مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات وأبحاثدراسات عامة

مباحث كلامية من كتاب “النعيم المقيم” للفقيه التطواني محمد المرير (1887-1977)

تقديم:

اندرج العلماء المغاربة منذ عهودهم الأولى في إبداء تشبثهم بالثابت الديني القائم على الفقه المالكي والاعتقاد الأشعري والسلوك الصوفي الجنيدي، انسجاما مع ما عبر عنه الفقيه عبد الواحد ابن عاشر (990-1040هـ) أحد علماء القرويين في منظومته “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” حين خصص مرشده لمباحث في الاعتقاد الأشعري في مقدمته، وبتفصيله في باب العبادات والمعاملات من أبواب الفقه المالكي، ثم ختمها بهوادي التعرف إلى مبادئ التصوف، فجمع ذلك بقوله:

في عقد الأشعري وفقه مالك               وفي طريقة الجنيد السالك

وقد برز علماء كثر في مختلف بلاد المغرب ممن جمعوا بين الثوابت الثلاثة اعتقادا وفقها وسلوكا، باعتبار الدور الكبير والمؤثر الذي كان للعلماء داخل المجتمع؛ فهم الساهرون على تطبيق أوامر الدين التي تنظم الحياة الاجتماعية بصفة عامة، وهم الموجهون لدفة العنصر الثقافي كأحد روافد المجتمع ككل. ومن العلماء البارزين في حاضرة تطوان ممن انتهجوا هذا الطريق نذكر الفقيه سيدي علي بركة والفقيه سيدي أحمد الورزازي والعلامة الفقيه سيدي أحمد الزواقي،  والعلامة المؤرخ سيدي أحمد الرهوني، وغيرهم، والحديث في مقالنا هذا خاص عن فقيه من هذه الثلة عرف بعلمه واجتهاده وتعدد وظائفه الدينية والعلمية بمدينة تطوان، وكذا بكثرة مؤلفاته في مختلف العلوم، إنه الفقيه محمد المرير (1887-1977)، وذلك من خلال مجموعة من الرسائل والأجوبة والمكاتبات ضمنها سفره الضخم “النعيم المقيم في ذكرى مجالس التعليم” الذي كشف عن توجه واضح لخدمة الثابت الديني المغربي.

التعريف بالفقيه المرير(1):

والفقيه المرير كما عرف بنفسه في نعيمه هو: محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله المرير التطواني، من أسرة تنتمي لقبيلة اوشتام بضواحي تطوان، ومنها انتقلت إلى حاضرة تطوان، ولد سنة 1304هـ الموافق لسنة 1887م، والتحق أول الأمر بالكتاب فحفظ القرآن الكريم على الفقيه عبد الكريم كركيش، وتلقى مبادئ التجويد على الفقيه الأمين بوحديد. ثم انطلق في تحصيله العلمي فسمع عن علماء تطوان في مختلف العلوم من فقه وحديث وسيرة وتوحيد ومنطق ونحو وبلاغة، على يد شيوخه: العلامة محمد البقالي، العلامة محمد بن الأبار، العلامة الفقيه أحمد الزواقي، أبو العباس أحمد الرهوني، أحمد العمراني الغماري، العلامة العدل عبد الله بن عبد الرحمن لوقش، الوزير العلامة المختار الجامعي. هذا بالإضافة إلى ولعه بمطالعة كتب الأدب والشعر والمقامات.

وبعد ذلك استكمل تعليمه بجامع القرويين بفاس صحبة عدد من طلاب تطوان آنذاك كالتهامي افيلال ومحمد العربي الخطيب ومحمد بن محمد الدليرو وغيرهم، الذين تلقوا العلم على يد الشيخ أبي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني والعلامة أحمد بن الخياط الزكاري والعلامة أحمد ابن الجيلالي الأمغاري، والعلامة التهامي كنون، وعبد الصمد كنون، وعبد السلام بن محمد بناني وأخيه عبد العزيز، وأحمد بن المامون البلغيثي، وغيرهم.

ولما حل وقت الإلقاء اشتغل الفقيه المرير بالتدريس ابتداء من سنة 1910 ببعض مساجد تطوان وزواياها كجامع لوقش وجامع الربطة وجامع القصبة وزاوية الحاج سيدي علي بركة، والجامع الكبير، كما درّس بأصيلا والقصر الكبير. وعمل كذلك مدرسا بالجامع الكبير بعد تأسيس النظام الدراسي به، وبالمعهد الديني العالي بتطوان كذلك.

شغل المرير عدة وظائف حكومية، حيث عين كاتبا بوزارة العدل بتطوان، وكاتبا بالصدارة العظمى، وقاضيا بأصيلا وتطوان، ورئيسا للمحكمة العليا للاستئناف الشرعي بتطوان، كما شغل منصب رئيس القسم الإقليمي لاستئناف أحكام القضاة. ثم وظّف سنة 1917 بنيابة الأمور الوطنية لتحرير القسم العربي من الجريدة الرسمية. هذا إلى جانب عضويته في عدد من المجالس العمومية كمجلس الأحباس، والمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي في حكومة الخليفة السلطاني بالشمال، وشارك في تأسيس المعهد الديني العالي ودرس به. وتوفي – رحمه الله- عشية يوم الاثنين 15 محرم 1398هـ موافق 26 دجنبر 1977م.

خلف الفقيه المرير جملة من المؤلفات عبارة عن كتب وتقاييد في مختلف العلوم فقهية وتاريخية؛ أهمها: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية، ومنتهى الأمل من شرح العمل، وهو شرح للعمل الفاسي في جزء واحد، والعقود الأبريزية على طرر الصلاة المشيشية مصدَّر بترجمة واسعة للشيخ عبد السلام بن مشيش في جزء واحد كذلك، والبيان المعرب عن تاريخ وسياسة ملوك المغرب.

ومن رسائله كذلك: ترجمة مختصرة للسلطان المولى محمد بن عبد الله العلوي، والمقتطف اللطيف من المقصد الشريف لصلحاء الريف، والنفحة النّدية من أخبار الدولة السعدية، وهو تاريخ ملخص للسعديين، مع العناية بالظواهر الحضرية في دولتهم. ويبقى عمله الضخم “النعيم المقيم” والذي يعتبر فهرسة شاملة لمختلف مناحي الحياة الاجتماعية والتاريخية، مساهمة كبيرة في بعث الحركة الثقافية في شمال المغرب عموما وبلدته تطوان خاصة.

نبذة عن كتابه: “النعيم المقيم”(2)

كتاب “النعيم المقيم في ذكر مدارس العلم ومجالس التعليم” للعلامة الفقيه محمد المرير التطواني، الصادر عن جمعية تطاون اسمير،  الذي جاء في تسعة أجزاء؛ طفح بشتى أبواب العلوم والمعارف، يختلط فيها التاريخ بالفقه والتراجم بالنوازل والفتاوى والتصوف بعلم الكلام والفلسفة والعلوم الحديثة والابتكارات العلمية، كما ذكر ذلك المؤلف بنفسه في واجهة الكتاب بقوله: (فهرسة علمية تفسيرية حديثية فقهية صوفية كلامية أدبية تاريخية، ذات أبحاث عصرية وحوادث وقتية، زيادة على موضوعاتها الأصلية).

وكان الدافع الرئيسي لتأليفه؛ هو رغبته في التعريف بالعلماء والمتصوفين بتطوان ونواحيها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، ما يعطينا فكرة متكاملة عن التطور الثقافي بتطوان ونواحيها، علاوة على توسعه خلال تراجمه لسير العلماء الذين عرّف بهم، سواء من بلدته تطوان أو غيرهم من علماء فاس حيث تابع تدريسه، أو لأعلام الإسلام بصفة عامة، ومتطرقا كذلك لمواضيع علمية متنوعة منها؛ مواضيع فقهية وأدبية وفلسفية وتربوية واجتماعية، تنم عن معرفة المؤلف الواسعة واطلاعه الكبير والمتنوع، ومساهمته الكبيرة في بعث الحركة الثقافية في شمال المغرب عموما وتطوان على وجه الخصوص.

مباحث كلامية من كتاب “النعيم المقيم”:

تضمن هذا السفر جملة وافرة من مناقشات الفقيه المرير العلمية في باب العقائد وفق المهيع الأشعري، توزعت في أجزائه بصفة عامة، لكن أكبرها تحريرا وتنقيحا ما تضمنه السفر السادس من الكتاب، حيث عرض فيه لمباحث تتعلق بالدفاع عن أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، وبمناقشة مباحث الإيمان بالقضاء والقدر، وأخيرا المبحث المتعلق بأفعال العباد أو مسألة الكسب عند الأشاعرة.

ويظهر من طريقة عرض هذه المباحث أنها كانت أجوبة عن مسائل من طرف سائليه، فيقوم الفقيه المرير ببسط المسألة وتقعيدها، ثم يذيلها بتقريرات عقدية لأئمة من فطاحل الأشاعرة، وأخيرا يدلي برأيه في المسألة اعتمادا على ما انتهى إليه هذا النقاش. وسأقوم بعرض أهم ما ورد في هذه المباحث وفق ما يسمح به المقام.

1- مبحث الدفاع عن أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة وطريقته في نصرة أهل السنة(3):

أول ما ابتدأ به الفقيه المرير في هذه المباحث؛ الحديث عن ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري معتمدا على ما جاء به تاج الدين السبكي في طبقاته بقوله: شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى: الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري، شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، وإمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعيا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر وتقي بر، حمى جناب الشرع من الحديث المفترى، وقام  في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصرا مؤزرا..(4)

إثر ذلك عقب الفقيه المرير على ما سبق بقوله، ثم ذكر مولده سنة 260هـ، ثم ذكر بداية حاله، وأنه كان مندمجا في طائفة الاعتزال حتى صار إماما فيها، ثم استهدى الله إلى الصواب فهداه إلى الطريق المثلى والمنهج السني الأعلى، وقد رأى في ذلك مرائي عجيبة، (رأى) فيها النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بنصرة المذاهب المروية عنه؛ فإنها الحق، فكان من أمره ما كان من تصديه لنصرة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم عاد إلى كلام السبكي في التاج حين ذكر فضل وعلم أبي الحسن بقوله: (واعلم انا لو أردنا استيعاب مناقب الشيخ لضاقت بنا الأوراق وكلت الأقلام)، مبينا أن طريقته في نصرة أهل السنة كانت معتبرة حيث يقول: (بيان أن طريقة الشيخ هي التي عليها المعتبرون من علماء الإسلام، والمتميزون من المذاهب الأربعة في معرفة الحلال والحرام، والقائمون بنصرة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام)، محيلا على كتاب “تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري” الذي صنفه الحافظ ابن عساكر وأطال الثناء عليه.

و عرج بعد ذلك على ما رواه السبكي كذلك عن المايرقي أن الإمام أبا الحسن الأشعري: (لم يكن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سنن غيره وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجة وبيانا، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبا انفرد به، وقارن ذلك بالإمام مالك؛ وأنه إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الاتباع لهم إلا أنه لما زاد المذهب بيانا وبسطا عزي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري..).. حتى وصل إلى وصف حالة أهل السنة بعد وفاته فقال: (لقد مات الأشعري يوم مات، وأهل السنة باكون عليه، وأهل البدع مستريحون منه..)، وكلام من هذا القبيل في فضل الرجل ونصرته لمعتقد أهل السنة، وكلام العلماء عنه واتفاقهم على مكانته بينهم.

ثم انتقل الفقيه المرير إلى بيان طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري في الدفاع عن أهل السنة ككلام ابن عساكر فيه حين قال: (هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري ومنتهي إليه، وراض بحميد سعيه في دين الله، مُثنٍ بكثرة العلم عليه، غير شرذمة قليلة تضمر التشبيه وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه أو تضاهي قول المعتزلة في ذمه وتباهي بإظهار جهلها بقدرة سعة علمه. وقول الإمام القشيري: اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، كان إماما من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين.. ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه، فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة)(5).

2- مباحث الإيمان بالقضاء والقدر(6):

جاء حديث الفقيه المرير عن الإيمان بالقضاء والقدر في كتابه “النعيم المقيم” جوابا على سؤال استُفسر عنه في مجلس من مجالسه، حيث ذكر في روايته: الجواب عن سؤال: عن معنى القضاء والقدر..

واشتمل جوابه على عناصر ثلاثة هي:

  • في تفسير معنى القضاء والقدر من أقوال العلماء
  • في شرح مضمون حديث جبريل عليه السلام
  • مبحث الرضى بالقضاء

– المسألة الأولى: في تفسير معنى القضاء والقدر: ذكر الفقيه المرير في هذه المسألة مجموعة من أقوال العلماء فيها مبتدئا بما جاء في كتب السنن، وأولها ما ذكره في فتح الباري في تفسير حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام، عن المراد بالقدر والقضاء: أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة..

وذكر اختلاف العلماء في معنى القضاء والقدر هل هما مترادفان موردا ما اتفق عليه المغاربة في ذلك، فذكر قول الشيخ الطيب ابن كيران في شرح المرشد حين قال: (واختلف في القدر والقضاء، هل هما مترادفان، وهما تعلق العلم والإرادة في الأزل بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، أو هما متغايران، وعليه الأكثر، ثم قال: الأكثر من هؤلاء: القدر سابق على القضاء، فالقدر هو: ما مرَّ، والقضاء: إبراز الكائنات فيما لا يزال على وفق القدر السابق، فهو حادث. وقيل عكسه فينعكس تفسيرهما. وقيل حادثان، والقضاء سابق، وهو حصول الأشياء في اللوح المحفوظ مجملة، والقدر إبرازها لأوقاتها، وقيل عكسه..)(7).

وقال ميارة كذلك في شرح جزء حديث جبريل عليه السلام من كتابه شرح المرشد المعين: (وبالقدر خيره وشره): (أي بأن ما قدره الله في أزله لابد من وقوعه، وما لم يقدره يستحيل وقوعه، وبأنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته لقوله تعالى: (خلق كل شيء)، (والله خلقكم وما تعملون)، (إنا كل شيء خلقناه بقدر).. (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)، ولإجماع السلف والخلف على صحة قول القائل: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولخبر: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).

والقضاء عند الأشعرية: إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.

والقدر إيجاده إياها على ما يطابق العلم..)(8)

وختم هذا المبحث باختياره من مجموع هذه الأقوال ما ذهب إليه الزبيدي في شرح الإحياء حين قال: (ثم هذه الأقوال في تفسير القضاء والقدر، وإن اختلفت في العبارة، محصلها- أن معنى قضائه تعالى؛ علمه الأشياء أزلا بعلمه القديم. ومعنى قدره؛ أي إيجاده تعالى بقدرته الأزلية ما تعلق علمه بوجوده على الوجه المطابق لتعلق العلم بوجوده، والله أعلم)(9).

– المسألة الثانية: في شرح مضمون حديث جبريل عليه السلام: (وأن تؤمن بالقضاء خيره وشره)، استقى الفقيه المرير معنى هذا الحديث اعتمادا على شرح أبي حامد الغزالي في الإحياء حين قال: (إن فعل العبد وإن كان كسبا للعبد فلا يخرج عن كونه مراد الله سبحانه، فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر، إلا بقضاء الله وقدره، وبإرادته ومشيئته، ومنه الشر والخير، والنفع والضر، والإسلام والكفر، والعرفان والنكر، والفوز والخسران، والغواية والرشد، والطاعة والعصيان، والشرك والإيمان، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون). ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة: (ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقول الله عز وجل: (أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا)، وقوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) الخ)(10).

– المسألة الثالثة: مبحث الرضى بالقضاء: يقول الفقيه المرير: (وإنما جئنا بهذه النبذة اليسيرة التي يطول بسطها، لأجل أن ننزل عليها المقصود بالفصل، وهو الرضى بالقضاء الذي وجده الملحدون من المبتدعة مسرحا لإطلاق طواعن زيفهم وضلالتهم على أفكار أهل السنة، قصد فتنتهم وتشكيكهم وزلزلتهم عن طريقهم المثلى وصرفهم عن التمسك بما جاء في كتابهم الذي يقرأ عليهم؛ من قولهم: كيف قضى الله علينا بالمعاصي والكفر ثم لم يرضه منا ويعاقبنا عليه؟ وهو معنى الرضى بالقضاء..)(11).

ولبسط مقررات هذا المبحث عمد الفقيه المرير إلى الاستشهاد برأي ابن الهمام في كتابه المسايرة الذي يقول: (فإن قيل حاصل ما ذكرتم أن المعاصي واقعة بقضاء الله تعالى، وقد تقرر أنه يجب الرضى بالقضاء اتفاقا، فيجب حينئذ الرضى بالمعاصي وهو باطل إجماعا. قلنا: الملازمة بين وجوب الرضى بالقضاء وبين وجوب الرضى بالمعاصي ممنوعة؛ فلا يستلزم الرضى بالقضاء الرضى بها بل يجب الرضى بالقضاء لا المقضي إذا كان منهيا عنه، لأن القضاء صفة له تعالى والمقضي متعلقها الذي منع منه سبحانه. ومعنى هذا الكلام أنه لا معنى للرضى بصفة من صفات الله تعالى، إنما الرضى بمقتضى تلك الصفة، وهو المقضي. فحينئذ فاللائق أن يجاب بأن الرضى بالكفر لا من حيث ذاته، بل من حيث هو مقضي- كما قاله شارحه-.

ولمزيد بيان نقل الفقيه المرير من شرح مواقف الإيجي قوله: (إن للكفر نسبة إلى الله تعالى باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه، ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأولى والرضى به باعتبار النسبة الأولى دون الثانية. والفرق بينهما ظاهر؛ فإنه ليس يلزم من وجود الرضى بشيء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرضى به باعتبار وقوعه صفة لهم، وانه باطل إجماعا) (12)، وأيضا فإن مذهب الأشاعرة عموما قائم على أن الباري تعالى لا يصدر منه ولا يجب عليه شيء، لأنه يفعل ما يريد سبحانه، وأنه لا يصدر منه قبيح البتة، ومن ثم فالمقرر في هذا الباب أن الواجب على المسلم المؤمن هو الرضى بالتقدير لا بالمقدر.

3- مسألة الكسب عند الأشاعرة(13):

وهو ما عبر عنه الفقيه المرير بأفعال العباد الاختيارية، ومعتمد كلام محمد المرير فيها ما قرره عضد الدين الإيجي في مواقفه حين ذكر مقاصد هذا الباب في المرصد السادس فقال: (في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا. فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه؛ مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده، سوى كونه محلا له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. وقالت المعتزلة؛ أي أكثرهم: هي واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب، بل باختيار. وقالت طائفة هي واقعة بالقدرتين معا..)(14). وفي هذا المبحث اختلاف كثير بين المتكلمين من مختلف الفرق.

ثم ذكر الفقيه المرير ما صار إليه صاحب المواقف من الاحتجاج لمذهب الأشعري؛ وهو أن الفعل الاختياري للعبد واقع بقدرة الله تعالى لا بقدرته (العبد).. وأضاف إليها الاستدلالات النقلية التي تشهد للمذهبين، فقال: (وربما احتج الخصم على كون العبد موجدا لأفعاله بظواهر آيات تشعر بمقصوده، وهي أنواع، الأول فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) الخ، وذكر منها سبعة. قلت: وذكر فيها الآيات التي تشعر بأن العبد موجد لأفعاله، وهي مشهورة للاستدلال بها. ثم قال: إن هذه الآيات المشعرة بأن العبد يوجد أفعاله معارضة بالآيات الدالة أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه، نحو: (خلقكم وما تعملون)، قلت: ومثل هذه الآيات آيات أخرى كثيرة. ثم قال في المواقف: وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينية، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية..)(15).

وقد ساق الفقيه المرير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب الإيمان بذلك خيرا كان أو شرا، مبينا أنه قد تقدم الحديث عليه في أول مبحث القضاء والقدر (إشارة إلى موضع شرح حديث جبريل عليه السلام)، هذا بالإضافة إلى إثباته ما كان عليه التابعون من الأئمة الكبار؛ الذين كانوا يرون أن كل علم لم يأت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير مقبول.. وأورد كلام الحكيم ابن رشد في مسألة الكسب الذي رد به مذهب الأشعري معتبرا إياها مسألة من أعوص المسائل الشرعية لتعارض الدلائل السمعية والعقلية فيها، وما وقف فيه الأشاعرة عموما من موقف التوسط بين ذلك. وكلام أبي حامد الغزالي القائم على الاقتصاد في الاعتقاد والمنتصر للمذهب الأشعري في باب الكسب؛ ومضمنه أن أفعال العباد مقدورة بقدرة الله تعالى اختيارا وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق ويعبر عنه بالاكتساب.

ثم انتصر فقيهنا لقول العلامة التفتازاني في هذه المسألة في شرح العقائد النسفية حين قال: (فإن قيل لا معنى لكون العبد فاعلا بالاختيار إلا كونه موجدا لأفعاله بالقصد والإرادة، وقد سبق أن الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها. ومعلوم أن المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين، قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته، إلا أنه لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله تعالى وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال؛ كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله تعالى خالق كل شيء، والعبد كاسب. وتحقيقه: أن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل عقب ذلك خلق، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين: فالفعل مقدور الله بجهة الإيجاد، ومقدور العبد بجهة الكسب..)(16). ولذلك ختم فقيهنا هذا المبحث بقوله: (وبالجملة فهذه المسألة اضطربت فيها الآراء والأنظار وأشعرت كلها عند إتعاب الفكر في تعقلها بعقولنا القاصرة وإرجاعها إلى حدها الذي حدده لها خالق الأرض والسماء وإسناد العلم فيها إليه، لأن الإمعان في ذلك يوقع في الحيرة وعدم الاطلاع على أسرار الحي القيوم التي أخفاها هنالك..)(17). واعتبر الخوض في أمثال هذه المسائل من التسور على ما لا سبيل إلى اطلاع على الحقيقة فيه، إذ هو مضاف إلى المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وهو سر القضاء الذي أمرنا بعدم الخوض فيه، ولو كان من الواجب الاطلاع عليه لجاء به النص الواضح والبيان الصحيح الراجح.. ومن ثم وخروجا بعوام الناس من هذا الجدل الكلامي حبذ لهم الاقتصار في باب الاعتقادات على مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني الجامعة لأوضح المعاني قائلا: (قلت: وهذا القدر كاف في الاعتقاد المقرب لرب العباد، ومثل هذا ينبغي أن يقرر في التوحيد العام، بل ما بعد هذا المقام إلا ما يشوش الأفكار وتعجز عن إدراكه الأفهام..)(18).

ولمكانة الرجل داخل الحقل الثقافي المغربي المعاصر واطلاعه الواسع على ما يدور في مشرق العالم الإسلامي من أحداث بسبب اهتمامه بالصحافة وأخبارها ولما عرف عنه من ولعه بالكتب وانقطاعه للمطالعة في شتى المجالات، ختم الفقيه المرير هذه المباحث بذكر الجدل الذي دار في زمانه بين طائفة من العلماء المعاصرين آنذاك في مسألة الكسب وخلق أفعال العباد، فقال: (ثم بعد هذا لا بد من تذييل هذا المقام بمقالات ما قاله أهل العصر الحاضر ممن ادعى الاطلاع ورام كشف وجه الحقيقة فيها ورفع القناع..)(19). وذكر من ذلك ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده في مسألة الكسب ضمن كتابه: “رسالة التوحيد” ومضمنها أن العبد مستقل بإدراك أعماله الاختيارية، فقال: (كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنه مدرك أعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ثم يصدرها بقدرة ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل)(20). وذكر فقيهنا أن محمد عبده اعتمد في ذلك على أحد رأيي إمام الحرمين الجويني – وهي مقالة أنكرها عليه جل المشايخ ومنهم الشهرستاني الذي ردها جملة وتفصيلا معتبرا أنها مأخوذة من حكماء اليونان وقد أعرض عنها الجويني في الإرشاد بعد ذلك، ومن العلماء من أنكر وجودها في كتبه-. فقام فقيهنا بعد ذلك برد هذا الرأي معتمدا على آراء جملة من الأشاعرة منهم الجويني نفسه في الإرشاد والغزالي في الإحياء، ومستدلا كذلك ببعض العلماء المغاربة وبما أورده أبو عبد الله السنوسي وأبو سالم العياشي وغيرهما؛ وقد ورد عن الشيخ الطيب بنكيران في شرحه على السنوسية قوله: (ونقل عن إمام الحرمين أن قدرة العبد تؤثر لكن لا استقلالا بل على أقدار قدرها الباري، وعن القاضي الباقلاني والأستاذ أن قدرة الله تؤثر في إيجاد فعل العبد من حيث عمومه، والقدرة الحادثة تؤثر في وصفه الخاص من كونه صلاة أو غصبا أو سرقة ونحو ذلك)(21).

نخلص من هذه المباحث إذن إلى نتيجة مفادها الاعتبار بمكانة الرجل بين أهل عصره، وأنه كان من المطلعين على ما استقر عليه العمل عند المغاربة في حرصهم الشديد على التشبث بالاعتقاد الصحيح وتفقههم بطريقة مالك في باب العبادات والمعاملات، ونهجهم السني في طريق الجنيد في السلوك، بما يكفيهم من دحض الأفكار الدخيلة والتيارات المستحدثة فكرا وممارسة، وأشير في الختام أن الكتاب بمختلف أجزائه قد اشتمل كذلك على مواضيع أخرى متعددة في باب العقائد؛ كمسألة إيمان المقلد، ومسألة الحكم التشريعي المتعلق بأفعال العباد، والرد على من سب الدهر من كُتّاب هذا العصر، والحديث عن معاني أسماء الله الحسنى، ورؤيا الباري تعالى في المنام، والكلام في المعجزة، ونشأة الكون، وفتنة القول بخلق القرآن، والحديث عن الروح وما قيل فيها.. وغير ذلك من المباحث، وإن كانت لم تصل إلى درجة البحث والتقصي الذي ورد في المباحث المذكورة في هذا الجزء السادس من كتاب “النعيم المقيم”.

الهوامش:

(1)- انظر ترجمته في مقال لي بجريدة الشمال تحت عنوان: نظرات في كتاب “النعيم المقيم” للفقيه المرير- الحلقة الأولى- العدد: 1079- ص: 12.

(2)- انظر تعريفا بالكتاب مقال آخر بنفس الجريدة – العدد: 1080- ص: 6.

(3)- هذا المبحث موجود في الجزء السادس من كتاب “النعيم المقيم في ذكر مدارس العلم ومجالس التعليم” للعلامة الفقيه محمد المرير التطواني، الصادرعن جمعية تطاون اسمير، تخريج الأستاذ أحمد بن محمد المرير (ابن الفقيد) وتقديم الدكتور امحمد بن عبود ومراجعة الدكتور جعفر بن الحاج السلمي- صفحات: 444- 449.

(4)- “النعيم المقيم”- 6/461-462.

(5)- نفسه: 6/463.

(6)- هذا المبحث موجود في الجزء السادس من كتاب “النعيم المقيم”، صفحات: 418- 427.

(7)- نفسه: 6/419.

(8)- نفسه: 6/420.

(9)- نفسه: 6/421.

(10)- نفسه: 6/422.

(11)- نفسه: 6/422.

(12)- نفسه: /6/422.

(13)- هذا المبحث موجود في الجزء السادس من كتاب “النعيم المقيم” صفحات: 427- 461.

(14)- نفسه: 6/427.

(15)- نفسه: 6/428-429.

(16)- نفسه: 6/431.

(17)- نفسه: 6/434.

(18)- نفسه: 6/435.

(19)- نفسه: 6/436.

(20)- نفسه: 6/437.

(21)- نفسه: 6/473-478.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق