذا بحث لَطيفُ العِبارة حسَنُ الموضوع، وقعتُ عليه إذْ أنَا في اطلاعٍ على بعض مباحث البيان القرآني في كتب التفسير، فرأيتُ أنَّ تخصيصَه ببحث مُستقلٍّ يكونُ أنفعَ لقارئه والمشتغلِ بضبط المصطلحات المتداخلة بين علومِ اللغةِ أو غيرها، وفيما يلي نبذة مختصرة مما يتعلّق بالمصطلح مما وجدته مبثوثًا في كتب التراث، جمعتُ بينها على سبيل البيان لِما أشكَل، والإيجازِ لما طالَ من كلام العلماء في هذا الموضوع.
وقد وجدتُ مصطلحَ «الإِضْجَاعِ» مُتردِّدًا بين العلوم التي لها اتصال بالقرآن الكريم أو بلُغة العرب، لا يكاد يخرُج عن المعنى الذي تُفيدُه مادَّتُه اللغويةُ التي اشتُقَّ منها، غيرَ أنَّ فيه فُروقًا يسيرَةً سأُنبِّه عليها فيما يَعْرِضُ من فقرات البحث، وهذا بيانٌ لهذا التداخُل، أقدِّمُ له بمُقدمةٍ في أصله الاشتقاقي اللغوي تَجْلُو عن المُصطلح وحشَةَ إهمالِه والاستعاضَةِ عنه بمصطلحات أخرى:
- المادة اللغوية:
قال ابن فارس: «الضاد والجيم والعين أصل واحد يدل على لُصُوقٍ بالأرضِ على جَنب، ثم يحمل على ذلك»(1).
وتأتي المادة (ضجع) في لغة العرب بمعنى نام أو استلقى ووضع جنبَه على الأرض، فتُفيد الانتقالَ من أعلى إلى أسفل، يقال من الثلاثي والخماسي معا: ضجَع واضطجَع، غير أن الثلاثي منه لا يُستعمل إلا قليلا، والخُماسيّ الذي من الافتعالِ أصلُه: اضتَجع، فقلبوا التاء طاءً، ومن العرب من يقول: اطَّجع واضَّجَع بالطاء والضاد على الإدغام، ومنهم من يقول أيضا: الْضَجَع، فيُظهِر اللام، وهو نادر.
ويُعدَّى هذا الفعل بزيادة الهمزة في أوله، فيُقال: أضْجَعَه فاضطَجعَ، ويُقال: انْضجَع على المُطاوعة، من باب: أفْلَتَه فانْفَلَتَ، ومنه الإِضْجاع، نقل الأزهري عن اللَّيث: «وكل شيء تخفضه فقد أضجعته، والإضجاع في باب الحركات مثل الإمالة والخفض»(2)، وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله.
ويُقال أيضا: التضجّع، ومنه تضجُّعُ قبيلة قيس، قال ثعلب: «ارْتَفَعت قُرَيْش فِي الفصاحة عَن عَنْعَنَة تَمِيم، وكَشْكَشَة ربيعَةَ، وكَسْكَسَةِ هَوَازِنَ، وَتَضَجُّعِ قَيْسٍ، وعَجْرَفِيَّةِ ضَبَّةَ، وتَلْتَلَةِ بَهْرَاءَ»(3)، لكنه لم يُفسر معنى التضجع، ويقصد بها الإمالةَ التي تكون عن الألفِ إلى الياء وعن الفتح إلى الكسر، والإمالة فرعٌ عن التفخيم الذي هو إخلاص الفتح، قال ابن يعيش: «والتفخيمُ هو الأصل، والإمالةُ طارئةٌ، والذي يدلّ أنّ التفخيم هو الأصل أنّه يجوز تفخيم كل مُمال، ولا يجوز إمالةُ كل مفخَّم. وأيضًا فإنّ التفخيم لا يحتاج إلى سبب، والإمالةُ تحتاج إلى سبب»(4).
فالإضجاع والتضجّع واحد، وهما الإمالة والخفضُ.
- استعمال المصطلح في علم النحو:
أورده أصحاب الأفعال فقالوا: «وخفضَ الشيءَ خَفْضًا: ضِدّ رَفَعَه، والحرفَ بالإعراب: أَضْجَعَهُ عن النصب»(5)، أي: وخفضَ الحرفَ بالإعراب: أضجعه عن النصب.
وفي تاج العروس: يُقال: أضجَعَ الحرفَ، أي: أمَالَه إلى الكسر(6)، ولم يُقيِّده بكونه عن الرفع أو عن النصب كما فعل أصحابُ الأفعال، فأفاد أن الإضجاع يكون عن النصب إلى قريبٍ من الكسر، وهو الإمالة، ولا يكون عن الرفع، ولذلك تجد الإمالة عن الألف دون الواو.
- استعمال المصطلح في علم القوافي:
يُستعمل «الإِضْجاع» في علم القوافي أيضا مُرادًا به أحدُ أمرين على خلافٍ بين أهل اللغة، وهما الإكفاء والإقواء، قال الخليل: «والإضجاع في القوافي: أن تُميلها، قال يصف الشعر:
والأعْوَجُ الضاجعُ من إكفائها
يعني إكفاء القوافي»(7).
وهو كذلك عند الأزهري فيما نقله عن الليث، قال: «والإضجاع في القوافي، وأنشد:
والأعوج الضاجع من إكفائها
وهو أن يختلف إعراب القوافي، يقال: أكفأ وأضجع بمعنى واحد»(8).
ولكن في اللسان لابن منظور جعله إقواءً، قال: «والإضجاع في القوافي: الإقواء، قال رؤبة يصف الشعر:
والأعوج الضاجع من إقوائها
ويروى: من إكفائها. وخصص به الأزهري الإكفاء خاصة ولم يذكر الإقواء»(9).
قلت: على أن الزبيدي في التاج جمع بينهما، قال: «الإضجاع في القوافي كالإكفاء أو كالإقواء»(10).
والبيت لرؤبة بن العجاج، وله رواية أخرى، هي: من إقوائها، كما في ديوانه(11)، وبها أوردها ابن منظور في اللسان والزبيدي في التاج(12). ولذلك ينبغي هنا ذكرُ الفرقِ بين الإقواء والإكفاء كما قرّره أصحاب القوافي ليُعلم وجه الصواب في إطلاقِ مصطلح «الإضجاع» على أحدهما أو كليهما، وهما باختصار عن العيون الغامزة للدماميني(13):
- الإقواء: اختلاف حركة الرويّ من ضم إلى كسر أو العكس.
- الإكفاء: تغيير حرف الرويّ إلى ما يقاربه في المخرج، كالنون واللام.
وبهذا يتبيّن أن الإضجاعَ أقربُ إلى الإقواء منه إلى الإكفاء، لأن الإقواء واقع في الحركات، والإكفاء واقع في الحروف.
- استعمال المصطلح في علم القراءات:
يُرادف الإضجاعُ في علم القراءات مصطلحَ الإمالة، وبه يُعرِّفون الإمالةَ عند الحديث عنها، قال ابن الجزري: «والإمالة أن تَنْحُوَ بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء كثيرا، وهو المحض، ويقال له: الإضجاع»(14).
ولا يسعُ المقام هنا لاستقصاء الإضجاع في كتب القراءات والتمثيل له من القرآن الكريم، وإنما نذكر في ذلك نصًّا للإمام الداني عن أصحاب القراءات، قال: «اعلم أن حمزة والكسائي كانا يُميلان كل ما كان من الأسماء والأفعال من ذوات الياء»(15)، ثم مثّل لذلك ببعض الكلمات من كتاب الله تعالى، ومنها من الأسماء: موسى، عيسى، ومن الأفعال: سعى، يرضى.
وقد كانت بعض القبائل العربية معروفة بالإضجاع في كلامها، ومرّ معنا في نص ثعلب تضجُّعٌ قبيلة قيس، ولذلك نجد أصحاب القراءات اهتمّوا لهذا الأمر وذكروا بعض القبائل التي كانت على هذه الحال، من ذلك ما ذكره أبو شامةَ في إبراز المعاني، قال: « فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة عامة أهل نجد، من تميم وقيس وأسد»(16).
فهذه جملةُ ما قد يُقال في هذا الموضوع الذي جعلته مختصرا من كثير، وجامعا بينَ ما تفرّق في كتب الأئمّة حيثُ وقع مصطلح الإضجاع على اختلاف استعمالهم له في سياقات كثيرة، ولا أزعم أنّي أتيت على جميع ما ذكروا ولا أحطْتُ بالموضوع من كل أطرافه، وإنما بذلتُ الوُسع في بيانه على قدر الحاجة في فهم مصطلحات أهلِ كُلِّ فنّ، والله سبحانه المستعانُ على كل خير، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الهوامش:
(1) ابن فارس، أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي: مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399هـ/1979م، ج3/ ص390.
(2) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد: تهذيب اللغة، تح: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م، ج1/ ص216.
(3) ثعلب، أبو العباس أحمد بن يحيى: مجالس ثعلب، تح: عبد السلام هارون، دار المعارف، مصر، ط2، 1375هـ / 1956م، ص80.
(4) ابن يعيش، أبو البقاء موفّق الدين: شرح المُفَصَّل، تح: إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمين، لبنان، 1422هـ / 2001م، ج5، ص188.
(5) ابن القوطية، أبو بكر محمد بن عمر القرطبي: كتاب الأفعال، تح: علي فوده، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1993م، ص201.
(6) الزَّبِيدي، محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، تح: جماعة من المختصين، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، 2001م، ج21، ص404.
(7) الفراهيدي، الخليل بن أحمد: معجم العين، تح: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، ج1، ص212.
(8) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد: تهذيب اللغة، تح: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م، ج1/ ص217.
(9) ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم الأنصاري: لسان العرب، مع حواشي اليازجي وجماعة من اللغويين، دار صادر، بيروت، 1414هـ، ج8، ص221.
(10) الزَّبِيدي، محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، تح: جماعة من المختصين، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، 2001م، ج21، ص404.
(11) رؤبة، رؤبة بن العجاج: ديوان رؤبة بن العجاج (مجموع أشعار العرب)، تح: وليم بن الورد البروسيّ، دار ابن قتيبة، الكويت، ص169.
(12) انظر ما سبق في لسان العرب وتاج العروس عند نفس الموضع منهما.
(13) الدماميني، بدر الدين محمد بن أبي بكر: العيون الغامزة على خبايا الرامزة، تح: الحساني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1994م، ص245.
(14) ابن الجزري، شمس الدين أبو الخير: النشر في القراءات العشر، تح: علي محمد الضباع، المكتبة التجارية الكبرى، ج2، ص30.
(15) الداني، أبو عمرو عثمان بن سعيد: التيسير في القراءات السبع، تح: خلف حمود سالم الشغدلي، دار الأندلس، السعودية، 1436هـ / 2015م، ص202.
(16) أبو شامة، أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الدمشقي: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار الكتب العلمية، ص204.