مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته في تفسير ابن عادل الحنبلي -اللباب في علوم الكتاب- الحلقة الأولى

 

أحمد اللهَ المُنعم علينا بما لا يقوم بشُكره لِسان، ولا يسع فضلَه جَنان، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد الهادي من الضلال إلى الحق المبين، وعلى آله وصحبه ومَن تبع سنته إلى يوم الدين، أما بعدُ:

فهذه حلقات أنشرها، إن شاء الله، تكون مشتملةً على جملة من المباحث في لغة القرآن الكريم وما له اتصالٌ بعلوم العربية. وقد جعلت متنَ هذه المباحث التي أشتغل بها كتابا جامعا لهذه العلوم، هو كتاب «اللُّباب في علوم الكتاب» لابن عادل الدمشقي الحنبلي [توفي بعد 880 هـ](1)، وهو في أصله كتاب تفسير، جمع بين كثير من العلوم خدمةً للقرآن الكريم وتوصّلا بها إلى فهمه الفهمَ الذي يُوافق مرادَ الله تعالى منه.

وقد كانت العربية لسانَ قوم نزل فيهم القرآن الكريم متحدّيا إياهم ببلاغته وإعجازه، فأقرّ فريق منهم بذلك وأسلم، وجحد فريق آخر وكفر. ثم جاء العلماء بعد ذلك ليُبينوا وجوه إعجاز هذا الكتاب الذي لم يزل على تطاول الأيام ومر الليالي يعلو ولا يُعلى عليه، فأدركوا بدقيق نظرهم هذه الوجوه البلاغية والمواضع الإعجازية، فأثبتوها في كتبهم لتكون شاهدا على دقة نظرهم وبُعد غَورهم في البحث عن مكنون الآيات الباهرة والدلائل القاهرة.

وسأُحاول فيما يأتي من الكلام استخراج بعض ما حواه كتاب اللباب لابن عادل من هذه الوجوه التي لها صلة بلغة القرآن الكريم وإعجازه، عارضا ذلك على كتب العلماء المتقدمين أو المتأخرين على حسب الحاجة إلى ذلك، ومسترشدا بما أودعوه كتبَهم من نظرات في الموضوع، لا يُغني بعضها عن بعض. ونبدأ بما بدأ به المؤلف تفسيره، وهو الاستعاذة، ثم نقف على ما نراه يدخل في هذا الموضوع أو يكون مُسعفا في الوقوف على بعض دقائقه ولطائفه.

* الاستعاذة:

 تكلم المؤلف رحمه الله في بدء تفسيره عن الاستعاذة وما يتعلق بها من علوم، صرفا ونحوا واشتقاقا وفقها وغير ذلك يُفيد في توجيه ألفاظها وبناء الأحكام على معانيها، وجاء ذلك مفرقا في أول الكتاب، فحاولت جمع ما تفرق منه مرتبا فصوله.

وقد جعل المؤلف أصل اشتقاق الاستعاذة من معنيين: أحدهما الالتجاء والاستجارة، ومنه اشتقاق العوذة بالفتح والضم، وهي ما يُستعاذ به من الشر، وكان أهل الجاهلية يضعونها على الصبي. والثاني: الالتصاق، ومنه قولهم: أطيب اللحم عوّذُه، وهو ما عَذَا باللحم ولَزِمَه(2).

أما الشيطان، فذكر أنه مشتق من «شطن يشطن» لثبوت نونه في تصاريفه، أو من «شاط يشيط»، أي: هاج واحترق، وهذا المعنى متضمن فيه أيضا.

قلت: وحكى سيبويه في الكتاب: تشيطن(3)، فدل على أنه يُصاغ منه الفعل مع ثبوت النون فيه.

ونقل المؤلف أن الرجيم هنا فَعيل بمعنى فاعل، قيل: وهو بمعنى راجم، أي: يرجم الناس بالشر، وهو وارد عنهم. والأكثر على أنه فَعيل بمعنى مفعول، فهو مرجوم، أي: مطرود ملعون. وقيل أيضا: مشتوم، واستدلوا عليه بالآية: {لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}[مريم: 46]، أي: لأشتُمنَّك ولَأَسُبَّنَّك.

أما القول في إعراب الاستعاذة على الصيغة المشهورة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فمعروف، وقد أفاد المؤلف أن حرف الجر «مِن» للتعليل أو لابتداء الغاية، والباء فيها للاستعانة.

ومما يتعلق بالاستعاذة على وجه المعنى ويكون فيه الحكم الفقهي على شرط كلمة، إما من حيث معناها اللغوي أو موقعها من الإعراب، اختلافُهم في موضع الاستعاذة من الصلاة، فقالوا: قبل القراءة، وقالوا: بعدها، وقالوا قبلها وبعدها جمعًا بين الأقوال واحترازا من فوت الأجر. وهذا الخلاف واقع في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله منَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، فالجمهور على تقديم الاستعاذة، وقد قال المؤلف ذاكرا رأي مَن قال بتأخيرها: «دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكرَ الاستعاذة جزاء، والجزاءُ متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن القراءة».

وعندهم أنه لا يجوز القياس على آية الوضوء، وهي قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}[المائدة: 7]، لأن الأمر بالوضوء يكون عَقيب القيام، أما الأمر بالاستعاذة فيُحمل على ظاهر الآية: فإذا قرأت، فيلزم حصول القراءة أولا، ثم الاستعاذة.

وهذا الخلاف لا ريب أنه مبني على فهم معنى القيام أو القراءة إذا اقترنا بالشرط، وقد قال الطبري: «وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكأن معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فاقرأ القرآن، ولا وجه لما قال من ذلك، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن»(4).

قلت: وتقديم الاستعاذة أرجح للأدلة القائمة عليه، وقوله تعالى: فإذا قرأت، هو عند كثير مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للغلام: «يا بني، إذا أكلت فسم الله، ‌وكل ‌بيمينك، ‌وكل ‌مما يليك»(5). ولا خلاف في أن معناه: إذا أردت الأكل، فيكون قوله: «فسمِّ اللهَ» مطلوبا قبل الأكل، لا بعده.

ومثله أيضا في القرآن: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} [المجادلة: 12]، وإنما هو إذا أردتم أن تُناجوا الرسولَ فقدموا. قال ابن جني: «أي: فإذا أردت قراءة القرآن فاكتفي بالمسبب الذي هو القراءة من السبب الذي هو الإرادة»(6).

وبه تعلم أن لغة القرآن أوسع من تُحمل على ظاهرها، فهي جارية على أساليب العرب في التقديم والتأخير وغيره.

فائدة:

وهي في علة قولنا: أعوذ بالله، دون قولنا: بالله أعوذ، مع أن التحميد وقع بهما معا، فنقول: الحمد لله، ولله الحمد، وبهما جاء القرآن، قال الله تعالى في ابتداء الفاتحة: {الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِين}، وقال تعالى: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ العَالَمِين}[الجاثية: 35]، فأخر في هذه وقدم في تلك.

والجواب عنه أن هذا ومثله لفظُه الخبرُ، ومعناه الدعاء، فتقديم المعمول يُفيد الحصر كما عُلم في العربية، وخرّجوه بقولهم على أن الإتيان بلفظ الاستعاذة امتثال للأمر، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، فقدم لفظ الاستعاذة وأخر لفظ الجلالة. وقيل أيضا: ولم يُسمع: ‌بالله ‌أعوذ؛ لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط، والاستعاذةَ حالُ خوف وقبض، بخلاف: الحمد لله، ولله الحمد؛ لأنه حال شكر وتذكير إحسان ونعم. وقيل كذلك: لأنه لا يعوذ إلا بالانقطاع عن الغير والتبري عن سوى الحق جل ذكره، فلا حاجة إلى التخصيص(7).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر ترجمته في: هدية العارفين (1/794)، معجم المؤلفين (7/300)، وغيرهما.

(2) انظر معاجم اللغة (عوذ).

(3) كتاب سيبويه (4/321).

(4) تفسير الطبري (14/357).

(5) مسند أحمد (26/251)، برقم: 16331.

(6) الخصائص (2/220).

(7) انظر تفصيل ذلك في كتب التفسير عند قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

– جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، لابن جرير الطبري، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر.

– الخصائص، لأبي الفتح ابن جني، تحقيق علي النجار، عالم الكتب.

– الكتاب، لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.

– مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة.

– معجم المؤلفين، لعمر بن رضا كحالة، مكتبة المثنى.

– هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل بن محمد الباباني البغدادي، دار إحياء التراث العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق