مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

كلمات بين يدي العام الهجري الجديد 1446هـ

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وبعد ففي مفتتح كل سنة هجرية مباركة يمثل أمام الأمة المسلمة هذا الحدث الفاصل بين مرحلتين المرحلة المكية والمدنية، مرحلتان بينهما من حيث الزمان خيط دقيق، لكن من حيث الأهمية ثمة بون شاسع جدا شساعة مرحلة الشتات على مرحلة التأسيس والبناء، الذي سوف تمتد جذوره في أطناب الأرض راسيات، وتنتدح فروعه مشرقة ومغربة بسمي قيمها، ومكارم أخلاقها، فكان ذلك من آيات رسالته، ودلائل نبوته؛ إذ كان المخبر عن هذا الذيوع وذلك التطنيب وهو في القلة القليلة الناصرة، مطاردا محاربا، مما يحيل عقل القصر تخيل هذا الاستيطار، أو توقع ذلك الانتشار، أما الوقوع فضرب من المحال، ولون رديء من الخبال، لكنه كذلك كان طبقا لما أخبر عنه الصادق المصدوق سيد المكان والزمان، ففي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها﴾([1])

فكان الحري والخليق بهذه المناسبة كلمات في سيرته، ولمع عن حفاوة المسلمين بشخصه الكريم وحياته، احتفاء بهجرته، وعربون محبته؛ إذ كان المأثور من سنته: ﴿لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين﴾([2])  وحقا فإن المسلمين جميعا لهم تجاه نبيهم محبة خاصة لاتجدها عند غيرهم من أهل الكتب أو الأفكار أو النظريات: فقد تعاقبت على هذه الحياة شخصيات مؤثرة، وأفكار منتشرة، ونظريات ذائعة، اعتنقها البعض وأباها الآخرون، انطلاقا من الرسل والأنبياء، والعلماء والأصفياء، إلى الكذابين والدجالين، إلى الفلاسفة والنظار، إلى المفكرين وأصحاب النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي حفظها التاريخ ودونها المؤرخون، بيد أننا لم نجد شخصية أحبها أتباعها، وعظموها التعظيم اللائق بها، واتبعوا دعوتها، والتزموا شريعتها، وأطاعوا أمرها ونهيها، واعتنوا بسيرتها، واحتفوا بدقائق تفاصيل حياتها، كما اعتنى أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبيهم وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد دونوا سيرته قبل ولادته من خلال زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة، إلى ولادته ومرضعاته، ومكان رضاعته، وحياة أبويه وجده وأسرته، وما وقع له أثناء ذلك من شق صدره، ورعيه الغنم في بني سعد وسواها من الأحداث التي تصاحبه، كما احتفوا بحياته وهو طفل يافع يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، بعد أن صار يتيم الأب والأم والجد، تحت كفالة عمه أبي طالب، حتى إذا بلغ مستوى الشباب احترف التجارة لسيدة النساء خديجة بنت خويلد، فسافر إلى الشام تاجرا مع غلامها ميسرة الذي رأى من حال نبينا مادونه التاريخ، وءامن به المؤمنون، وصدقه الأتباع من المحبين.. وهكذا توالت العناية بسيرته، والحفاوة بحياته، حتى أرخ المسلمون لأدق تفاصيل حياته، ودونوا جزيئات حركاته وسكناته، مما لا تجده على الإطلاق لشخصية أخرى في التاريخ، فلن تجد في التاريخ على الإطلاق من دَوّن أتباعُه وأنصاره: نسبَه وآباءه وأجداده، وأعمامه وأخواله، وأسرته وعشيرته، وولادته ورضاعه، ومكان رضاعه، ومن أرضعه، ومدة إرضاعه، والأحداث المصاحبة لرضاعه، ثم طفولته وما فيها من تفاصيل حياته من يتمه وختانه ورعيه الغنم وشق صدره وكفالة عمه، ثم شبابه وما فيه من الأحداث الكبرى كتجارته، وحب التحنث في خلائه، وهكذا حتى اعتنى أتباعه بكلامه وسكوته وضحكه وبكائه، وخطبته وموعظته، وجده وهزله ومزاحه، وجلوسه واتكائه، ونومه وانتباهه، ومشيه وحده ومع أصحابه، وركوبه ودوابه، وسفره وحضره، وسلاحه وأثاثه، وملابسه وإداوته، ومواليه وخدامه وحُداته، وقرائه ومؤذنيه، وكتابه وشعرائه، وكتبه ورسله إلى الملوك، ولحيته وشاربه، وقضاء حاجته، وأكله وشربه، وغسله واغتساله، ووضوئه وتيممه، ومسحه على الخفين، وصحته ومرضه، وبيته وعدد حجرات نسائه، وسعة بيته واتجاهه، وغزواته وسراياه، وبيعه وشرائه، وقرضه وإقراضه، ورهنه وسائر معاملاته، وزوجاته وأبنائه وبناته وأحفاده، وأحفاد أحفاده، وأصحابه وأبناء أصحابه، وخلفائه وولاته وأمرائه.. وسواها من تفاصيل حياة هذا النبي الكريم التي أراد الله حفظها، ويسر الحق سبحانه صيانتها من الضياع، فسخر لها أتباعا مخلصين، ومحبين أصفياء، ومؤمنين أتقياء، وعلماء أنقياء، دونوها في كتبهم، وأرخوها في وثائقهم، بالسند الصحيح، والخبر الصريح المتسلسل بالعدول والثقات والعلماء الأثبات، بمنهجية معرفية لا نظير لها في المعارف الأخرى، ولا مثيل لها في كل الملل والنحل، وذلك ما أغاظ الكثير من ذوي الأفكار والنظريات، وأصحاب الملل والنحل، فحاولوا الطعن في أسمى مراتب العلم والمعرفة، وأصح مناهج التوثيق والتأريخ، مع أنهم لا يتوفرون في توثيق علمهم ونظرياتهم، ولا تأريخ أحداثهم ووقائعهم لا يتوفرون على أبسط وأقل وأدنى ما يمكن في إثبات المعرفة، وتوثيق قضايا التاريخ، فما الهجمة الشرسة على الأسانيد والسنن وأحداث المسلمين وتواريخهم الموثوقة والموثقة إلا حقد دفين، وحسد واضح بين، وإلا فالمعارف الإنسانية من لدن أبينا ءادم إلى عهدنا هذا، كتاريخ الهند والصين والفراعنة والبابليين، واليونان والرومان وسواها من الأحداث التي تحكى وتروى وتقبل وتبنى عليها الدراسات والتحاليل والاستنتاجات مع أنها معارف بلا سند، وعلوم بلا توثيق، وأحداث ملقاة هكذا لا تتوافر فيها أدنى درجات القبول والموثوقية، إننا بحمد الله نحن المسلمين لنا منهج خاص متفرد في توثيق الأحداث، وتأريخ القضايا، وعلى رأسها سيرة نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، التي منها نقتبس العبر والعظات، ومن خلالها نستمد هديه عليه السلام في أخلاقه وشمائله ومعاملاته، وسائر أقواله وأفعاله، فهو القدوة الحسنة، والأسوة التي أمرنا بها في قوله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ [الأحزاب:21]

 وكل عام وأنتم رافلون في مكارم هذا الدين السمح الحنيف ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾[الروم:29]

([1]) صحيح مسلم (ح 2889)

([2]) صحيح البخاري باب حب الرسول من الإيمان

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق