مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «نظرات في سورة القلم» «الحلقة الثالثة عشرة»

وفي هذه الحلقة سنعرض للدرس الرابع الذي تضمنته سورة القلم، فبعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ذكر الله تعالى أحوال السعداء، وأبان أن للمتقين جنات النعيم، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان، فلما نزلت هذه الآيات، قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة، ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟» أي كيف نساوي بين الفريقين في الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟ كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي[1].

جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي:

بعد الإلماح بإنذار كل المكذبين، والتصريح بإنذار الفريق المستكبر العاتي المعاند، الذي سيكون من عقابه أنه سَيُوسَمُ بِكَيَّاتٍ من نار على أنفه المستكبر الذي يشبه خرطوم الفيل والخنزير شبها معنويا لا شبها حسيا، اقتضت الحكمة بيان ثواب المؤمنين المتقين[2]، فجاء في الدرس الثالث قول الله عز وجل:

«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ  أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ  أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ  أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ  يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ  خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ». [القلم: 34 – 43] ففي قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ»استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع يقول: فما جزاء المتقين؟ وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله: «سنسمه على الخرطوم» وقوله: « كذلك العذاب»، وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده: « أفنجعل المسلمين كالمجرمين»  وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكرُ صفتهم العظيمة ذكْرَ جزائها، واللام للاستحقاق، و«عند» ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قُدم متعلَّقُه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام، وقد حصل من تقديم المسند بما معه طولٌ يثير تشويق السامع إلى المسند إليه، والعِندية هنا عندية كرامةٍ واعتناء[3]، وجاء التعبير هنا بلفظ الجمع «جنات» إشارة إلى أقسام الجنة ومنازل أهلها فيها، فهي بجملتها العامة «جنة» واحدة كبرى، وهي بأقسامها وأجزائها جنات يصلح كل قسم منها لأن يطلق عليه لفظ جنة[4]. والرب الخالق العليم القدير جل جلاله الذي له كل صفات الكمال، والمنزه عن كل صفات النقصان، لا بد عقلا أن يكون حكيما، وأن يكون منزها عن العبث، ومنزها عن أن تكون أعماله منافية للعدل، فقدم الدليل البرهاني بصيغة أدبية رائعة، قال عز وجل: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»[5] فالهمزة للاستفهام الإِنكاري، فرَّع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين، فالإِنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحاً قوله: «ما لكم كيف تحكمون» إلى قوله: « إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ» [ القلم: 39][6]، وكل من هذين الاستفهامين استفهام تعجيبي إنكاري واجه الله عز وجل به المكذبين، وهذا الأسلوب من قبيل الاستدلال بنفي أحد النقيضين لإثبات النقيض الآخر[7]، وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: «أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ» [ السجدة : 18]، وقوله: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود بـ « المجرمين»، عُبر عنهم بطريق الإِظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف « المجرمين» من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين[8]، ومن الأساليب البلاغية الواردة في هذه الآيات الطباق بين لفظتي المسلمين والمجرمين، كما فيهما تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع لأن الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب، و«كيف تحكمون» استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير «لكم»؛ أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم[9].

ولما كان سبحانه وتعالى قد نفى حكمهم هذا بإنكار جميع كيفياته التي يمكن أن يصح معها، وكان الحكم الصحيح لا بد وأن يكون مستندا إلى عقل أو نقل، زاد بطلان حكمهم وضوحا بنفي الأمرين معا، فقال عاطفا على ما تقديره: ألكم دليل من العقل تلجؤون[10] «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» فـ «أم» المتصلة، وهي التي لا يكون الكلام بها إلا استفهاما، وهي حرف عطف، والاستفهام المقدر مع «أم» هنا استفهام إنكاري[11]، و«لكم» خبر مقدم، و«كتاب» مبتدأ مؤخر، و«فيه» متعلقان بـ «تدرسون»، و«تدرسون» فعل مضارع مرفوع وفاعل، وجملة تدرسون حالية أو مستأنفة[12].

ولما ذكر الدرس ذكر المدروس فقال تعالى: «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرونَ» كسرت إن مع أنها وقعت بعد عامل لأنه علق بلام الابتداء التي يسمونها المزحلقة[13] جيء بها للتأكيد، وجملة تخيرون صلة، وأصل تخيرون: تتخيرون، بمعنى تختارون[14]. ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجا عما يدعو إليه العقل والنقل، نفى ذلك بقوله: «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» والاستفهام في العبارة استفهام إنكاري أيضا، و«لكم» خبر مقدم، و«أيمان» مبتدأ مؤخر، و«علينا» صفة لأيمان، و«بالغة» صفة ثانية، و«إلى يوم القيامة» متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وفي قوله أم لكم معنى القسم، كأنه قيل: أقسمنا لكم أيمانا موثقة[15]، وهذه الأيمان مستمرة الأثر إلى اليوم الذي يقرر فيه قضاء الإدانة والجزاء، وعندئذ تنتهي متعلقات المسؤولية عن الأعمال في رحلة الحياة الدنيا [16]، ولما ذكر القسم بالأيمان  ذكر المقسم عليه فقال: « إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ» والجملة جواب القسم الملحوظ، فلا محل لها، و«إن» حرف مشبه بالفعل، و«لكم» خبرها المقدم، واللام المزحلقة للتأكيد، وجملة تحكمون صلة[17]، ولما عجب منهم وتهكم بهم قال مخوفا لهم بالإعراض: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» وهو استئناف بياني عن جملة أم لكم أيمان علينا بالغة، لأن الأيمان هي العهود تقتضي الكفلاء عادة، قال الحارث بن حلزة:[18]

واذكُرُوا حِلْفَ ذِي المَجَازِ وَمَا قُدِّ /// مَ فِيهِ العُهُودُ وَالكُفَلَاءُ

فلما ذكر إنكار أن يكون لهم عهود، كمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان، فالاستفهام في قوله «سلهم أيهم بذلك زعيم» مستعمل في التهكم زيادة على الإنكار عليهم[19]، والزَّعِيمُ في اللغة: الكَفيلُ، والغارِمُ: الضّامِنُ. وقال اللَّه تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»؛ قالوا جميعا: معناه وأنا به كَفِيلٌ؛ ومنه حديث علي رضوان اللَّه عليه: «ذِمَّتي رَهينة وأَنا بِهِ زعِيمٌ»، وزَعَمْت به أَزْعُمُ زَعْماً وزَعامةً أَي كَفَلْتُ. وزَعِيمُ القوْم: رئيسهُم وسَيِّدُهُم، وقيل: رئِيسهُم المُتَكَلِّمُ عنهم ومِدْرَهُهُم، والجمع زعماء، والزَّعامة: السِّيادة وَالرِّيَاسَةُ، وقد زَعُمَ زَعامَةً؛ [20] قال الشاعر:[21]

حَتَّى إِذا رَفَعَ اللِّواء رأَيْتَهُ، /// تَحْتَ اللِّواء عَلَى الخَمِيسِ، زَعِيما

ولما نفى أن يكون لهم منه سبحانه في تسويتهم بالمسلمين دليل عقلي أو نقلي، قال سبحانه: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» فالاستفهام في العبارة استفهام إنكاري أيضا، وهذه الجملة معطوفة في المعنى على جملة أيهم بذلك زعيم، والفاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، والتقدير: إن كان ذلك كذلك فليأتوا، و«اللام» لام الأمر، و«يأتوا» فعل مضارع مجزوم باللام، و«الواو» فاعل، و«بشركائهم» متعلقان بيأتوا، و«إن» شرطية، و«كانوا» فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، و«الواو» اسمها و«صادقين» خبرها، والجواب محذوف دل عليه ما تقدم، أي: فليأتوا بشركائهم[22]. وتنكير شركاء في حيز الاستفهام المستعمل في الإنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد «سلهم أيهم بذلك زعيم»، لأن أخص الناس بمعرفة أحقية هذا الإبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم، والتفريع في قوله فليأتوا بشركائهم تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر فليأتوا أمر تعجيز، وإضافة شركاء إلى ضميرهم في قوله «فليأتوا بشركائهم» لإبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم[23].

ومما تقدم في الآيات نجد أن الاستفهامات التي وردت فيها سبعة؛ وقد خرجت عن معناها الأصلي إلى الإنكار والتوبيخ والتقريع، فجاءت متعاقبة: أولها: أفنجعل، والثاني: ما لكم، والثالث: كيف تحكمون، والرابع: أم لكم كتاب، والخامس: أم لكم أيمان، والسادس: أيّهم بذلك زعيم، والسابع: أم لهم شركاء، وقد انتظمت في سلك من الفصاحة والبيان، يعنو له كل بيان.[24]

ولما نفى جميع شبههم التي يمكن أن يتشبثوا  بها أتبع ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ  خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ»؛ في هذا عرض مشهد من مشاهد يوم الدين، وهو مشهد اختباري كاشف، يميز من كانوا في الحياة الدنيا مؤمنين مسلمين قد سجدوا لربهم فيها، من الذين كانوا كافرين مكذبين رسول ربهم [25]، وفي قوله «يوم يكشف عن ساق» استعارة تمثيلية، وأصل هذا الكلام يقال لمن شمّر عن ساقه عند العمل الشاق؛ لأن من وقع في شيء يحتاج إلى الجدّ يشمّر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها لشدّة الأمر[26]، وعبارة الزمخشري: «الكشف عن السّاق، والإبداء عن الخدام، مثل في شدة الأمر، وصعوبة الخطب، وأصله في الروع، والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب، وإبداء خدامهنّ عند ذلك».وقول الزمخشري: والإبداء عن الخدام: جمع خدمة، وهي: الخلخال، وذلك كرقاب: جمع: رقبة[27]، قال حاتم:[28]

أخُو الحُرْبِ، إن عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها /// وإِنْ شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا

وقال ابن الرقيات:[29]

تُذْهِلُ الشَّيخَ عن بَنيهِ وتُبْدِي /// عن خِدَامِ العَقِيلةِ العَذْرَاءُ

والتشمير عن الساق كناية عن اشتداد الأمر وصعوبته، وأصله أن يسند للإنسان؛ لأن تشمير الثوب عن الساق لخوض لجة أو جري أو نحوه، فأسند للحرب لتشبيهها بالإنسان على طريق الاستعارة، أما البيت الثاني فقبله:[30]

كَيْفَ نَوْمي على الفراشِ ولمَّا /// يَشْمَلِ الشَّامَ غارةٌ شعواءُ

تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وتُبْدِي /// عن خِدَامِ العَقِيلةِ العَذْرَاءُ

والخدام: الخلخال، يريد أن النساء يكشفن عن خلاخيلهن وسيقانهن أثناء الهرب حين وقوع الفزع[31]، والعقيلة الكريمة وعقيلة كل شيء أكرمه ومن النساء المخدرة التي عقلت في خدرها[32]، وفي تنكير الساق إبهام للمبالغة في الدلالة على أنه أمر مبهم في الشدّة، منكر خارج عن المألوف المعتاد، وفي نسبة الخشوع إلى الأبصار مجاز عقلي؛ لأن ما في القلب يعرف من العين.

فبعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر، أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام، وهذا ما سنتحدث عنه في عرض مواد الدرس الخامس والأخير من سورة القلم.

تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والتذكير بعظمة القرآن الكريم الذي يتلقاه أهل العقول النيِّرة:

وبعد هذا العرض لمشهد من مشاهد يوم الدين، الذي يتضمن وعيدا للمكذبين، اقتضت الحكمة التربوية أن ينذرهم الله بعذاب معجل في الحياة الدنيا، إذ أصروا  على عنادهم وتكذيبهم، واقتضت الحكمة أن لا يواجههم الله بالخطاب، فقال الله عز وجل لرسوله [33]: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ  فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ  وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ».[ القلم: 44-52] فذرني؛ أي دعني واتركني، وقوله: «ومن يكذب بهذا الحديث» فالحديث هو القرآن[34]، وتسميته حديثا لما فيه من الإخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى: « فبأي حديث بعده يؤمنون»، وقوله تعالى: «أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون»[35]، والاستدراج تقديم التسهيلات الخفيات التي تجعل السالك في طريق ما يدرج متابعا سيره الذي يحسب نفسه فيه صاعدا، بينما قد يكون هابطا مُتَسَفِّلا، وقد تنتهي به مسيرته إلى هلاكه[36]، يقال لغة: درج: دَرَجُ البناءِ ودُرَّجُه، بالتّثقيل: مراتب بعضُها فوق بعض، واحدتُه دَرَجَة ودُرَجَة مثال هُمَزَةٍ، والدَّرَجَةُ: الرِّفعة في المنزلة، والدَّرَجَةُ: المِرْقاةُ، والدَّرَجَةُ واحدةُ الدَّرَجات، وهي الطبقاتُ منَ المراتبِ، ودَرَجاتُ الجنة: منازل أَرفع من منازل. ودَرَج الشَّيخ والصّبيُّ يَدْرُجُ دَرْجاً ودَرَجاناً ودَرِيجاً، فهو دَارِجٌ: مَشَيا مَشْياً ضعِيفًا ودَبَّا؛ وَقَوْلُهُ:

يَا لَيْتَنِي قَدْ زُرْتُ غَيْرَ خارِجِ، /// أُمَّ صَبِيٍّ، قَدْ حَبَا، ودارِجِ

إِنما أَراد أُمَّ صَبيٍّ حابٍ ودارِج[37]، ودَرَّجَه إلى كذا واسْتَدْرَجه، بمعنى، أَي أَدناه منه على التَّدْرِيجِ، فتَدَرَّجَ هو، وفي التنزيل العزيز: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»؛ قال بعضهم: معناه سنأخذهم قليلا قليلا ولا نُباغِتُهم؛ وقيل: معناه سنأخذهم من حيث لا يحتَسبُونَ؛ وذلك أن اللَّه تعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به فيَرْكَنُونَ إليه ويأْنسون به فلا يذكرون الموت، فيأْخذهم على غِرَّتِهم أَغْفَلَ ما كانوا، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، لما حمل إليه كنوز كِسْرَى: «اللَّهُمَّ إِني أَعوذ بِكَ أَن أَكونَ مُسْتَدْرَجاً، فإِني أَسمعك تقولُ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»[38]، وهو كلام مستأنف، مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الأمر السابق إجمالا، والضمير لمن، والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في «يكذب» باعتبار لفظها، و«نستدرجهم» فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، و«من» حرف جر، و«حيث» ظرف مبني على الضم في محل جر بمن، وجملة لا يعلمون في محل جر بإضافة الظرف إليها[39]، ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» والإملاء هو الإمهال والتأخير وإطالة العمر، يقال لغة: أملى الله له، أي أمهله وطول له، والمعنى أُطَوِّلُ لهم وأُمْهِلهُم لأترك لهم فرصة التوبة وإصلاح ما أفسدوا، حتى إذا انتهت مدة إمهالهم التي تقتضيها الحكمة، أنزلت بهم عقابي الشديد، إذا استمروا على ما كانوا عليه من شر، ولم يراجعوا أنفسهم، وعندئذ يرون أن كيدي قوي شديد غالب لا يستطيعون أن يحموا أنفسهم منه، بأية وسيلة من الوسائل[40]، وفي قوله «وأملي لهم إن كيدي متين» مجاز مرسل، فقد سمى إمهاله إياهم ومرادفة النعم والآلاء عليهم كيدا؛ لأنه سبب التورط والهلاك؛ لأن حقيقة الكيد ضرب من الاحتيال، والاحتيال أن تفعل ما هو نفع وحسن في الظاهر وأنت تريد ضده، وما حصل من سعة أرزاقهم وعيشهم، وطول أعمارهم، هو في الظاهر إحسان عليهم، والمقصود به الضرر والهلكة[41]. وبعد معالجة المكذبين خلال عرض عناصر مشهد من مشاهد يوم الدين لاستثارة مخاوفهم، وتوجيه تهديد لهم بعقاب معجل إذا أصروا على كفرهم وتكذيبهم، يعود النص إلى متابعة عناصر هذا المشهد، فقال الله عز وجل خطابا لرسوله: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» فالاستفهام هنا إنكاري، أي: أنت لم تسألهم أجرا حتى يتهربوا من الاستجابة لدعوتك، فإن كان تكذيبهم لك يا محمد مدفوعا بدافع التهرب من تكليفٍ كلَّفْتهم إياه لمصلحة شخصك، أجرا على تبليغهم رسالة ربك لهم، أو تخوفا من أن تكون دعوتك وسيلة لتحقيق هذا الأجر من مال أو ملك أو شهوات من متاع الحياة الدنيا، فبَيِّن لهم أنك لا تسألهم أجرا[42]، فالاستفهام التي تؤذن به «أم» استفهام إنكار لفرض أن يكون ذلك مما يخامر نفوسهم فرضا اقتضاه استقراء نواياهم من مواقع الإقبال على دعوة الخير والرشد[43]، والمغرم الخسارة من مال ونحوه مما له قيمة مالية، أو يبذل للوصول إليه مال[44]، وهو متعلق بـ «مثقلون»، و«من» ابتدائية وهو ابتداء مجازي بمعنى التعليل، وتقديم المعمول على عامله للاهتمام بموجب المشقة قبل ذكرها مع الرعاية على الفاصلة[45]، وتعبيرا عن المطالبة بدليل الادعاء الذي لا يملكونه قال الله عز وجل: «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»؛ استفهام إنكاري يفيد أنهم لا يملكون علم الغيب، فهم لا يكتبون منه شيئا[46]، والكلام هنا على حذف المضاف، أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُرَ يَرَى»[47]، وتقديم «عندهم» على المبتدأ وهو معرفة لإفادة الاختصاص، أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله[48]، ومعنى يكتبون يفرضون ويعينون كقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى»، ومجيء جملة «فهم يكتبون» متفرعة عن جملة «أم عندهم الغيب» بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهدا على حكمهم لأنفسهم المشار إليه بقوله: « ما لكم كيف تحكمون»[49].

ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ  فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ». فالنص موجه في الخطاب الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان متحققا بمضمونه قبل أن يخاطب به، لكنه موجه بصفة عامة لكل الدعاة إلى الله من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ليلتزموا به، وعلى هذا نفهم من قول الله عز وجل «فاصبر لحكم ربك»؛ فاصبر على متابعة تذكيرك مهما لاقيت من مزعجات ومؤذيات، مستسلما لحكم ربك[50]، والمراد بحكم الرب هنا أمره وهو ما حمله إياه من الإرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة، وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها «يا أيها المدثر قم فأنذر»، إلى قوله: «ولربك فاصبر»، فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضا، ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله[51]، وتعدية فعل الصبر قد جاءت في معظم الآيات القرآنية بحرف على، مثل «فاصبر على ما يقولون»، «واصبر على ما أصابك» وهذا هو الأصل في الاستعمال، فما الحكمة هنا من تعدية فعل الصبر بحرف اللام؟، وفي هذا المقام يجيب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني:يضا  أنه بالتأمل يتبين لنا أن فعل الصبر هنا تضمن التسليم لحكم الله، وهذا التسليم يلائمه حرف اللام، والتقدير: فاصبر مستسلما لحكم ربك، وهذا التضمين من أساليب القرآن البيانية البديعة[52]، وبعد الأمر بالصبر استسلاما لحكم الرب، حذر الله عز وجل الداعي إلى سبيل ربه بأسلوب الخطاب الموجه للرسول فقال: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» وصاحب الحوت هو يونس بن مَتَّى، والصاحب الذي يصحب غيره؛ أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار صاحب الحوت لقبا له على تلك الحالة معية قوية[53]، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين[54]، وقد كانت مؤاخذة يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نَيْنَوَى[55]. فـ «صاحب الحوت»: كناية عن موصوف، وهو سيدنا نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يُلقب بصاحب الحوت، والمكظوم أي المحبوس في فم الحوت لا يستطيع الخروج منه، وقد يكون مغتاظا من نفسه إذ ترك قومه دون إذن من ربه، يقال لغة: كظم الرجل نفسه، إذا حَبَسَه في صدره، فمعنى الكظم الحبس[56]، وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس[57]. ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال: «لَوْلَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ  فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» جاء فعل تداركه دون تاء التأنيث، لأن لفظ نعمة مجازي التأنيث، يجوز معه تذكير الفعل وتأنيثه، يضاف إلى هذا ملاحظة أن المتدارك هو الله، والنعمة منه فيض من عطائه[58]، وهو استئناف بياني ناشىء عن مضمون النهي من قوله ولا تكن كصاحب الحوت؛ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه، وتنكير نعمة  للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة[59]. وفي قوله «وهو مذموم» مجاز مرسل أيضا؛ لأن اللوم في الحقيقة سبب للذم، فالعلاقة السببية، وجميل قول الرازي: «وهو مذموم على كونه فاعلا للذنب قال والجواب من ثلاثة أوجه: الأول أن كلمة لولا دالّة على أن هذه المذمومية لم تحصل، الثاني لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوّة»[60]. وجعلت جملة «لنبذ بالعراء وهو مذموم» استئنافا بيانيا ناشئا عن الإجمال الحاصل من موقع لولا، واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز[61]. وعقب هذه المصيبة التأديبية، تاب يونس عليه السلام إلى ربه توبة عظيمة، فتاب الله عليه، فاجتباه، أي: فاختاره واصطفاه، وجعله ضمن عباده الصالحين، إذ وصل بتوبته وصلاحه إلى هذه المرتبة التي يحتلها الأنبياء والمرسلون[62].

وختم الله بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو على المدهن، فجاء الخطاب في الآيتان الأخيرتان موجها من الله لرسوله تسلية وتطمينا لنفسه وقلبه، بأن متهميه بالجنون غير مصدقين لأنفسهم في هذا الاتهام، بل يطلقونه إطلاقا كيديا، لصد جماهيرهم عن الإيمان بالرسول واتباعه، إذا أدركوا من عظمة آيات التنزيل مثل ما أدرك قادتهم، حيث يقول عز وجل: «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» دل قول الله عز وجل في هذا الدرس الأخير من دروس السورة خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ على أن الإصابة بالعين حق، وأن لها تأثيرات على الأجساد والنفوس، وقد جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت تأثير الإصابة بالعين، باعتبارها مثل الأمور السببية التي جعلها الله في كونه ذوات تأثيرات ضمن قضاء الله وقدره وإذنه وتمكينه[63]، وشواهد الإصابة بالعين كثيرة نذكر منها على سبيل الحصرحديث: «العَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ القَبْرَ، وَتُدْخِلُ الجَمَلَ القِدْرَ». حديث حسن، ومنها كذلك حديث: «العَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» حديث صحيح[64]؛ أي إذا طُلِبَ من العائن أن يَغْسل أطرافه ليؤخذ الماء ويُصَبَّ منه على المصاب بالعين لزمه أن يفعل[65]، وقس على ذلك أحاديث أخرى في هذا الشأن، كما ثبت في الأدعية النبوية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « أعوذُ بكلماتِ الله التَّامَّة، مِنْ كُلِّ شَيطانٍ وهَامَّة، ومِنْ كُلِّ عَينٍ لامَّة»[66]، والواو في قوله «وإن يكاد» استئنافية، و«إن» مخففة من الثقيلة، أو هي مهملة، و«يكاد» فعل مضارع من أفعال المقاربة، و«الذين» اسمها، وجملة كفروا صلة، واللام الفارقة[67]، ويُزْلِقُونَك من زلق: والزَّلَقُ: الزَّللُ، زَلِقَ زَلَقاً وأَزْلَقَه هو، والزَّلَقُ: المكان المَزْلَقة. وأَرض مَزْلقة ومُزْلقة وزَلَقٌ وزَلِقٌ ومَزْلَق: لا يَثْبُتُ عليها قدم، وكذلك الزَّلَّاقة؛ ومنه قوله تعالى: «فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً»؛ أي أرضا مَلْساء لا نبات فيها أو مَلْساء ليس بها شيء؛ قال الأَخفش: لا يَثْبُت عليها القدمان. وأَزْلَقَه ببصره: أَحدَّ النَّظَرَ إِليه، وكذلك زَلَقه زَلَقاً وزَلَّقه؛ ويقال: زَلَقَه وأَزْلَقَه إِذا نَحَّاهُ عن مكانه. وقوله تعالى: «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ»؛ أَي ليُصِيبُونك بأَعينهم فيزِيلونك عن مقامك الذي جعله اللَّه لك[68]، وهو فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، و«الواو» فاعل، و«الكاف» مفعول به، و«بأبصارهم» متعلقان بيزلقونك، و«سمعوا» فعل وفاعل، و«الذكر» مفعول به[69]، ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط على وجه الكناية، فقد جعل الإزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل يزلقونك، وهذا مثل قوله تعالى: «إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا»[70]، وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة، فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم[71]، وقوله «لما سمعوا الذكر» أي حين سمعوا شيئا من آيات القرآن المجيد، سمى الله القرآن ذكرا لأن المطلوب من الناس بالنسبة إليه أن يتبلغوه ويتدبروا معانيه[72]، وضمير «إنه لمجنون» عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم والمعنى؛ يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه، فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون، لينتقلوا من ذلك على الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم إنه لمجنون بقوله: «وما هو إلا ذكر للعالمين»؛ أي ما القرآن إلا ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وهنا يحضر محسن رد العجز على الصدر مع قوله في أول السورة «ما أنت بنعمة ربك بمجنون»، وقوله: «وما هو إلا ذكر للعالمين» إبطال لقولهم إنه لمجنون لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن، فإذا ثبت أن القرآن ذكر بطل أن يكون مبلغه مجنونا، وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلا ذكر وما أنت إلا مُذكر[73].

وختم الله السورة بتأكيد ما سبق بيانه في سورتي المدثر والمزمل من أن القرآن تذكرة، فمن شاء ذكره، ففي المدثر قال تعالى: « كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة فَمَن شَاء ذَكَرَه»، وفي المزمل قال تعالى: « إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ». وفي القلم ختم الله السورة بقوله: « وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين». ومع تأكيد أصل الفكرة فبَيْن هذه النصوص الثلاثة تكامل في المعاني، فالقرآن تذكرة لمن شاء أن يذكره، ولمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، وهو ذكر لكل العالمين المكلفين إنسهم وجنهم[74].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د وهبة بن مصطفى الزحيلي، 29/67-68، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة : الثانية ، 1418 هـ.

[2] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/247.

[3] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، 29/90.

[4] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/247.

[5] نفسه، 1/248.

[6] التحرير والتنوير، 29/91.

[7] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/249.

[8] التحرير والتنوير، 29/92.

[9] نفسه، 29/92.

[10] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 20/319-320.

[11] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/251.

[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش،8/37.

[13] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/251.

[14] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/37.

[15] نفسه، 8/37.

[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/252.

[17] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/37.

[18] ديوان الحارث بن حلزة، تحقيق: إميل بديع يعقوب، ص: 36، دار الكتاب العربي.

[19] التحرير والتنوير، 29/95.

[20] لسان العرب، 12/266.

[21] ديوان ليلى الأخيلية، تحقيق: خليل إبراهيم العطية، جليل العطية، ص: 110.

[22] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/38.

[23] التحرير والتنوير، 29/96.

[24] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/38-39.

[25] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/254.

[26] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/39.

[27] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، 4/593

[28] ديوان حاتم الطائي، ص: 49، دار صادر، بيروت، 1401هـ/ 1981م.

[29] ديوان عبد الله بن قيس الرقيات، تحقيق وشرح الدكتور محمد يوسف نجم، ص: 95، دار صادر، بيروت.

[30] نفسه، ص: 96.

[31] نفسه، ص:96.

[32] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/40.

[33] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/256-257.

[34] نفسه، 1/257.

[35] التحرير والتنوير، 29/100.

[36] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/257.

[37] لسان العرب، 2/266.

[38] نفسه، 2/268، وانظر نص عمر بن الخطاب في سنن البيهقي الكبرى، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، 6/357، مكتبة دار الباز – مكة المكرمة ، 1414 هـ 1994م.

[39] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/41.

[40] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/258.

[41] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/43.

[42] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/262.

[43] التحرير والتنوير، 29/102.

[44] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/262.

[45] التحرير والتنوير، 29/103.

[46] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/264.

[47] التحرير والتنوير، 29/103

[48] نفسه، 29/103.

[49] نفسه، 29/104.

[50] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/266-268.

[51] التحرير والتنوير، 29/104.

[52] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/267.

[53] التحرير والتنوير، 29/104-105.

[54] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/269.

[55] التحرير والتنوير، 29/105.

[56] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/269.

[57] التحرير والتنوير، 29/105.

[58] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/270.

[59] التحرير والتنوير، 29/105-107.

[60] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، 30/617 ، دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ.

[61] التحرير والتنوير، 29/106.

[62] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/270.

[63] نفسه، 1/274.

[64] صحيح الجامع الصغير وزياداته، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، 2/761، المكتب الإسلامي.

[65] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/274.

[66] نفسه، 1/275.

[67] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/42.

[68] لسان العرب، 10/144-145.

[69] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/42.

[70] التحرير والتنوير، 29/107-108.

[71] في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/2671.

[72] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/273.

[73] التحرير والتنوير، 29/108-109.

[74] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/202.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق