وحدة الإحياءدراسات عامة

كليات المقاصد ومسألة التصنيف

حرص التشريع الإسلامي على  مراعاة المصالح الأساسية للإنسان، وهي كليات المقاصد التي ترتكز عليها فطرة البشر، وفيها قوام كل مجتمع إنساني وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والعرض، والمال، فلا يستقر حال المجتمع إلا بالحفاظ عليها لأهميتها واستحالة الحياة بدونها، وهي مراعاة في كل الملل والنحل، كما أقر ذلك  العلماء.

 ولما كان حفظ هذه الضروريات من كبرى مقاصد الشارع فقد سلك الإسلام في الحفاظ عليها جانبين متوازيين  كما بينه الشاطبي:

فالأول؛ يكون بحفظها من جانب الإيجاد، وذلك بإقامتها، وتثبيت قواعدها حتى تكون مستمرة.

والثاني؛ يكون بحفظها من جانب العدم بما يدرأ عنها الخلل الواقع أو المتوقع عنها، بتشريع الجزاء الصارم لكل من يخرمها أو  يعتدي عليها.

وقد أولى العلماء هذه الكليات عناية بالغة الأهمية دراسة وتأصيلا، لكن وقع الخلاف في عدها وحصرها بإضافة العرض ككلية سادسة، وهي التي اعتراها نقاش كبير، بين مثبت لها في مرتبة الضروريات، أو ملحق لها لبعض الكليات في مرتبة الحاجي، فما هي حقيقة هذه الإضافة؟ و ما هو المعيار الذي استند إليه أصحاب هذا التصنيف؟ وما هو موقف الأصوليين  منه؟

ولتجلية طبيعة هذا التصنيف عند بعض الأصوليين الذين بنوا على أساسه تقسيمهم المقاصدي، ومحدداته جاءت هذه المداخلة للإجابة عن هذه التساؤلات.

أولا: نظرة عامة حول مراتب المقاصد

يعتبر الغزالي أول من أشار إلى أنواع المقاصد بشكل عام وهي:

مقاصد الخلق ومقاصد الشرع بقوله في تحديد معنى المصلحة التي هي أساس المقاصد: “فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق[1].” ثم أشار إلى النوع الثاني: “لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع[2].

وعدد، بعد ذلك، مقاصد الشرع بقوله: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة[3].”

وبنى الشاطبي على ما ذهب إليه الغزالي ثم فصل أكثر مقاصد الشارع في وضع الشريعة وهو حفظ مقاصدها في الخلق، وبين أقسامها وهي: الضرورية، والحاجية، والتحسينية.

فالضرورية؛ هي ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وإذا فقدت استحالت الحياة، وضاعت الآخرة وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل والمال، والعقل،والنسب[4].

والحاجية؛ هي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة  التي تفوت المطلوب[5].

 والتحسينية؛ هي ما لا يرجع إلى ضرورة ولا حاجة، وتقع موقع التزيين والأخذ بمحاسن العادات، وتصنف في قسم مكارم الأخلاق[6].

وقد وضع الشاطبي قواعد لضبط العلاقة بين هذه المراتب الثلاث، وبين أن كل رتبة من المراتب الثلاثة السابقة ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة؛ فالحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينيات كالتكملة للحاجيات، أما الضروريات فجعلها أصلا للمصالح كلها.

وبين أن المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية، فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختل الحاجي والتحسيني بإطلاق؛ ولكن لا يلزم من اختلال الحاجي والتحسيني اختلال الضروري بإطلاق، ولكن قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، فقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما؛ ولذلك فإنه إذا حوفظ على الضروري، فينبغي المحافظة على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي، فينبغي أن يحافظ على التحسيني، ثم بين علاقة هذه المراتب فيما بينها؛ إذ كل مرتبة من المراتب الثلاث تخدم التي قبلها، فالتحسيني يخدم الحاجي، والحاجي يخدم الضروري[7].

ثانيا: ترتيب كليات الضروري

اختلف العلماء في ترتيب كليات الضروري، ولم يتفقوا على ترتيب معين، كما أنهم لم يعللوا سبب هذا الترتيب؛ فذهب الغزالي  وهو أول من وضع هذا الترتيب المشهور في “المستصفى” إلى ذكر كلية الدين أولا، ثم النفس ثم العقل فالنسل، ثم المال[8] إلا أنه لم يعلل سبب هذا الترتيب، وسلك مسلكه في ذلك من جاء بعده من الأصوليين.

إلا أن الرازي خالف الترتيب  المشهور للغزالي، فقدم النفس على الدين وذكرها في موضعين: أحدهما؛ في باب المناسبة فقال: “أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل…[9]“؛ فهذه المصالح الخمسة هي المصالح الضرورية.

أما في باب تراجيح الأقيسة فذكر أن المناسبة من باب الضرورة خمسة وهي “مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب[10]” ولم يذكر تعليلا أو تبريرا لهذا الترتيب.

أما الآمدي فقد اتبع ترتيب الغزالي في تقديم كلية الدين عن غيرها إلا أنه قدم كلية النسل على كلية العقل في باب الترجيحات، معللا ذلك بأن النسل ألحق بالنفس؛ ومنه تكون كلية النسل أعلى منزلة من كلية العقل[11]، و عليه يكون ترتيب الآمدي  هو: الدين، النفس، النسل، العقل، المال.

وبين أن حفظ هذه المقاصد الخمسة يقع في رتبة الضرورات، وهي أعلى مراتب المناسبات وحصرها في خمس باعتبار النظر إلى الواقع[12]. كما أكد على أن مقصود الدين مقدم على غيره من المقاصد الضرورية الأخرى، ويليها مقصد حفظ النفس. أما في تقديمه لكلية النسب على كلية العقل إبقاء لكلية النفس؛ فقد علل ذلك بأن حفظ النسب إنما كان مقصودا لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعا لا مربي له، فهو لم يكن مطلوبا لعينه وذاته، بل لأجل بقاء النفس مرهفة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات.

ثم بين ذلك من جهة النظر إلى حفظ العقل، وهي أن النفس أصل والعقل تبع، وعليه فالمحافظة على الأصل أولى؛ لأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا، وما يفضي إلى الفوات مطلقا أولى.

وبناء على ذلك يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل، ومقدم على ما يفضي إلى حفظ المال؛ لأنه ملاك التكليف ومركب الأمانة، ومطلوب للعبادة بنفسه، ولم يرق المال إلى ذلك، لذلك ذيل به الترتيب[13].

وخلاصة ما ذهب إليه الآمدي أنه لم يخالف ترتيب الغزالي إلا في تقديم النسل على العقل معللا ذلك بحفظ الولد، لأجل إبقاء النفس والمحافظة عليها حتى تأتي بوظائف التكليف.

وذكرها السبكيان في موضعين اثنين بترتيبين مختلفين فقال: “فالضروري ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي اتفقت الملل على حفظها، وهي النفس والدين والعقل والمال والنسب[14]“؛ فقدم النفس على الدين. وفي موضع آخر في الحديث عن تقسيم المصالح  قال: “الضرورية: ما تكون في الضروريات الخمس؛ أعني الدين، والعقل والنفس، والمال، والنسب[15].”

أما الشاطبي فقد ذكرها في أكثر من موضع، ولم يتبع ترتيبا معينا، بل اكتفى بتعدادها وحصرها؛ فأول ما ذكرها أخر فيها كلية العقل على النسل والمال بقوله: “لقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل[16]“. وذكرها بنفس الترتيب، في موضع آخر بقوله: “ومجموع الضروريات، خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل،والمال، والعقل[17]“. فأخر العقل على النسل والمال، ولم يُبد لذلك تعليلا ولا تبريرا سوى ما ذكره، أن الدين هو أصل للكليات، التي سماها بأصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة[18].

وفي موضع آخر من الموافقات يتبع فيها ترتيب الغزالي بقوله: “و بيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها، خمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال[19]“. وفي كتابه الاعتصام فقد قدم النسل على العقل بقوله: “إن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة وهي: الدين والنفس، والنسل، والعقل، والمال[20].”

والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها بعد عرض آراء العلماء في ترتيب كليات المقاصد أن هناك ترتيبان أساسيان:

الترتيب الأول: ترتيب الغزالي، وهو أول من وضع هذا الترتيب.

الترتيب الثاني: ترتيب الرازي،  حيث قدم النفس على الدين دون تبرير أو تعليل وتبعه في ذلك القرافي المالكي. في أول ذكر لها عند تقسيمه للمناسب المرسل فقال: الكليات الخمس وهي حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال، وقيل الأعراض[21] وفي موضع آخر يقول: “حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على اعتبارها، وأن الله تعالى ما أباح النفوس، ولا شيئا من الخمسة المتقدمة، في ملة من الملل[22]” ويفهم من هذا أنه يقدم النفوس على الأديان وتبعه أيضا الإسنوي وشارح  نهاية السول[23].

أما اختلاف باقي الأصوليين فمرده إلى الحصر والتعداد دون النظر إلى الترتيب؛ إذ نجد ابن عاشور وضع ترتيبا قدم فيه العقل والمال على النسب وذلك في قوله: “وقد مثل الغزالي في المستصفى وابن الحاجب والقرافي والشاطبي في هذا القسم الضروري، لحفظ الدين والنفوس والعقول والأموال والأنساب وزاد القرافي نقلا عن قائل حفظ الأعراض…[24].”

أما ما أشار إليه الآمدي من تقديم النسل على العقل فيمكن أن ندرجه ضمن تقسيم الغزالي؛ لأن الآمدي لم يغير في الترتيب سوى ما أشار إلى تعليله.

ثالثا: حصر كليات الضروري

أشار الجويني إلى كليات الضروري وقواعد الشرع التي تبنى عليها الأحكام وترد إليها الفروع، وهذا في أكثر من موضع في مؤلفه البرهان[25]. فبين أن “الشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح”، ثم أشار إلى أن المأمور به معظمه يختص بالعبادات، “أما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر[26]“. وكأنه هنا يشير إلى جانبي الإيجاد والعدم لهذه الكليات، فجانب الإيجاد يتمثل في العبادات وما تعلق بها من أسس الإيمان والعقائد. وأما جانب العدم فبتشريع المنهيات؛ ومنها الزواجر لحماية هذه الكليات من الخلل الواقع أو المتوقع، وقد مثل لهذه الكليات بقوله: “وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص، والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…[27].”

ومن خلال هذا نفهم أن الجويني من الذين ربطوا كليات المقاصد بالعقوبات؛ إذ جعل حفظ النفس بحد القصاص “الدم معصوم بالقصاص” أما النسل والعرض، فتضمنهما لفظ الفروج، ويحفظان بحد الزنا وحد القذف، وأما كلية المال فتحفظ عن السرقة بحد القطع.

ولما جاء الغزالي حصر هذه الكليات، وجعلها خمسا في ترتيبه المشهور، بناء على ما ذكر شيخه وربطها بالعقوبات، إلا أنه هذبها أكثر وسماها مقاصد الشارع[28].

وسلك الأصوليون بعده مسلكه في ذلك كالرازي،[29] والآمدي[30] ومن جاء بعدهم وقد علل الآمدي ذلك الحصر بقوله: “فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات والحصر في هذه الخمسة أنواع إنما كان بالنظر إلى الواقع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة[31].”

وعلى نفس المنهج سار ابن الحاجب بتأكيده أن المقاصد الضرورية هي الخمسة التي روعيت في كل ملة وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل والنسل، والمال[32].

رابعا: كلية العرض والتصنيف الثاني للمقاصد

وأضاف بعض المتأخرين من الأصوليين، كلية سادسة، وهي كلية (العرض) التي اعتراها اختلاف كبير بين مثبت لها كأصل سادس في مرتبة الضروري باعتبار حد القذف الذي شرع لحفظها،  وبين ملحق لها بكلية النفس في مرتبة المكمل للضروري، أو ملحق لها بكلية النسب، وهناك من لا يذكرها إلا ضمنيا[33]، وتنسب هذه الزيادة عند أغلب العلماء للقرافي المالكي وللطوفي الحنبلي كما تنسب للسبكي الشافعي[34].

 لكن المثير للانتباه أن القرافي نفسه حين يتحدث عن هذه الزيادة يعزوها لغيره في أكثر من موضع منها قوله: “الكليات الخمس وهي: حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال، وقيل الأعراض[35]“. أما السبكي فقد ذكر في مؤلفه الإبهاج أن كليات المقاصد خمس وهي (النفس، والدين والعقل،والمال والنسب[36]. ولم يذكر ضمنها العرض، إلا أنه ذكره في مصنفه جمع الجوامع بقوله: “والمناسب ضروري فحاجي فتحسيني، والضروري لحفظ الدين، فالنفس، فالعقل، فالنسب، فالمال والعرض[37].”

وقد ذهب الزركشي في تعليقه إلى تأكيد هذه الإضافة للسبكي والطوفي  أيضا في قوله: “وزاد المصنف سادسا  ذكره الطوفي أيضا وهو العرض[38].”

ولم يتوقف الزركشي عند مجرد  نسبة هذه الزيادة للسبكي والطوفي، بل تبنى هذه الإضافة ودافع عنها مستدلا على ذلك بالحديث الوارد في الصحيحين وهو قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: “أيُّ يومٍ هذا؟ فَسكَتْنا حتى ظَنَنّا أنه سيُسَمِّيهِ سوى اسْمِه. قال: أليسَ يومَ النَّحر؟ قلنا: بلى. قال: فأيُّ شَهرٍ هذا؟ فسَكَتْنا حتى ظَننا أنه سُيسَمِّيه بغيرِ اسمهِ، فقال: أليسَ بذِي الحِجَّة؟ قال: فإنَّ دِماءَكمْ وأموالَكم، وأعْراضَكمْ بَينَكم حَرامٌ كَحرْمةِ يومِكم هذا، في شَهرِكمْ هذا، في بَلَدِكمْ هذا، لِيُبْلغِ الشاهِدُ الغائبَ، فإنَّ الشاهِدَ عَسى أن يبَلِّغَ مَن هُو أوْعى لهُ منه[39].”

 وعد حرمة الأعراض من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة؛ إذ شرع لحفظها حد القذف، ثم أشار إلى مرتبته بالنسبة للكليات الأخرى وتردد في اعتباره من الضروريات أم من الحاجيات، فمرة اعتبره في الضروري، ومرة اعتبره دونه فقال: “أما كونه من الكليات فشيء آخر[40]“، ثم جعله في أدنى مرتبة من الكليات. واستند في ذلك إلى ترتيب السبكي لها؛ حيث عطف كلية العرض بالواو دون الفاء خلافا لما سبقها من الكليات؛ إذ عطفها بالفاء وهو ما يفيد الترتيب. وفي موضع آخر جعلها في مرتبة دون الضروري، وهي مرتبة الحاجيات حيث يقول: “ويحتمل أن يجعل فيما دونها فيكون من الملحق بها[41].”

وهذا ما أشار إليه ابن عاشور في اعتراضه على من اعتبر حفظ العرض من الضروريات واعتبره من الحاجيات فقط ولعله بنى رأيه هذا على كلام الزركشي.

أما في البحر المحيط فقد ذهب الزركشي إلى  نفس رأي القرافي حيث قال: “وزاد بعض المتأخرين سادسا وهو حفظ الأعراض[42]“، ولم يحدد من صاحب هذه الإضافة على خلاف ما ذهب إليه في حاشيته على جمع الجوامع كما سبق ذكره. وبين أن كلية العرض من الضروري؛ إذ من عادة العقلاء بذل النفس والمال دون العرض، و”ما فدي بالضروري أولى أن يكون ضروريا[43]“، وأن  الشارع قد أوجب حد القذف منعا للاعتداء عليه بعدما تردد سابقا في عده من الضروري أو مكملا له.

أما  ابن الأزرق  من المالكية فقد ذهب في مؤلفه سراج الملوك إلى اعتبار العرض كليا سادسا ولم يحدد صاحب هذه الزيادة  بقوله: “ومن الأصوليين من ألحق بهذه الخمسة سادسا، وهو العرض وعليه حفظه من جانب الوجود باعتقاد سلامته عن المطاعن والقوادح، ومن جانب العدم بالحد في القذف واللعان[44].”

وأكد ابن أمير الحاج نسبة زيادة العرض للطوفي والسبكي بقوله: “وزاد الطوفي والسبكي  حفظ العرض بحد القذف[45]“. كما أكد الشنقيطي في كتابه “نشر البنود[46]” نسبة ذلك إلى السبكي واعتبر حفظ العرض هو الحكمة المقصودة من ترتيب ثمانين جلدة. ثم إنه تبنى هذه الزيادة ودافع عنها بعد أن بين مرتبة العرض ومكانته بقوله: “لم يبح الله تعالى النفوس ولا شيئا من الستة المذكورة في ملة من الملل” ثم ذكر قول الشاعر:

قد أجمع الأنبياء والرسل قاطبـة        على الديانة والتوحيد في الملل

وحفظ نفس ومال معها نسـب         وحفظ عقل وعرض غير مبتذل[47]

أما الشوكاني الذي كان قبل الشنقيطي فإنه قد تبنى هذه الزيادة دون ذكر صاحبها، واكتفى بنسبتها للمتأخرين بقوله: “وزاد بعض المتأخرين سادسا وهو حفظ الأعراض؛ لأن من عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى[48].”

وإلى نفس المعنى ذهب ابن عاشور، إلا أنه كان أكثر تدقيقا بقوله: “وزاد القرافي نقلا عن قائل حفظ الأعراض ونسب في كتب الشافعية إلى الطوفي[49].”

من خلال هذه الأقوال يعرض لنا هنا ثلاثة احتمالات:

 الاحتمال الأول: أن صاحب هذه الزيادة هو القرافي المالكي، وأخذها عنه الطوفي الحنبلي والسبكي الشافعي.

الاحتمال الثاني: أن صاحب هذه الزيادة هو الطوفي الحنبلي.

الاحتمال الثالث: أن صاحب هذه الزيادة هو السبكي الشافعي.

مناقشة الاحتمالات

بعد عرض آراء العلماء في هذه المسألة نجد أنهم ينسبون هذه الإضافة إلى المتأخرين وهم القرافي المالكي والطوفي الحنبلي والسبكي الشافعي.

 لكن القرافي ذاته لم يقر بهذه الإضافة لنفسه، بل يعزوها لغيره في أكثر من موضع، وهو ما يفهم منه أنه لا يتبنى هذه الزيادة[50]، فقد ذكر في مصنفه شرح تنقيح الفصول أن “الكليات الخمس وهي: حفظ النفوس، والأديان والأنساب، والعقول، والأموال، وقيل الأعراض[51]“؛ فقوله في عبارة “وقيل الأعراض” فيها بيان أنه ليس صاحب الإضافة.

وفي موضع آخر تجده يؤكد هذه الفكرة ذاتها  بقوله: “واختلف العلماء في عدها فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان[52].”

 وهذه العبارة الأخيرة التي يمكن اعتبارها مفتاحا للوصول إلى صاحب هذا النوع من التصنيف وسنده، بالإجابة على ما أثاره القرافي من إشكالات فيها  تحتاج إلى التوضيح  في مسألتين:

الأولى: عدم تبني القرافي إضافة كلية العرض بنفسه وعزوها لغيره.

الثانية: أن هناك تصنيف آخر وحصر خاص للكليات، بذكر الأعراض بدل الأديان.

وبمناقشة المسألتين هنا يتبين لنا طبيعة الاحتمالات الثلاثة السابقة ومدى صحتها.

أما المسألة الأولى: وهي  عزو القرافي إضافة كلية العرض لغيره وعدم تبنيه لذلك.

والسؤال المتبادر إلى الذهن وبإلحاح كبير: لماذا ينسب القرافي هذه الزيادة  لغيره؟

 فإذا كان العلماء ينسبون هذه الزيادة له، وللطوفي الحنبلي والسبكي الشافعي في حين نجده ينسب القول لغيره ما يوحي أنه لم يتبن هذه الإضافة، كما تبناها الطوفي والسبكي ومن بعدهما الزركشي والشوكاني، والشنقيطي.

وعليه فالأمر يحتاج إلى توضيح وبيان، لمعرفة صاحب هذه الزيادة ومن هو أول من قال بها؟ ونقلها القرافي عنه؟ وهل الطوفي والسبكي أخذا هذه الإضافة عنه أم عن غيره؟

ولمعرفة الإجابة على ذلك سيناقش البحث الاحتمالين الثاني والثالث لعلاقتهما بالاحتمال الأول نفيا وإثباتا.

فأما الاحتمال الثاني أن هذه الزيادة هي  للطوفي الحنبلي  أمر وارد، وقد صرح الطوفي بذلك

وذكر هذه الإضافة  في مؤلفه (شرح مختصر الروضة) وتبناها في معرض ذكره للضروريات الخمس في قوله: “وهي حفظ الدين بقتل المرتد… وحفظ العقل بحد السكر… وحفظ النفس بالقصاص وحفظ النسب بحد الزنا، وحفظ العرض بحد القذف، وحفظ المال بقطع السارق[53].”

فالملاحظ أنه جعل كلية العرض من الضروريات وصرح قائلا: “وقد بينت وجه ضرورية هذه الأشياء في القواعد الصغرى مستقصىً، فهذه المصلحة الضرورية[54].”

وأما الاحتمال الثالث: أن صاحب هذه الزيادة هو السبكي، فهو أمر وارد أيضا واحتمال قائم  وقد مر قوله في ذلك سابقا.

لكن بالرجوع إلى مظان المسألة وتتبع آراء القرافي في مؤلفاته وجدت أن القرافي يذكر من سمع منه هذه الإضافة مباشرة في مؤلفه نفائس الأصول[55]، فيقول: “وما قاله صاحب المحصول أن المناسب الضروري ما ضمن حفظ هذه المقاصد الخمسة: النفس والمال والنسب والدين والعقل”، ثم علق القرافي بقوله: “قلت غيره عَدَّ عوض الدين العرض، فيحصل من ذلك أنها ستة، وعليه يكون ترتيبها النفس، المال النسب، العرض، الدين، العقل[56].”

ثم نسب الزيادة لصاحبها بقوله: قال التبريزي[57]: “وحفظ العرض بحد القذف[58]“، فأشار هنا إلى كلية العرض وربطها بالعقوبة وهي حد القذف وذكر احتمال إدراجها في كلية النفس.

ونفهم من هذا أن القرافي حين قال في “شرح تنقيح الفصول”: “عد غيره العرض”؛ إنما يقصد به التبريزي الشافعي (توفي 621ﻫ) فهو بعد الرازي (توفي 606ﻫ) وقبل الآمدي (توفي 631ﻫ)، والنتيجة التي نخلص إليها أن القرافي أخذها عن التبريزي في شرحه ”شرح المحصول” الذي سماه ”نفائس الأصول في شرح المحصول”.

ويتضح لنا، هاهنا، صحة الاحتمال الأول؛ وهو أن الطوفي الحنبلي أخذ هذه الزيادة عن القرافي فبالرغم من أنه ذكر كلية العرض وتبناها دون ذكر صاحب الزيادة عندما عرف الضروري بقوله: “هو ما عرف التفات الشرع إليه؛ كحفظ الدين بقتل المرتد والداعية المبتدع، والعقل بحد السكر والنفس بالقصاص، والنسب والعرض بحد الزنا والقذف والمال بقطع السارق…[59].”

إلا أنه صرح به في شرحه لمختصر الروضة عند توثيقه للمصنفات التي استند إليها في مؤلفه هذا، ذاكرا منها شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكي الذي ذكر فيه زيادة العرض  في قوله: “وكذلك الشرح جميعه من أوله يتضمن فوائد ومباحث لا توجد إلا فيها، تنبهت عليها بالفكرة والنظر في كلام الفضلاء، وأنا ذاكر لك، إن شاء الله عز وجل، مادة هذا الشرح لتكون على بصيرة مما تجد فيه وثقه؛ بحيث إن أردت الوقوف على أصل شيء منه ومن أي نقل عرفت مادته: فاعلم أن مادته؛ وهي الكتب التي جمع منها هي: الروضة للشيخ أبي محمد[60]، التي هي أصل المختصر وأصل الروضة: “وهو المستصفى ومنتهى السول للشيخ سيف الدين الآمدي والتنقيح وشرحه للشيخ شهاب الدين القرافي…[61]“، وهذا الاعتراف من الطوفي يمكن اعتباره  أكبر دليل على إثبات الاحتمال الأول وهو أن الطوفي أخذ هذه الزيادة عن القرافي.

أما السبكي الشافعي (756ﻫ) فبالنظر إلى السياق التاريخي فهو قد جاء بعد القرافي المالكي (684ﻫ) والطوفي الحنبلي(716ﻫ)، فإما أن يكون أخذه مباشرة عن القرافي وهذا مستبعد للفارق الزمني الذي بينهما أو نقلا عنه بواسطة الطوفي الذي أخذها نقلا عن القرافي، والحقيقة أني لم أقف على نص صريح يثبت ذلك سوى ما ذكره الزركشي وصرح به في أن  هذه الزيادة عند السبكي، والطوفي أيضا لكنه لم يشر أنه أخذها عنه في قوله: “وزاد المصنف (الزركشي) سادسا ذكره الطوفي أيضا وهو العرض[62].”

 والذي يمكن اعتماده لترجيح هذا الاحتمال هو اعتبار البعد الزمني الذي يفصل بين السبكي والطوفي؛ إذ يعدان في عصر واحد.

وبذلك يتضح الأمر ويزول الالتباس؛ فالطوفي والسبكي نقلا الزيادة عن القرافي، والقرافي نقلها عن التبريزي، لكن ما ينبغي الإشارة إليه أن زيادة كلية العرض كانت قبل التبريزي وحتى الجويني فقد ذكرها العامري[63] الذي كان متقدما عنهم (توفي 381ﻫ) في كتابه مناقب الإسلام، بقوله: “ومزجرة ثلب العرض كالجلد مع التفسيق[64]” ما يثبت أن هذه الزيادة ترجع للأصوليين الأوائل.

المسألة الثانية: تصنيف خاص بحصر الكليات والتحقيق في عبارة القرافي: “من يذكر الأعراض ولا  يذكر الأديان”.

ذكر القرافي هذه المسألة بعد تبيانه اختلاف العلماء في عدد الكليات، كما ذكر اختلافهم في حصرها وترتيبها فقال:“بعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان…[65].”

فبعد تتبع آراء الأصوليين في هذا التصنيف لم يعرف منهم من يقول بهذا الحصر ابتداء بالغزالي فالرازي  فالآمدي إلا أن الأمر كان واضحا عندهم جميعا ما عدا الجويني، فقد كانت له إيماءات وإشارات توحي إلى أنه لا يذكر الأديان في هذا الحصر؛ إذ اكتفى بالتعبير عنها بإجمال فقال: “وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص.. والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…[66]“، ولم يذكر هنا الأديان، أما الأعراض فتضمنها لفظ الفروج.

 وهو ما ذكره الغزالي في شفاء الغليل؛ إذ بدأ بكلية النفس في قوله: “فقد علم على القطع أنه حفظ النفس والعقل والبضع والمال مقصود في الشرع” ثم ألحق بها كلية الدين في قوله: “ونبه على مصالح الدين في قوله في الصلاة: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر[67].”

وبتتبع أقوال العز بن عبد السلام في الكليات الخمس وجدت أنه؛  يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان في حصره للكليات في أكثر من عشرة مواضع من مؤلفه[68]، والذي يبدو واضحا أن القرافي قصد بذلك شيخه العز بن عبد السلام؛ لأنه  يورد ها بنفس التصنيف  في مواضع من مؤلفه ما يثبت تأثره بشيخه[69].

وكان أول نص استهل به العز الكلام  عن كليات المقاصد بقوله: “وكذلك اتفقت الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض[70].”

وقد تكرر هذا في أكثر من عشرة  مواضع منها قوله: “والمفاسد ضربان: أحدها؛ ما يثاب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال[71].”

وكذا قوله: “لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع وسائر الحقوق أهم وأعظم[72]” فلم يذكر الأديان في هذين النصين وغيرهما..

والحقيقة أن العز بن عبد السلام لما اعتمد هذا المنهج في حصر كليات المقاصد الذي أشار إليه القرافي فهم البعض بأنه لم يحصر المصالح أصلا، ولم يقم بترتيبها كما ذهب إلى ذلك جمال الدين عطية بقوله: “لم يقم العز بن عبد السلام بحصر المصالح وبالتالي لم يقم بترتيبها[73]” على الرغم من أن جمال الدين عطية ذكر النص الأول الذي حصر فيه العز بن عبد السلام كليات المقاصد، ولم يتفطن لذلك أيضا حتى من بحث في المقاصد عند العز واكتفوا بذكر النصوص التي تثبت استشهاده بتقديم الدين في الأحكام الفرعية ما يثبت أنه تكلم على المقاصد[74].

إضافة إلى ذلك أن مثل العز بن عبد السلام لا يغيب عنه ما كتبه الغزالي والآمدي وحصرهم للمقاصد في الكليات الخمس، فهم شافعية وهو شافعي، فلا يمكن القول أن العز قد غفل عن ذلك فاحتمال عدم اطلاعه على ما كتبه الأصوليون وصنفوه أمر غير وارد بتاتا، وهو مستبعد وخاصة وأنه يذكر مراتب المصالح وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والتتمات والتكميلات بالإضافة إلى أنه يقر بأن تدفع النفوس والأموال لحفظ الدين فيقول: “تتفاوت فضائل الكف بتفاوت المفاسد المكفوف عنها، كما تتفاوت فضائل الفعل بتفاوت المصالح المأمور بتحصيلها، فالكف عن الكفر أفضل من كل كف… فالكف عن الدماء أفضل من الكف عن الأبضاع، والكف عن الأبضاع أولى من الكف عن الأعراض، والكف عن الأعراض أولى من الكف عن الأموال[75].”

وكذا قوله في فضل ما يقدم من حقوق الله على حقوق العباد و”بذل النفوس والأموال في قتال الكفار مع تعريض النفوس والأعضاء للفوات[76]” ولا يكون ذلك إلا لحفظا للدين.

لكن لماذا لم يذكر العز الأديان حين حصر هذه الكليات على الرغم من أنه يقدم الدين على الكليات الأخرى خلال عرضه المسائل في بناء الأحكام الفرعية؟

والجواب على ذلك، والله أعلم، أن للعز رأيا آخر في حصره لكليات المقاصد؛ حيث ربطه بحقوق الله وحقوق العباد، وقد فصل في هذه الحقوق بتقسيمه المصالح والمفاسد إلى حقوق الله وحقوق العباد إلى قسمين[77]:

أحدهما؛ يتعلق بحقوق الخالق: كالطاعة والإيمان وترك الكفر والعصيان ويقصد بذلك الأديان.

أما القسم الثاني؛ فهو ما يتعلق بحقوق المخلوقين من جلب مصالحهم ودرء مفاسدهم، وقد أكد هذا في أكثر من موضع منها قوله:“وعلى الجملة فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض[78].”

وخلاصة القول أن العز بن عبد السلام يعتبر الدين حقا لله، أما بقية الكليات ومنها حفظ الأعراض فهي من حقوق العباد، والحق أن هذا التقسيم إنما يرجع إلى الجويني حيث يقول: “وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص… والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…[79].”

 وهذا النوع من التصنيف أشار إليه الآمدي في قسم التعارض والترجيح  في معرض مناقشته لمسألة تزاحم هذه الكليات فيما بينها أيهما يقدم الدين وهو حق الله، أم تقدم بقية الكليات التي تتعلق  بحقوق العباد، وأن للعلماء في ذلك تصوران، تصور يرى فيه أصحابه تقديم الدين على بقية الكليات  وتصور ثان يرى أصحابه تقديم بقية الكليات على كلية الدين بناء على أن حقوق العباد مقدمة على حقوق الله؛ لأنها مبنية على المشاجة أما حقوق الله، فهي مبنية على المسامحة[80]، وهذا دليل على وجود هذا التصنيف عند المتقدمين قبل العز بن عبد السلام وقد كان محل نقاش بينهم  وقد ذكره ابن الحاجب في مختصره[81]، وابن النجار في شرحه[82] دون نسبته لأحد من العلماء.

وهو ما سار عليه، غير واحد من الأصوليين؛ كالسرخسي الحنفي الذي فرق بين الحدود المتعلقة بحقوق الله وحقوق العباد، فقال: “وأصل الكفر من أعظم الجنايات، ولكنها بين العبد وربه، فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء[83]“؛ ويقصد بذلك الأديان، ثم يضيف مبينا ما تعلق بحق العباد فقال: “وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد، كالقصاص لصيانة النفوس، وحد الزنا لصيانة الأنساب والفرش، وحد السرقة لصيانة الأموال، وحد القذف لصيانة الأعراض، وحد الخمر لصيانة العقول[84].”

 وهو ما ذهب إليه، أيضا، ابن القيم بقوله: “فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بيت الناس من بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجرح والقذف والسرقة[85].”

والنتيجة التي يخلص إليها البحث من خلال هذا العرض ما يلي:

أولا: أن العرض يرقى إلى أن يكون كلية سادسة، باعتبار حد القذف الذي خصص لحفظها،  كما صرح  بذلك الأصوليون، بالإضافة إلى ذلك  إذا نظرنا من جانب العقوبات والحدود وإثباتها فنجد حد القذف حدا مستقلا منصوصا عليه، وهذا ما يثبت استقلالية هذه الكلية واعتبارها في مرتبة الضروري، فعقوبة حد القذف هي الفاصل في ذلك، إذ ثبت بنصوص من القرآن والسنة.

فعقوبة هذه الكلية ثابتة بالقرآن والسنة، وهو ما أكده القرافي بعد ذكره لآراء العلماء واختلافهم فيها بقوله: “وفي التحقيق الكل متفق على تحريمه فما أباح الله تعالى العرض بالقذف والسباب قط[86].”

وكذا ما قاله الشاطبي: “وإن ألحق بالضروريات (حفظ العرض) فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف[87]“، وهذا وجه في اعتباره في الضروريات. وقد عد ابن فرحون  المالكي صيانة الأعراض من أكبر الأغراض[88].

ثانيا: أن الطوفي والسبكي نقلا الزيادة عن القرافي، والقرافي نقلها عن التبريزي، لكن ما ينبغي الإشارة إليه أن زيادة كلية العرض للمتأخرين من الأصوليين ليست صحيحة، وإنما ترجع للمتقدمين من الأصوليين حتى قبل الجويني.

ثالثا: أن هناك تصنيفان في حصر الكليات الضرورية

ـ تصنيف الغزالي المشهور ومن سلك مسلكه من الأصوليين فيذكرون الأديان ولا يذكرون الأعراض بغض النظر عن الترتيب.

ـ وتصنيف العز بن عبد السلام وغيره من العلماء الذين ربطوه بحق الله وحق العباد فيذكرون الأعراض ولا يذكرون الأديان. ومن هنا تأتي أهمية الإشارة إلى مسألة دعوى مراجعة مبدأ حصر المقاصد في الكليات الخمس الضرورية المشهورة ابتداء بابن تيمية الذي كان يرى توسيعها بإضافة العبادات الظاهرة والباطنة[89]، وأن ربطها  بالعقوبات الشرعية هو نوع من التقصير فيها[90]، ثم حمل لواء هذه الدعوى ابن عاشور وعلال الفاسي اللذين أضافا مقاصد تتعلق بحقوق الإنسان، كالمساواة والكرامة والحرية وغيرها[91]، وهو ما بنى عليه الباحثون المعاصرون دعوتهم لمراجعة هذا الحصر؛ لأنها مسألة اجتهادية كما ذكر الريسوني وعليه فيمكن مراجعتها والإضافة عليها[92].

وقد ذهب جمال الدين عطية إلى إضافة أربعة وعشرين مقصدا وزعها على أربعة مجالات هي :

ـ مجال الفرد: وتشمل النفس والعقل والتدين والعرض والمال.

ـ مجال الأسرة، وفيها سبعة مقاصد..

ـ مجال الأمة.

ـ مجال الإنسانية.

وكذا لفت النظر إلى مسألة المستويات الأخرى للمقاصد التي أثارها طه جابر فياض  العلواني  في مراجعاته، فهي جديرة بالدراسة والمناقشة.

وعليه يمكن القول أن مسألة الزيادة على كليات المقاصد التي شرع لحفظها عقوبات حدية صارمة أمر لا يمكن الفصل فيه بالزيادة دون اعتبار لهذه العقوبات الحدية، والنظر إلى قطعيتها وعدم قبولها للزيادة أو النقصان؛ لأنها من الأحكام الثابتة التي لا يعتريها التغيير، وهي التي أضفت الهيبة على هذه الكليات، إلا أنه يمكن توسيعها بتضمين غيرها فيها.

الهوامش

1. الغزالي، المستصفى من علم الأصول،  تحقيق: محمد سليمان الأشقر،  ط1، (1417ﻫ/1997م)، /416.

2. المصدر نفسه، 1/ 416-417.

3. المصدر نفسه، 1/ 417.

4. الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان،  ط3، (1424ﻫ/2003م)،  2/7-8.

5. الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/9.

6. انظر: الغزالي، المستصفى، م، س، 1/41 و الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/9.

7. الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/11.

8. انظر: المستصفى، م، س، 1/417 ولم يتبع الغزالي في كتابه شفاء الغليل هذا الترتيب؛ إذ بدأ بكلية النفس في قوله: “فقد علم على القطع أنه حفظ النفس والعقل والبضع والمال مقصود في الشرع” ثم ألحق بها كلية الدين في قوله: ونبه على مصالح الدين في قوله في الصلاة: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر” انظر: شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسلك التعليل، تحقيق أحمد الكيبسي، بغداد: مطبعة الإرشاد/العراق، د. ط، د. ت، ص160.

9. فخر الدين الرازي، المحصول في علم الأصول، دراسة وتحقيق: د. طه جاير فياض العلواني، بيروت: مؤسسة الرسالة،  لبنان، ط3، (1418ﻫ/1997م)، 5/159-160.

10. المرجع نفسه، 5/456.

11. اتبع الآمدي ترتيب الغزالي في موضع آخر في قوله: “أن المقاصد الخمسة هي التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، انظر: الآمدي سيف الدين، الإحكام في أصول الأحكام، اعتناء الشيخ إبراهيم العجوز، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، د. ط، د. ت، 3/240.

12. الآمدي، الإحكام، م، س، 3/240.

13. المصدر نفسه، 4/495.

14. علي بن عبد الكافي السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان د. ط، 1404ﻫ، 3/55.

15. المصدر نفسه، 3/178.

16. الشاطبي، الموافقات، م، س، 1/26.

17. المصدر نفسه، 2/8.

18. المصدر نفسه، 2/19.

19. المصدر نفسه، 3/ 33.

20. الاعتصام، تحقيق سليم من عبد الهلالي، السعودية: دار الله عفان، ط1، (1418ﻫ/1997م)، 2/539.

21. شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول من الأصول، بيروت: دار الفكر، ط1، (1418ﻫ/1997م)، ص304.

22. المصدر نفسه.

23. انظر: مناهج العقول (شرح البدخشي) ومعه شرح الإسنوي على منهاج الوصول في علم الأصول، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، د. ط، د. ت، 3/68-69 وما بعدها.

24. انظر: مقاصد الشريعة، م، س، ص79.

25. الجويني البرهان في أصول الفقه، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، (1418ﻫ/1997م)، 2/179، 207 وما بعدها.

26. المصدر نفسه، 2/179.

27. المصدر نفسه.

28. الغزالي، المستصفى، م، س، 1/417.

29. انظر: الرازي، المحصول، م، س، 5/159.

30. انظر: الآمدي، الأحكام، م، س، 4/495.

31. انظر: الرازي، المحصول، م، س، 3/240.

32. انظر ابن الحاجب جمال الدين، مختصر المنتهى، اعتناء د. شعبان محمد إسماعيل، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ط، (1403ﻫ/1983م)، 2/340.

33. مثل الجويني، كما سبقت الإشارة إليه  في لفظ الفروج. انظر: البرهان، 2/179.

34. انظر مثلا ابن عاشور: مقاصد الشريعة، م، س، ص77.

35. شرح تنقيح الفصول، م، س، ص304.

36. الإبهاج في شرح المنهاج، 3/60.

37. الزركشي بدر الدين  محمد بن بهادر، تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، دراسة وتحقيق: عبد الله الربيع، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، د. ط، (1418ﻫ/1998م)، 3/192.

38. المصدر نفسه، 3/291-292.

39. رواه البخاري، كتاب الحج، باب خطبة الوداع أيام منى، رقم الحديث 1739، صحيح البخاري، الرياض: دار السلام، ط2،  (1419ﻫ/1999م)، ص280، ورواه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم الحديث 4383،  صحيح مسلم، الرياض: دار السلام، ط1، (1419ﻫ/1998م)، ص743.

40. تشنيف المسامع، م، س، 3/292.

41. المصدر نفسه، 3/292.

42. الزركشي، بدر الدين، البحر المحيط في أصول الفقه، اعتناء د. عبد الستار أبو غدة، وزارة الأوقاف الكونية، ودار الصفوة، مصر، ط2، (1413ﻫ/1992م)، 5/210.

43.  البحر المحيط، م، س، 5/210، وذهب ابن النجار في مصنفه شرح الكوكب المنير، إلى ذكر العرض على الرغم من أنه ذكر أن الضروريات خمس، انظر: ابن النجار الفتوحي محمد بن أحمد، شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير، أو المختبر المبتكر شرح المختصر في أصول الفقه، تحقيق مجموعة من الأساتذة، الرياض: مكتبة العبيكان، د. ط، (1413ﻫ/1992م)، ص4/159، وما بعدها.

44. بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق علي سامي النشار، منشورات وزارة الإعلام، العراق، د. ط،1977، 1/294.

45. ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير في علم الأصول على تحرير الإمام الكمال بن الهمام، تحقيق، مكتب البحوث والدراسات، ط1، (1417ﻫ/1996م)، 3/191 وما بعدها. وانظر أيضا: المحلي الجلال شمس الدين، شرح الجلال المحلي على متن جع الجوامع، اعتناء محمد عبد القادر شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، (1418ﻫ/1998م)، 2/433.

46. الشنقيطي عبد الله بن إبراهيم، نشر البنود على مراقي السعود، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، (1409ﻫ/1998م)، 2/172.

47. المصدر نفسه، 2/173.

48. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت، ص320-321.

49. مقاصد الشريعة، م، س، ص77.

50. انظر: أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط4، (1416ﻫ/1995م)، ص63،

51. شرح تنقيح الفصول، م، س، ص304.

52. المصدر نفسه.

53. شرح مختصر الروضة، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط2، (1419ﻫ/1998م)، 3/209.

54. المرجع نفسه.

55. نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق عادل أحمد عبد الوجود، علي محمد معوض، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط3، (1420ﻫ/1999م)، 7/3404.

56. المرجع نفسه.

57. هو أمين الدين المظفر بن أبي محمد بن إسماعيل بن علي الواراني الشيخ التبريزي ولد سنة 558ﻫ فقيه أصولي من تصانيفه: “التنقيح” اختصر فيه المحصول، وهو صاحب المختصر المشهور في الفقه، (توفي 621ﻫ)، انظر: السبكي، طبقات الشافعية، 8/373. والأسنوي، طبقات الشافعية، ص104.

58. نفائس الأصول، م، س، 7/3404.

59. شرح مختصر الروضة، م، س، 3/209.

60. هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي الحنبلي، أبو محمد الملقب بموفق الدين، كان شيخا للحنابلة في عصره من أهم مصنفاته: “روضة الناظر وجنة المناظر” في أصول الفقه، و”المغني” في الفقه و”المقنع”، (توفي 620ﻫ) انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، د. ت، د. ط، بيروت: دار الثقافة/لبنان، 1/203 وابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة، بيروت: دار المعرفة،  د. ت، د. ط، 2/133.

61. شرح مختصر الروضة، م، س، 3/571.

62. تشنيف المسامع، م، س، 3/291-292.

63. هو محمد بن يوسف أبو الحسن العامري النيسابوري، حكيم منطقي، من أهل خراسان أقام بالري، وأقام ببغداد، من آثاره  “الإعلام بمناقب الإسلام” (توفي 381ﻫ)، انظر ترجمته في مقدمة كتابه، الإعلام بمناقب الإسلام تحقيق ودراسة أحمد الحميد غراب، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر،  د. ط (1387ﻫ/1967م)، ص6 وما بعدها، والزركلي، الأعلام، 7/148.

64. الإعلام بمناقب الإسلام، م، س، ص125.

65. شرح تنقيح الفصول، م، س، ص304.

66. البرهان، م، س، 2/179.

67. انظر: شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسلك التعليل، تحقيق أحمد الكيبسي، بغداد: مطبعة الإرشاد العراق،  د. ط، د. ت ص160.

68. انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق: نزيه كمال حماد، وعثمان جمعه ضميرية، دمشق: دار القلم، ط1، (1421ﻫ/2001م)، 1/8، 39، 57، 78، 79، 81، 98، 136 وغيرها.

69. انظر: الفروق أنوار البروق في أنواء الفروق، تحقيق ودراسة مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، دار السلام،  ط2، (1428ﻫ/2007م)، 4/34.

70.  نزيه حماد، قواعد الأحكام تحقيق، م، س، 1/8.

71.  قواعد الأحكام في مصالح الأنام، م، س، 1/39.

72. المصدر نفسه، 1/78.

73. عطية جمال الدين، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر، سوريا، د. ط، د. ت، ص29.

74. انظر مثلا: عمر بن صالح بن عمر، مقاصد الشرعة عند الإمام العز بن عبد السلام (رسالة دكتوراه)، الأردن: دار النفائس،  ط1، (1423ﻫ/2003م)، ص146 وما بعدها.

75. قواعد الأحكام، تحقيق حماد نزيه، 1/248.

76. المصدر نفسه، 1/ 252 – 253.

77. المصدر نفسه، 1/219 وما بعدها.

78. المصدر نفسه، 1/237.

79. البرهان، م، س، 2/179.

80. الإحكام، م، س، 2/318

81. مختصر ابن الحاجب مع شرح عضد الدين الإيجي، 2/217

82. شرح الكوكب المنير، تحقيق مجموعة من الأساتذة، الرياض: مكتبة العبيكان، د. ط، (1413ﻫ/1992)، 4/159.

83. المبسوط، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، (1414ﻫ/1993م)، 10/110.

84. المصدر نفسه.

85. إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق عصام الدين الصبابطي، القاهرة: دار الحديث، ط1، (1414ﻫ/1993م)، 3/338.

86. شرح تنقيح الفصول، م، س، ص304.

87. المواقفات، م، س، 4/20.

88. تبصرة الحكام في أصول الأقضية، ومناهج الأحكام، اعتناء جمال مرعشلي، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان د. ط، (1422ﻫ/2001م)، 2/116

89. انظر: مجموعة الفتاوى، اعتناء عامر الجزار، وأنور البز، ط1، (1418ﻫ/1998م)، 11/187-188.

90. المصدر نفسه،، 11/343.

91. انظر: ابن عاشور،  مقاصد الشريعة، تونس: دار سحنون؛ والقاهرة: دار السلام، ط2، (1427ﻫ/2000م)، ص189 وما بعدها، وعلال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها،”5، 1993م، دار الغرب الإسلامي ص69، 193، 225 وما بعدها.

92. انظر: الريسوني، نظرية المقاصد، م، س، ص386.

93. نحو تفعيل المقاصد، دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر، سوريا، د. ط، د. ت، ص139 وما بعدها.

Science

دة. مسعودة علواش

كلية الشريعة، جامعة الجزائر/الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق