مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة الثانية عشرة: في ظلال سورة الفاتحة

تمهيد:

سنقف في هذه الحلقة تحت ظلال سورة «الفاتحة» لننظر في جانبها اللغوي والأسلوبي والبلاغي لنرى كيف ارتقت هذه السورة إلى مرتبة البيان القرآني، وذلك انطلاقا من كتاب (إعراب القرآن الكريم وبيانه) لمحمود الدرويش –رحمه الله-.

وقد ذكر بعضهم لهذه السورة بضعة وعشرين اسما، وهي السورة التي نفتتح بها صلاتنا ولا تجوز إلا بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» أي منقوصة مخدوجة. فما الحكمة من جعل هذه السورة فاتحة القرآن وفاتحة كل صلاة؟، وكيف ترابطت أجزاؤها في نظام لغوي وأسلوبي وبلاغي معجز؟.

التأليف في سورة «الفاتحة»:

اعتنى العلماء قديما وحديثا بسورة «الفاتحة» عناية بالغة وتناولوها من جميع جوانبها، بحيث لا يخلو تفسير قديم أو حديث من الحديث عنها، بل قد خصها قوم من العلماء بالتأليف، ونذكر فيما يلي مجموعة هامة من المؤلفات التي اعتنت بهذه السورة:

– إعجاز البيان في تفسير أم القرآن «سورة الفاتحة»، للإمام المحقق الشيخ ‏صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي (ت: 673هـ).

– تفسير سورة الفاتحة، للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ).

– تفسير سورة الفاتحة، للحافظ بن رجب البغدادي ثم الدمشقي (ت: 795هـ).

– الطيبة الرائحة في تفسير سورة الفاتحة، لأبي الحسن علاء الدين علي بن محمد بن سعد الحلبي المعروف بابن خطيب الناصرية (ت: 843هـ).

– تفسير سورة فاتحة الكتاب ذكرى لأولي الألباب لأبي عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني الجزائري (ت: 909هـ).

– النفحة الفائحة في تفسير سورة الفاتحة، للإمام يوسف أفندي زاده أبي محمد عبد الله حلمي بن محمد بن يوسف الرومي الحنفي (ت: 1167هـ).

– تقييد في تفسير سورة الفاتحة، لأبي المواهب جعفر بن إدريس الكتاني الحسني (ت: 1323هـ).

– التحقيقات الواضحة في تفسير سورة الفاتحة وأوائل سورة البقرة وآية الكرسي، لمحمد الحسيني الظواهري (ت: 1363هـ).

– تفسير سورة الفاتحة وبيان ما تضمنته من أسرار التوحيد، لأبي عبد اللطيف حماد بن محمد الأنصاري (ت: 1418هـ).

– تفسير سورة الفاتحة، لمحمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ).

– حول تفسير سورة الفاتحة أم القرآن الكريم، للإمام عبد الله سراج الدين الحسيني (ت: 1422هـ).

– تفسير سورة الفاتحة: أم الكتاب، للدكتور نور الدين عتر (ت: 1442هـ).

– سورة الفاتحة دراسة تأصيلية في اللغة والتفسير، للدكتور حمدي بخيت عمران.

– الفاتحة أم القرآن وسر الصلاة تفسير وتأمل، لصالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

– الجامع في تفسير سورة الفاتحة، للدكتور عبد الجبار بن عبد العظيم بن محمد آل ماجد.

– تكرار سورة الفاتحة: القوة الكامنة للدكتور إبراهيم بن عبد الله الدويش.

– تفسير سورة الفاتحة، للدكتور ياسر محمد بيومي.

– تفسير سورة الفاتحة، للدكتور الشيخ عبد الله سلقيني.

– تفسير سورة الفاتحة، لعبد الله بن عمر بن دهيش.

– النظرات الماتعة في سورة الفاتحة، لمرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني.

– من هدايات سورة الفاتحة للأستاذ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر.

هذا ما وقفت عليه من الكتب التي خصت سورة «الفاتحة» بالتأليف، وقد يكون فاتني بعضها إذ لا أدعي الإحاطة بها جميعا، والملاحظ أن معظمها جاء بعنوان «تفسير» بمعناه العام والشامل، وقل من انبرى إلى دراسة جانب محدد من جوانب التفسير المتشعبة، مثل دراسة الإعجاز لغويا وبلاغيا، واستخراج التأملات والأسرار.

اللغة في سورة «الفاتحة»:

(الْحَمْدُ): الثناء بالجميل، والنداء عليه باللسان، والشكر هو: الثناء على النعمة خاصة، فبينهما عموم وخصوص(1)، فحَمدُ الله: الثَّنَاءُ عليه، ويكونُ شُكْراً لِنِعَمه الَّتِي شَمِلَت الكُلّ. والحمْدُ أَعمُّ من الشُّكْر(2). وذكر بعضهم أنه الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة(3).

وقد ذكر حبنكة الميداني أن تعريف بعض أهل العلم له: «بأنه الثناء باللسان على الجميل الاختياري» تعريف قاصر، لأن صفات الله الذاتية الأزلية تحمد، مع أنها ليست من أفعاله الاختيارية، ولأن القلب والنفس قد يتحدثان بالحمد ولو لم يتحرك اللسان بعبارة الحمد(4).

(رَبِّ) الرَّبُّ: الرَّبُّ يُطْلَقُ فِي اللُّغَة على المَالِكِ، والسَّيِّدِ، والمُدَبِّرِ، والمُرَبِّي، والمُتَمِّمِ(5).

والمربي: الذي يسوس من يربيه ويدبره، فهو اسم فاعل حذفت ألفه، كما قيل: بارّ وبرّ. وقيل: مصدر وصف به، ويقيّد بالإضافة نحو: رب الدّار، من ربّه يربّه. وقيل: هو صفة مشبّهة مصوغة من فعل متعدّ، فلا بد من تقديره لازما بالنقل إلى فعل بالضم(6).

وقال صاحب (الكشاف): «ولم يطلقوا الرب إلا في اللَّه وحده، وهو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم: رب الدار، ورب الناقة»(7)، ورد عليه ابن عاشور بقوله: «وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس:

أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ /// لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ

وسموا العزى الربة. وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان(8).

وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضا حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي) [يوسف: 23] إذا كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) [يوسف: 39] فهذا إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب(9).

والربوبية هي الوصف الجامع لكل صفات الله ذات العلاقة والأثر في مخلوقاته، واسم «الرب» هو الاسم الدال على كل هذه الصفات(10)، وقد جاء وصفه في القرآن الكريم ببعض هذه الصفات مثل: رب السماوات والأرض- رب المشرق والمغرب- رب العالمين كما في هذه السورة، فما المراد منها؟

(الْعَالَمِينَ): جمع عَالَم -بفتح اللام- وجمع جمع المذكر السالم العاقل تغليبا، والمراد به جميع الكائنات، ولذلك أدرجه النّحاة فيما ألحق بجمع المذكر. والنّكتة فيه هي: أن هذا اللفظ لا يطلق عند العرب على كل كائن وموجود كالحجر والتراب، وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه، فيقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات. والعالم لا واحد له من لفظه، ولا من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة(11).

وكلمة «عَالَم» تطلق على كل موجود سوى الله عز وجل، وهو مأخوذ من «العلم» و«العلامة» بمعنى الشيء الذي يوضع ليكون دالا على شيء آخر، كالأعلام التي توضع للدلالة عن الطرق، أو حدود الأرض، أو غير ذلك. وقد دل الفكر على أن كل ما سوى الله عز وجل من كائنات هي مخلوقات دالات على خالقها، وعلى جملة من صفاته الحسنى، فهي آيات وعلامات دالات عليه، فكان من المناسب أن يطلق على ما سوى الله عز وجل لفظة «عَالَم»(12).

(الدِّينِ): الجزاء. ويوم الدّين: يوم الجزاء، ومنه قول العرب: «كما تدين تدان» وقول الشاعر:

وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ///نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

والدّين أيضا: الطاعة، كقوله تعالى «في دين الملك»، والدّين أيضا: الملّة، قال المثقّب العبديّ:

تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ///أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي(13)

والمقصود بيوم الدين يوم القيامة، ومبدأ الدار الآخرة.

(الصِّراطَ): الطّريق (14)، أو الطّريق الواضح والمنهاج، قال جرير:

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ///إِذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

وفي الصراط أربع لغات: السّراط بالسّين، من سرط الشيء إذا بلعه وسمي الطريق سراطا لجريان الناس فيه كما يجري الشيء المبتلع، والصراط، وبالزاي خالصة، وبإشمام الصاد الزاي. وكل هذه اللغات قد قرىء به ويذكّر ويؤنّث، وتذكيره أكثر(15).

الأسلوب في سورة «الفاتحة»:

انطوت هذه السورة على فوائد لا تحصى وسنورد ما تهم معرفته منها:

1- الألف واللام في الحمد للجنس على الأصح لأن حقيقة المحامد ثابتة لله تعالى(16)، وهي تعم كل أجناس الحمد وأنواعه وأصنافه وأفراده(17).

2- وسميت هذه السورة «الفاتحة» لأنها أول القرآن وبراعة استهلاله(18)، ولأن القراءة تفتتح بها، ولهذا افتتح الصحابة بها كتابة المصحف الإمام(19).

وهي مكية على الأصح، إذ نزلت في أوائل العهد المكي، وهي السورة الخامسة بحسب ترتيب النزول، كما هو مدون لدى علماء علوم القرآن، وهو المرجح لدى العلماء بروايات التنزيل(20)، والأرجح أن الفاتحة هي أول سورة كاملة نزلت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعلها أول القرآن، وانعقد على ذلك الإجماع، ونزول أول سورة العلق وهو: (إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) يعتبر بمثابة تمهيد للوحي المجمل والمفصّل، فلا ينافي كونها أول سورة من القرآن، وذكر السيوطي في (الإتقان): أن أول ما نزل من آي القرآن: (إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1]، و(يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرْ) [المدثر: 1]، وسورة الفاتحة(21).

3- غَيْرِ: لفظ «غير» مذكر مفرد أبدا، إلا أنه إذا أريد به مؤنّث جاز تأنيث فعله المسند إليه، تقول: قامت غير هند، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وقد يستثنى بها حملا على إلّا، كما يوصف بإلا حملا عليها، وهي من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا، فإدخال الألف واللام عليها خطأ(22)، وذكر ابن هشام أنه يجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة «ليس»(23).

كما ذكر أن غير المضافة لفظا تستعمل على وجهين: أحدهما: -وهو الأصل- أن تكون صفة للنكرة، أو لمعرفة قريبة منها نحو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)؛ لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة، ولأن غيرا إذا وقعت بين ضدين ضعف إبهامها(24).

4- آخر الفاتحة (وَلَا الضَّالِّين) وأما لفظ آمين فليس منها ولا من القرآن مطلقا وهو اسم بمعنى استجب ويسنّ ختم الفاتحة به وفيه لغتان: المدّ والتقصير قال أبو نواس في المد:

صَلَّى الإِلَهُ عَلَى لُوطٍ وَشِيعَتِهِ /// أَبَا عُبَيْدَةَ قُلْ بِاللهِ: آمِينَا

وقال آخر في القصر:

تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ /// أَمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا

والسنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواترا قد دلت على مشروعية التأمين عقب الانتهاء من تلاوة الفاتحة(25).

الترابط في سورة «الفاتحة»:

لقد تحقق الترابط اللفظي والمعنوي في هذه السورة على مستويات أهمها:

البؤرة: غالبا ما يرتكز بناء السور في القرآن الكريم على بؤرة تخدم أجزاء النص وتوحده، كما في سورة الفاتحة التي تعود في مجملها إلى جملة (الحَمْدُ لِلَّهِ)؛ فقد أثبت بقوله (الحَمْدُ لِلَّهِ) أنه المستحق لجميع المحامد، وأشار بعد ذلك إلى أنه يستحق الحمد من حيث كونه ربا مالكا منعما، ومن حيث كونه رحمانا رحيما، ومن حيث كونه مالكا ليوم الدين، ومَنْ هذه صفاته حقيق بأن يعبد، ولا تتهيأ عبادته إلا بمعونته والاستعانة به، وطلب الهداية على الطريق المستقيم مع أحسن رفيق، والاستعاذة من الذين خالفوا وضلوا هذا الطريق، وهو بذلك أيضا يحمد، فالحمد هو البؤرة في معنى الكلام كله.

الربط المعنوي: سورة الفاتحة من قصار السور في القرآن الكريم لكنها شاملة لأهم موضوعات القرآن، وقد تحقق الربط بين أجزاء هذه السورة مع قلة عدد الروابط اللفظية، «فكلما قلت الروابط اللفظية مع بقاء الربط وشدة التماسك اكتمل المعنى وعلا، وكلما كثرت مع إمكان الاستغناء عنها وبقائه، تناقصت درجات التماسك والبلاغة. لأن تقليل الروابط اللفظية يفسح المجال للروابط العقلية والعلاقات الذهنية والقيود المنطقية لتقوم مقام الأدوات اللفظية وتسد مسدها وتغني عنها»(26)، ومن بين هذه العلاقات:

الإسناد: فقد أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي، ثم عقبه بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلق متعلق أيضا، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِين) [المطففين: 6] ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته كما يقول ابن عاشور في (التحرير والتنوير)، وعقبه بعد ذلك أيضا بوصفي الرحمن والرحيم ومالك يوم الدين التي ارتبطت باسم الجلالة بقرينة الوصفية.

الاستئناف: وفيه ابتداء معنى جديد مرتبط جزئيا ببؤرة المعنى في السورة وهو الحمد؛ فإذا أتم الحامد حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا الكلام استئناف ابتدائي(27)، وهذا مظهر واحد من مظاهر الاستئناف في السورة، والاستئناف من مظاهر التماسك النصي البليغ.

الالتفات: وذلك بالانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدأ من قوله: (الحَمْدُ لِلَّهِ) إلى

قوله: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة، وهذا الالتفات يحقق معنى بديعا، فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات -كما رأينا- بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، وسنفصل الكلام فيه عند الحديث عن أفانين البلاغة في سورة الفاتحة.

التفصيل بعد الإجمال: وذلك في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وهو من دواعي الفصل، كما أنه يحقق الربط بين أجزاء الكلام من خلال العلاقات المعنوية التي لها أثر بارز في انسجام النص، وقد جاء نظم الآية بهذا الأسلوب لفائدتين معنويتين أولهما: التأكيد «ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي»(28)، والثانية: التفسير والتبيين بعد الإبهام، ذلك أنه لما ذكر قبل (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) كان فيه بعض إبهام، فعينه بقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ) ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين(29)، ليري المتكلم المخاطب المعنى في صورتين مختلفتين، إحداهما مبهمة والأخرى موضحة، وهذا أمر مستحسن، كعرض الحسناء في لباسين، وعلمان خير من علم، ؛ لأن فيه إدراك الشيء من جهة الإبهام ثم من جهة التفصيل(30)، وقد أفاد هذا التأكيد أيضا عظمة هذا الطريق.

التسلسل في التعبير من الأعم إلى الأخص فالأخص: في عبارات متتابعات، وقد فصل القول فيها حبنكة الميداني في (معارج التفكر ودقائق التدبر):

– فعبارة: (الحَمْدُ لِلَّهِ) تضمنت إثبات كل صفات ذات الله وأفعاله وثناء على الله بها.

– وعبارة: (رَبِّ العَالَمِينَ) تضمنت إثبات كل صفات ربوبية الله لخلقه، وثناء على الله بها، وهي أخص من كل صفات الله عز وجل.

– وعبارة (رَبِّ العَالَمِينَ) تضمنت إثبات كل صفات رحمته وثناء على الله بها، ومنها أنه الرزاق الفتاح الرؤوف المغني النافع الهادي العفو الغفور البر التواب، وهذ أخص من صفات ربوبيته جل جلاله.

– وجاءت عبارة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أخص من عبارة (رَبِّ العَالَمِينَ) لأن هذه تعم الدنيا والآخرة(31).

 وهذا التسلسل في المعنى أغنى الكلام عن كثرة الروابط اللفظية كما ترى.

ترتيب الكلام: على وجه من التناسب في المعنى، وقد أشار إليه أبو حيان في (البحر المحيط)، قال: «والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية، وصفة الرحمة، ثم ذكر شيئين أحدهما ملكه يوم الجزاء، والثاني العبادة، فناسب الربوبية للملك، والرحمة العبادة، فكان الأول للأول، والثاني للثاني»(32).

تقديم العام على الخاص: في تقديم العبادة على الاستعانة، اهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده، ولأن العبادة هي المقصود الأعظم من العبد، والاستعانة وسيلة إليها(33).

الحذف: وهو من وسائل الترابط النصي التي لها دور في تماسك أجزائه، فقد حذف الله سبحانه وتعالى ما أنعم به على متبعي صراطه المستقيم وبقي معنى النعمة عاما شاملا، قال: «وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى»(34).

وإلى جانب الربط المعنوي فقد تعزز بناء السورة بروابط لفظية متينة نذكر منها:

لام الاختصاص: في قوله تعالى (الحَمْدُ لِلَّهِ)، وهي تفيد اختصاص الحمد بالله تعالى وقصره عليه.

لفظ «إياك»: وهو رابط يفيد الحصر، وقد دل هنا على إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، والحصر في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله تعالى، أما الحصر في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فهو حصر ادعائي للمبالغة، لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم.

وفي سر إتيان (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بغير واو عطف على الحمد السابق، ذكر ابن رجب أن الحمد والعبادة لما كانا من قبيل واحد أجريت على الأولى كالتأكيد لها والبيان، ولذلك لم يتوسط بينهما حرف عطف(35).

نون الجماعة: في (نَعْبُدُ) و(نَسْتَعِينُ) و(اهْدِنَا) وفي التعبير بنون الجماعة تعميق لمعنى الجماعة الربانية الواحدة، في قلب كل مؤمن مسلم لله جل جلاله(36).

واو العطف: في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهذا القيد اللفظي استوجبه داع معنوي، إذ لم تفصل عن جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلا أو بعضا، للإشارة إلى خطور الفعلين جميعا في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضا مع تخصيصك بالعبادة(37).

تكرار لفظ «إياك»: فقد أعيد لفظ (إياك) في الاستعانة دون أن يعطف فعل نستعين على نعبد مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا، فالحصر في إياك نعبد حقيقي، والقصر في إياك نستعين ادعائي كما ذكرنا سابقا، فالتكرار هنا مع غير طول الفاصل لإظهار الفرق. وهذا المعنى الدقيق في الفرق بين الحصرين في العبارتين استوجب تكرار لفظ (إياك) ليختص كل لفظ بفعله.

مناسبة اسم السورة لمضمونها:

إن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالا على تفصيل ما فيه(38)، لذلك جاءت «سورة الفاتحة» فاتحة القرآن الكريم، وهي منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة كما يقول ابن عاشور في (التحرير والتنوير)، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.

فقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله(39). فقد علمنا الله تعالى بهذه الجملة القصيرة (الحَمْدُ لِلَّهِ) كيف نحمده تعالى ونثني عليه جل جلاله، فنحن بوصفنا بشرا محدودي المدارك، لا نستطيع أن ندرك من كمالات الله إلا على مقدارنا، إذن فنحن لا نستطيع أن نحصي الثناء عليه بما هو له أهل على وجه التفصيل، لكن نستطيع أن نقول: كل الحمد الذي يمكن أن يحمد به الله هو له وحده لا يشاركه فيه أحد، ولدى اختصار هذه العبارة إلى أقل الكلمات الدالات عليها نقول: (الحَمْدُ لِلَّهِ) (40).

ونوضح هذه القواعد التأصيلية للمقدمة أو الديباجة استنباطا من سورة الفاتحة من خلال رسم توضيحي كالتالي:

 

فافتتاح الكلام بالتحميد سنة سنها الله تعالى في كتابه المجيد، والإيجاز سمة القرآن الكريم كله والمقدمة أدعى لذلك، وفي براعة الاستهلال يشار إلى الغرض المقصود أصلا، كل ذلك مع مراعاة أن يكون الكلام من جوامع الكلم.

وهذا ما سار عليه خطباء العرب وكتابهم بعد الإسلام، فقد تأثر أسلوبهم في الكتابة بأسلوب القرآن الكريم وهو الأفق الأعلى من روعة البيان، بعد أن انكبوا عليه وطمحوا إلى محاكاة أسلوبه في كتاباتهم. فمن خرج عن هذه الأصول الأربعة في صياغة المقدمة لم يرق إلى مستوى البيان.

مناسبة سورة «الفاتحة» لسورة «البقرة»:

والمقصود مناسبة مجيء سورة الفاتحة بعد البقرة في الترتيب المصحفي، ذلك أنه لما أخبر سبحانه وتعالى أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذي هو غير طريق الهالكين، أرشدهم في أول التي تليها إلى أن الهدى المسؤول إنما هو في هذا الكتاب، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حثا على التخلق بها والممنوعين منها زجرا عن قربها. فكان ذلك من أعظم المناسبات لتعقيب الفاتحة بالبقرة، لأنها سيقت لنفي الريب عن هذا الكتاب ولأنه هدى للمتقين، ولوصف المتقين وما يجازون به بما في الآيات الثلاث، ولوصف الكافرين الذين لا يؤمنون لما وقع من الختم على حواسهم، والحتم لعقابهم ليعلم أن ما اتصف به المتقون هو الصراط المستقيم فيلزم، وما اتصف به من عداهم هو طريق الهالكين فيترك، وفي الوصف بالتقوى بعد ذكر المغضوب عليهم والضالين إشارة إلى أن المقام مقام الخوف(41)، وقد كان من أعظم مقاصد سورة البقرة إقامة الدليل على أن القرآن هدى للناس.

المعاني في سورة «الفاتحة»:

نعرض في هذا المحور أهم ما تضمنته سورة الفاتحة من المعاني الجليلة السامية، ونقتصر على معنيين اثنين:

1- أصول الوعظ والإرشاد:

لقد تضمنت سورة الفاتحة على إيجازها أصولا عظيمة للوعظ والإرشاد، أولها: التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). الثاني: التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). الثالث: الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ). الرابع: الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). الخامس: التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). السادس: التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال، لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه (وَلَا الضَّالِّينَ).

وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد(42).

2- مناجاة الخالق:

من المعاني السامية التي تضمنتها هذه السورة مناجاة الخالق سبحانه وتعالى، وهذه السورة «مختصة بمناجاة الرب تعالى، ولهذا اختصت الصلاة بها، فإن المصلي يناجي ربه، وإنما يناجي العبد ربه بأفضل الكلام وأشرفه»(43)، والمناجاة في هذه السورة على أربعة مستويات كبرى متوالية يفضي بعضها إلى بعض:

1- تمجيد الله تعالى وحمده ووصفه بصفات الجلالة، «وهي المبادئ الإيمانية التي يجب أن يؤمن بها الذين خلقهم الله عز وجل ليبلوهم في رحلة الحياة الدنيا وظروفها»(44).

2- مناجاة الله تعالى بإفراده بالعبادة وإفراده بالاستعانة في كل أمر وعمل، وهذا «هو مطلوب الله من عباده الذين وضعهم موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا»(45).

3- طلب الهداية من الله سبحانه وتعالى إلى «الدين الذي اصطفاه الله لعباده الذين وضعهم موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا، وجعله الصراط المستقيم لمن شاء أن يسلكه بغية الفلاح والفوز يوم الدين، يوم الحساب وفصل القضاء وتنفيذ الجزاء»(46).

4- «تاريخ الموضوعين موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا منذ نشأتهم الأولى، وإلى أن تقوم الساعة، تجاه مطلوب الله عز وجل منهم في رحلة امتحانهم»(47).

وهذه المستويات التي جاءت مجملة في سورة «الفاتحة» وورد تفصيلها الوافي في سائر سور القرآن الكريم، ولذلك سميت الفاتحة «أم القرآن».

أفانين البلاغة في سورة «الفاتحة»:

اشتملت هذه السورة، على قصرها، على أفانين متعددة من البلاغة قال أبو حيان في البحر: «وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ الوافر من علم الأدب، وكان عالمًا بافتتان الكلام، قادرا على إنشاء النثار البديع والنظام»(48)، وفيما يلي بعض هذه الفنون:

1- جملة (الحَمْدُ لِلَّهِ) خبر لكنها استعملت لإنشاء الحمد، وفائدة الجملة الاسمية ديمومة الحمد، واستمراره، وثباته(49).

فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيء من ذلك لا يمكن حصوله بصيغة إنشاء نحو حمدا لله أو أحمد لله حمدا(50)، وقد سماه أبو حيان تلوين الخطاب.

فقد استفتح الله تعالى السورة بالثناء عليه عز وجل، والثناء قسمان كما قال صاحب (البرهان): إثبات لصفات المدح؛ ونفي وتنزيه من صفات النقص، والثناء في هذه السورة يدخل في القسم الأول(51).

وقد وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، والحال أن الحمد قدم لأن المقام هنا مقام الحمد، إذ هو ابتداء أولى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين(52).

2- فنّ التّقديم: في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فقد قدّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة بالله وحده، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة ثمرتها، وإعادة (إياك) مع الفعل الثاني تفيد أن كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كل منهما الآخر، ولأن الكاف التي مع (إيّا) هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل، أعني بقوله: (نعبد) لو كانت مؤخرة بعد الفعل، وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل، فَكُثِّرَتْ ب (إيّا) متقدمة وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل(53).

وقد يكون التقديم للاعتناء والاهتمام بالمفعول كما يرى أبو حيان(54)، والقرطبي أيضا: «إن قيل: لم قدَّم المفعول على الفعل؟ قيل له: اهتمامًا، وشأنُ العرب تقديم الأهم»(55).

أما الحصر المستفاد من التقديم في قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره(56).

3- فن الاختصاص: في قوله (الحَمْدُ لِلَّهِ)، للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به وكذلك بالإضافة في قوله (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لزوال المالكين والأملاك عن سواه في ذلك اليوم(57).

قال ابن عاشور: «ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبىء عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك»(58).

4- فن الالتفات: في هذه السورة فن الالتفات من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ومن لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة، والغرض من هذا الفن التّطرية لنشاط الذهن جريا على أساليبهم، قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: «أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد»(59).

ذلك أنه لما أثنى على الله بما هو أهل له، وأجرى عليه تلك الصفات العظيمة، ساغ له أن يطلب الاستعانة منه بعد أن مهد لذلك بما يبرر المطالبة وهو –تعالى- خليق بالاستجابة، وللإشعار بأن أولى ما يلجأ إليه العباد لطلب ما يحتاجون إليه هو عبادته تعالى والاعتراف له بصفات الألوهية البالغة، وقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فأصرح الخطاب لما ذكر النّعمة، ثم قال: (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فزوى لفظ الغضب عنه تحنّنا ولطفا، وهذا غاية ما يصل إليه البيان. وهذه مراتب الالتفات في هذه السورة:

أ- عدل عن الغيبة إلى الخطاب بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بعد قوله: (الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)؛ لأن الحمد دون العبادة في المرتبة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده، فلما كانت الحال بهذه المثابة استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر، ولم يقل الحمد لك.

ب- ولما صار إلى العبادة وهي قصارى الطاعات قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقرّبا منه عزّ وجلّ بالانتهاء إلى عدد محدود منها.

قال أبو حيان في البحر: «ونظير هذا أن تذكر شخصًا متصفًا بأوصاف جليلة، مخبرًا عنه إخبار الغائب، ويكون ذلك الشخص حاضرًا معك، فتقول له: إيّاك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود، ما لا يكون في لفظ إيّاه»(60).

ح- وعلى نحو من ذلك جاء آخر السّورة فقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال: (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) عطفا على الأول؛ لأن الأول موضع التقرّب من الله بذكر نعمه وآلائه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب، فأسند إليه النعمة لفظا، وزوى عنه لفظ الغضب تحنّنا ولطفا(61).

ومن أبرز ما ذكر في توجيه هذا التحول في الخطاب ما ذكره الدكتور حسن طبل في كتابه «أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية»:

* أن الآيات الثلاث الأولى ثناء على الخالق عز وجل، والثناء في الغيبة أولى، أما الآية الرابعة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ …) فهي دعاء والدعاء في الحضور أولى.

* أن المصلي يكون أجنبيا عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة، ثم إنه تعالى كأنه يقوله له: حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحيما مالكا ليوم الدين فنعم العبد أنت، قد رفعنا عنك الحجاب فتكلم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد.

* أن ذكر صفات الخالق عز وجل يستتبع العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة.

* أن العبد عند شروعه في الصلاة ينوي حصول القربة، فإذا ما ذكر بعد هذا الشروع أنواعا من الثناء على الله اقتضى كرمه سبحانه إجابته في تحصيل تلك القربة من مقام الغيبة إلى مقام الحضور.

* أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا ما عرفوه بما هو له، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه تأهلوا لمخاطبته ومناجاته(62).

وقد أتى بنون الجمع في قوله: (نعبد) و(نستعين) والمتكلم واحد لنكت بلاغية نذكر منها ما ذكره المؤلف محمود الدرويش –رحمه الله- قال: «لأنه ورد في الشّريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخيّر بين ردّ الجميع أو إمساكه وليس له تبعيض الصّفقة، بردّ المعيب وإبقاء السّليم، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة بل جنح إلى ضمّ عبادة جميع العابدين إليها وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها لأنّ الجميع لا يردّ البتّة، إذ بعضه مقبول وردّ المعيب، وإبقاء السليم تبعيض للصفقة وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم فبقي قبول الجميع»(63)، ومنها ما ذكره ابن عاشور أيضا في (التحرير والتنوير) في وجه العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك للدلالة «على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله»(64)، وفيه أيضا مناسبة لأول السورة فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره، ومناسبة أيضا لما بعده وهو الدعاء في قوله (اهدنا).

5- براعة الاستهلال: وهو من أرقّ فنون البلاغة وأرشقها، وحدّه أن يبتدىء المتكلم كلامه بما يشير إلى الغرض المقصود من غير تصريح بل بإشارة لطيفة، وإيماءة بعيدة أو قريبة(65)، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ووصفه بما له من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظام(66)، وقد ذكرنا أيضا مناسبة افتتاح القرآن بالفاتحة.

6- الاستعارة التّصريحيّة: في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدقّ انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة؛ لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين، ووجه الشبه بينهما أن الله سبحانه وإن كان متعاليا عن الأمكنة، لكن العبد الطالب الوصول لا بد له من قطع المسافات، ومس الآفات، ليكرم بالوصول والموافاة(67)، ووصف بالمستقيم لأن الصراط المستقيم هو أقرب مسلك موصل بين مبدأ وغاية(68).

والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه(69).

7- التفسير بعد الإبهام: وذلك في قوله تعالى: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (70)، وقد نسميه تفصيلا بعد إجمال، ذكره المؤلف محمود الدرويش –رحمه الله- في أفانين البلاغة، وقد تحدثنا عنه عند حديثنا عن وسائل الربط في السورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/28.

2- تاج العروس 8/38.

3- التحرير والتنوير 1/154.

4- معارج التفكر 1/287.

5- تاج العروس 2/459.

6- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/28- 29.

7- الكشاف 1/10.

8- التحرير والتنوير 1/167.

9- نفسه 1/167- 168.

10- معارج التفكر 1/291.

11- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/29.

12- معارج التفكر 1/291- 292.

13- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/29.

14- تاج العروس 19/437.

15- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/29.

16- نفسه 1/34.

17- معارج التفكر 1/288.

18- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/34.

19- معارج التفكر 1/279.

20- نفسه 1/280.

21- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/35.

22- نفسه 1/34.

23- مغني اللبيب 1/216.

24- نفسه 1/217.

25- معارج التفكر 1/314.

26- النص الذي نحيا به: قضايا ونماذج في تماسك النص ووحدة بنائه ص:15.

27- انظر التحرير والتنوير 1/178.

28- نفسه 1/192.

29- البحر المحيط 1/147.

30- من أسرار الجمل الاستئنافية: دراسة لغوية قرآنية ص: 93.

31- معارج التفكر 1/315.

32- البحر المحيط 1/133.

33- تكرار الفاتحة القوة الكامنة ص: 89.

34- نظم الدرر 1/18.

35- تفسير الفاتحة لابن رجب ص: 96.

36- انظر: معارج التفكر 1/299.

37- التحرير والتنوير 1/183- 184.

38- نظم الدرر 1/12.

39- انظر: التحرير والتنوير 1/153.

40- انظر: معارج التفكر 1/288.

41- نظم الدرر 1/32.

42- التحرير والتنوير 1/152.

43- تفسير الفاتحة لابن رجب ص: 49.

44- معارج التفكر 1/285- 286 .

45- نفسه 1/286.

46- نفسه 1/286.

47- نفسه 1/286.

48- البحر المحيط 1/152.

49- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/34.

50- التحرير والتنوير 1/162.

51- انظر: البرهان في علوم القرآن 1/120.

52- انظر: التحرير والتنوير 1/131.

53- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/31.

54- البحر المحيط 1/141.

55- الجامع لأحكام القرآن 1/146.

56- التحرير والتنوير 1/185.

57- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/31.

58- التحرير والتنوير 1/177.

59- مفتاح العلوم ص: 199.

60- البحر المحيط 1/141.

61- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/32.

62- أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية ص: 106- 107.

63- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/31- 32.

64- التحرير والتنوير 1/186.

65- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/33.

66- البحر المحيط 1/152.

67- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/33.

68- معارج التفكر 1/302.

69- التحرير والتنوير 1/190.

70- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/34.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، للدكتور حسن طبل، منشورات دار الفكر العربي، سنة: 1998م.

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، دراسة وتحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الثالثة: سنة 2010م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

– البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، سنة 1430هـ/ 2009م.

– تاج العروس من جواهر القاموس، للزَّبيدي، حققه مجموعة من المحققين، مطبعة حكومة الكويت.

– التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، منشورات الدار التونسية للنشر، تونس، سنة النشر: 1984هـ.

– تفسير الفاتحة للحافظ بن رجب، تحقيق: سامي بن محمد بن جاد الله، الطبعة الثانية: 1439هـ/ 2018م، منشورات مركز «ثبت» للبحوث والدراسات.

– تكرار الفاتحة القوة الكامنة، للدكتور إبراهيم بن عبد الله الدويش، الطبعة الأولى: 1435هـ/ 2014م، منشورات دار الميمان.

– الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، راجعه وضبطه وعلق عليه: محمد إبراهيم الحفناوي، منشورات: دار الحديث، القاهرة، سنة 1428هـ/ 2007م.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– معارج التفكر ودقائق التدبر، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الأولى: 1420هـ/ 2000م، منشورات دار القلم، دمشق.

– مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، تحقيق الدكتور صلاح عبد العزيز علي السيد، الطبعة الثانية: 1429هـ/ 2008م، منشورات دار السلام.

– مفتاح العلوم، للسكاكي، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه: نعيم زرزور، الطبعة الثانية: 1407هـ / 1987م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

– من أسرار الجمل الاستئنافية دراسة لغوية قرآنية، للدكتور أيمن عبد الرزاق الشوا، الطبعة الأولى: 1430هـ/ 2009م، منشورات دار الغوثاني للدراسات القرآنية، دمشق.

– النص الذي نحيا به –قضايا ونماذج في تماسك النص ووحدة بنائه-، للدكتور عبد الرحمن بودرع، الطبعة الأولى: 1439هـ/ 2018م، منشورات جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان.

– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الثالثة: 1427هـ/ 2006م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق