مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم قومه أعمال حياتهم اليومية: بناء الكعبة

نشأ النبي صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق وكرم النفس، والطهارة في أكمل صورة وأبهى حلة، تحوطه العناية الربانية، ليستعد لحمل أعباء الرسالة الخاتمة.

كانت فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم محطة هامة لا يمكن أن نمر عليها بعجالة دون النظر إليها ودراستها واستلهام الدروس والعبر منها، فهي غنية بمجموعة من الاشراقات الخاصة بمرحلة الشباب، والتي يجب العناية بها وإيلائها ما تستحقه من البحث والدراسة، خصوصا وأن السيرة النبوية موجهة بالأساس إلى الشباب ليجدوا فيها ما يهمهم من القضايا خصوصا في عصرنا الحالي، على اعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وملهمنا في هذه الحياة.

مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم قومه أعمال حياتهم اليومية:

فقد تربى النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في بيت الحسب والشرف والعز، فجده عبد المطلب سيد سادات قريش، ولما توفي جده كفله عمه أبو طالب وهو أحد أشراف قريش وساداتها، ومما زاده حنكة ومعرفة بشؤون قريش أنه خالط كبار ساداتها لما كان جده يصطحبه معه، ويجلسه بجواره في مجالس كبار القوم، فكان ذلك سببا في معرفته مواقف زعماء القوم من القضايا والمستجدات المجتمعية، كما أنه خبر منازعهم، وعرف معدن معارفهم، ودقائق طبائعهم، وفي المقابل خالط ضعفاء قريش، وشاركهم حياتهم البسيطة، وأحس بهمومهم، وذاق مرارة الحرمان الذي يعانون منه… فالنبي صلى الله عليه وسلم عرف طبقات المجتمع عن تجربة ويقين، كل ذلك أسهم بشكل كبير في تكوين شخصيته، وأكسبه خبرة مجتمعية كبيرة، ستؤهله إلى تحمل أعباء النبوة وقيادة الأمة.

ومن بين المواقف التي شهدها النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على انخراطه الفعلي في المجتمع بالرغم من تفشي مظاهر الشرك والانحلال الأخلاقي، المشاركة في بناء الكعبة، وحضوره حرب الفجار، وشهوده حلف الفضول، فقد “شبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أدناس الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً، وأفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنـزّهاً وتكرماً، حتى ما اسمه في قومه إلا “الأمين”، لما جمع الله تعالى فيه من الأمور الصالحة”.[1]

الموقف الأول: المشاركة في بناء الكعبة:

شارك النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس في بناء الكعبة، وذلك بنقل الحجارة فكان عملا شاقا، يتطلب جهدا كبيرا، ما جعل العباس يشفق على النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه خلع إزاره وجعله على عاتقه اتقاء الحجر.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد رأيتني في غلمان من قريش، ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره، فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم – ما أراه – لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي”.[2]

وفي رواية البخاري: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ” لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فَقالَ العَبَّاسُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اجْعَلْ إزَارَكَ علَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إلى الأرْضِ، وطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إلى السَّمَاءِ، فَقالَ: أَرِنِي إزَارِي فَشَدَّهُ عليه”.[3]

هذه الأحاديث تدل على مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في القضايا التي تهم مجتمعه وهي بناء الكعبة وهو لا يزال غلاما، وتجدر الإشارة إلى الخلط الذي وقع فيه بعض كُتّاب السيرة النبوية في الحديث عن بناء الكعبة وقضية تحكيم قريشا للنبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة، فالقصتين وإن اشتركتا في بناء الكعبة إلا أن الحادثتين مختلفتين من حيث الزمن، فالحادثة الأولى وقعت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال شابا يافعا، و القصة الثانية التي حكمت قريش النبي صلى الله عليه وسلم في مكان الحجر الأسود وقعت وعمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، لكن كلا القصتين تدلان على الانخراط الفعلي والإيجابي في كل ما يهم المجتمع وينميه لما فيه خير وصلاح بغض الطرف عن خلفيته، لأن الإنسان مطالب بإعمار الأرض والسعي فيها بما يخدم مصلحة الإنسان والعمران والحضارة الإنسانية.

كما نستحضر في هذه القصة العناية الربانية التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم من عدم الكشف عن عورته لتدل على أن أي بناء حضاري وأي رقي مجتمعي لابد من مصاحبة قيم الجمال والأخلاق الصالحة وقيم المحبة والتعاون والسلام في سبيل النهضة الحقيقية، وضمان التوازن في شخصية الإنسان لأنه هو محور التنمية وقطب رحى البناء الحقيقي، فبدون بناء الإنسان، لا ينفع بناء العمران.

كما يظهر هذا جليا عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله  تعالى منها، قلت ليلة لفتىً كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلها يرعاها: أبصر إلى غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان.

قال: نعم . فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناءً وضرب دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسُ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، قال ما فعلت؟ فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسُ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي، فقال ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فو الله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمل أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته”.[4]

فقد كان الشباب في مكة يلهون ويعبثون، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعمل ولا يتكاسل؛ وكان متفاعلا مع حياة المجتمع منخرط بايجابية وحيوية وهو مثال الشاب الطموح المترفع، وإن كانت في بعض الأحيان “يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة”،[5] لكن ذلك لا يقدح في عصمته وفي نبوته، ولا يشكك فيها، لأنها من الخصائص البشرية التي تطرأ على الإنسان، بشرط أن لا تنحرف بالإنسان نحو المهالك الظاهرة، لذلك نجد العناية الربانية أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم فعصمه الله تعالى “عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحي أو الشريعة التي تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصما آخر خفيا يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق وإرساء شريعة الإسلام”.[6]

وهذا فيه إشارة إلى وجوب المرشد الهادي، والأخذ بأسباب التربية والتوجيه، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الإنسان، فالشاب يجب تربيته وتوجيهه حتى لا تنحرف نفسه عن الأخلاق القويمة والآداب المرعية.

 الهوامش:

[1] سيرة ابن هشام، 1/ 138.

[2] سيرة ابن هشام، 1/ 139.

[3] رواه البخاري، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها…، رقم الحديث: 1582.

[4] المطالب العلية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: خالد بن عبد الرحمن بن سالم البكر، تنسيق: محمد بن ناصر بن عبد العزيز الشتري، دار العاصمة للنشر والتوزيع، دار الغيث للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأوبى، 1420هـ/2000م، المجلد 17 /208-209.

وقال ابن حجر عقب هذا الحديث: هكذا رواه محمد بن إسحاق في السيرة وهذه الطريق حسنة جليلة، ولم أره في شيء من المسانيد إلا في مسند إسحاق هذا، وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات. 17/ 209.

[5] فقه السيرة النبوية، البوطي، 50.

[6] المرجع السابق نفسه، 51

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق